مسيرة رائدة في العلم والتربية
د. حسن خليل رضا:
- من مواليد مدينة النبطيّة، عام 1977م
- حصل على شهادة دكتوراه في الفلسفة، وأخرى في اللغة العربية وآدابها، وثالثة في العلوم التربويَّة...
- أستاذ الفلسفة الغربيّة والمنطق الرياضيّ.
- مشرف على عدد كبير من الرسائل الجامعيّة في الماجستير والدكتوراه.
- أسّس في لبنان جمعيَّة الحِجَى واليراع الثقافيَّة الخيريَّة، ومركز الدراسات والأبحاث العلميَّة...
- ألقى مئات المحاضرات والندوات والبرامج العلميّة داخل لبنان وخارجه، أبرز موضوعاتها:
* فكرة الله عند الفلاسفة.
* أديان العالم الحيّة.
* المعاد بين الفلسفة والدين.
* المذاهب الإسلاميّة في علم الكلام.
* مئة محاضرة في مئة علم.
- من مؤلّفاتِهِ باللغة العربيّة:
* مناهج مفكّري الإسلام في نقد المنطق الأرسطيّ
* النحو وبنية العقليّة العربيّة.
* الحوار السرديّ القرآنيّ.
1 - ماذا يحدّثنا د. رضا عن مسيرته العلميّة؟ وما هي المحطّات المفصليّة في حياته؟
تُختزل الخيارات التي اجتذبتني دروبها خلال مرحلة الطفولة الوسطى في ثلاث:
ـ الدراسة الأَكاديميَّة التي توّجت بحيازتي دكتوراه في الفلسفة والمنطق الرياضيّ، وأخرى في اللغة العربيّة وآدابها، وثالثة في العلوم التربويَّة، وتسنّى لي إنجازها في عمر مبكر، وخطّ عرضيّ، نتيجة تفرّغي التامّ لتحصيل العلم، وشغفي الكبير بالموضوعات التي أتناولها.
ـ الدراسة الحوزويّة التي ربّما كان للمناخ العلميّ الملتزم الذي نشأتُ في رحابه، وللصداقات التي تربط الوالد ببعض العلماء والفقهاء، علاقة بتنمية الرغبة لديّ بالالتحاق المبكر بحلقات الدرس الحوزويّ، ثمّ تدرّجت فيها بإصرار واجتهاد وانقطاع ما يزيد عن عشرين عاماً بين لبنان وإيران، إذ تابعت على امتداد النصف الثاني من هذه المدّة محاضرات البحث الخارج في الفقه والأصول لعدد من فقهائنا الأجلّاء، وقرّرتُهَا بالكامل.
ـ المطالعة الموجّهة التي تملأ الفراغ المعرفيّ، وتجبر النقص في المناهج والمقرّرات المعتمدة في الدراستين السابقتين،
وما فتئْتُ أشعر بصلابة اليد التي قادتني بإخلاص ومحبّة وتواضع إلى رفوف المكتبة العامّة، حيث فتح لي أحد أساتذتي البارعين نافذة جاحظة النور إلى المطالعة الهادفة، وانطلقت في الرحلة التي لا سكون لعربتها ما دمت حيّاً بين الكتب والصفحات والسطور، وذلك في مسارين: أحدهما يتوخّى الإحاطة العرضيَّة بالمعارف، لتكوين نمط موسوعيّ، وذلك من خلال مطالعات عامّة وعشوائيّة في مختلف المجالات العلميّة والأدبيّة والاجتماعيّة؛ والآخر يتوخّى الإحاطة الطوليّة بالعلوم، وذلك من خلال تحصيل المقرّرات العلميّة المعتمدة لمرحلة الإجازة في بعض الدول العربيّة، والخوض في مطالعتها بشكل منهجيّ منظّم، إذ انفتحتُ من خلال ