وصلنا في الحلقة الأولى، إلى أنّه يستحيل على الله سبحانه أن يترك الإنسان من غير أن يعرّفه بنفسه، لكن: كيف يمكن أن يعرف الإنسان ربّه؟
نكمل في هذه الحلقة تتمة الحوار السابق...
قلت: فكيف نصل إلى تلك المعرفة؟
قال: بالسّيريْن؛ السّير العقليّ... والسّير الحسيّ..
قلت: فهل سرتَ مثل هذا السير؟
قال: لقد رزقني الله في رحلة من رحلاتي مَن اختصر لي كثيراً من الأسفار.. ورزقني الله في تلك الرحلة من الأشعّة الهادية إلى شمس محمّد s ما لا يمكن للعقل وصفه...
قلت: فهل ستحدّثني عنها؟
قال: نعم، فلا يمكن لمن لم يتنعّم بهذا النوع من الأشعّة أن يعرف محمّداًs
ولا يعرف محمّداً s من لا يعرف الله...
اعتدل الشيخ الصالح في جِلسته، وحمد الله، وصلّى على نبيهn. .. ثم قال: في يوم من أيّام الله المملوءة بالنفحات والبركات شعرت فجأة بمشاعر ملحّة تدعوني للبحث عن الله...
بدأني ذلك الشعور، وأنا أنظر إلى المرآة.. وقد أرعبني ما رأيته من شيبٍ يشتعل في رأسي، كما يشتعل النار الهشيم..
لم أحزن في ذلك الحين على دنياً فاتتني، فقد بدأ الزهد يملأ قلبي أنفة من الدنيا ورغبة عنها
ولكنّي عندما تذكرت (الله) امتلأت همّاً وغمّاً...!!!
وقلت لنفسي: ها هو قطار العمر يمضي إلى محطّته النهائيّة ...
جلست مع الكلّ، ولكنّي لم أجلس مع الله لحظة واحدة!!
واتصلت بالكلّ، ولكنّي لم أتصل بالله!!
وبحثت عن الكلّ، ولكني لم أبحث عن الله!!
أصابني ألمٌ عظيم، وأنا أردّد في ذهني المقولة التي سمعتها كثيراً في جميع ديار الإسلام:
إلهي ماذا وجد من فقدك.. وماذا فقد من وجدك!!!!
في تلك الأيام كنت أردّد هذه العبارة كثيراً، إلى أن سمعني مرة أخي، وكان رجلاً من كبار رجال الكنيسة، فاستدعاني إلى مكتبه، وقال: أعرف المشاعر التي تشعر بها... لقد مررت مثلك بهذه المرحلة، ولم يعالجني منها إلا مؤتمر كبير لعلماء اللاهوت.. حضرته.. وهناك عرفت الله، واتصلت به، وسمعته...
قلت: ألا يمكن أن تُكرّر مثل هذه المؤتمرات؟
قال: من حسن حظك أنّ ثمّة مؤتمراً سينعقد قريباً في البلاد التي كانت مقرّاً للشيوعية في يوم من الأيّام... نحن نريد أن نعيد إحياء الإله الذي قام الشيوعيّون بقتله هناك.. وقد أرسلت إليك لأجل ذلك.
قلت: وما دوري في هذا المؤتمر؟
قال: سأرسلك مرافقاً للهيئة العلميّة التي يرسلها الفاتيكان لحضور هذا المؤتمر... وكلّ هذه الهيئة من العلماء الراسخين في العلم ممن تثق الكنيسة بقدراتهم.
قلت: ما أعظم سروري بهذه الوظيفة!
قال: فحضِّر نفسك لحضور هذا المؤتمر، فليس بيننا وبينه إلّا أيّاماً معدودات.
***
كانت الأيام التي انتظرت فيها تلك الرحلة الموعودة طويلة ثقيلة ومُملّة..
كنت أرقب قرص الشمس كلّ يوم في انتظار تلك اللحظات التي أسمع فيها الحديث عن الله...
لأنّني تيقّنتُ أنّه لا يمكن أن أتصل بالله إلّا من خلال معرفتي به...
في عشيّة تلك الرحلة قدّر الله لي أن ألتقي برجلٍ صالح من أهل الحكمة...
قبل غروب الشمس بلحظات كنت بجانب بيتي أسير... فإذا بي ألمحه من بعيد... أسرعت إليه.. وأمسكت بيده، وقلت: ها أنت أخيراً بجانب بيتي.. لا بدّ أن تدخله... لا بدّ أن أتشرّف باستضافتك اليوم...
نظر إليّ مبتسماً، ثم قال: أترى أنّ دخولي بيتك سيسرّك؟
قلت: لا يسّرني شيء مثل دخولك بيتي
قال: لِمَ؟
قلت: أراك رجلاً ممتلئاً بالحكمة.. وليس هناك أشرف من أن تدخل الحكمةُ بيتي
ابتسم، وقال: وكيف تدخل الحكمة إلى البيوت؟
قلت: بدخول أهلها.. إذا دخل الحكماء دخلت الحكمة معهم.
قال: ألا أدلّك على من هو أشرف منّي وأكرم.. وهو أولى منّي بالدخول إلى بيتك؟
قلت: من هو؟
قال: إنّ مهمتي هي الدلالة لا التعريف؛ لذلك سأصفه لك.. لتبحث عنه، ثم تدخله بيتك... بيتك الذي لا تنهدّ جدرانه.
قلت: أهناك بيتٌ لا تنهدّ جدرانه؟!
قال: نعم... هو بيتك الحقيقيّ الذي يسير معك حيث رحلت، ويأوي معك حيث أويت
قلت: أراك تقصد قلبي؟
قال: أقصد قلبك وعقلك وروحك وحقيقتك... هي بيتك الحقيقيّ الذي لا تفارقه ولا يفارقك.
قلت: فصف لي من تراه أهلاً ليسكن فيه.
قال: لا تُدخل بيتك معدوماً.. فالعدم هباء... ولن تنال من الهباء إلا ما يناله الظمآن من السراب.
قلت: فما الثانية؟
قال: إن اجتمعت الحكمة في واحد.. فاكتفِ به، فلن يفيدك التعدّد إلّا التشتّت، ولن يفيدك التشتّت إلّا التمزّق والضياع.
قلت: فما الثالثة؟
قال: لا تُدخل بيتك مدنَّساً.. فالمدنَّس يوشك أن يدنِّسَك، ويدنِّس حقيقتك..
قلت: فما الرابعة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلّا كاملاً اجتمع له الكمال بجميع معانيه.
قلت: فما الخامسة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلا بديعاً اجتمع له الجمال بجميع معانيه.
قلت: فما السادسة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلا من لا ملك لأحد عليه.. وهو فوق ذلك ملك الملوك.
قلت: فما السابعة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلّا عدلاً اجتمع له العدل بجميع معانيه.
قلت: فما الثامنة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلّا رحيماً اجتمعت له الرحمة بجميع معانيها.
قلت: فما التاسعة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلّا الودود المحب الذي لا يريد لك ولا يريد منك إلا الخير.
قلت: فما العاشرة؟
قال: لا تُدخل بيتك إلا المقصود في كلّ الحوائج..
قلت: أراك تشير إلى الله.
قال: إن كان (الله) هو اسم الذي ذكرت أوصافه.. فلا يصح للعاقل أن يغفل عن البحث عنه، أو يغفل عن الاتصال به.
قال ذلك، ثم سار، وتركني كعهدي به.
***
في صباح اليوم التالي قصدت المطار... وهناك رأيت عشرة من الرجال.. كلّهم قد امتلأ شعره بالشيب الذي ملأ شعري... بل إنّ بعضهم أحنَتْ ظهره الأيام، فطأطأ رأسه لها.
سلّمت عليهم... ثم ركبنا الطائرة... وقد قدر الله أن لا نصل إلى مبتغانا؟!!!
لماذا لم تصل الطائرة؟!
هذا ما سنعرفه في الحلقة الثالثة من العدد القادم بإذن الله.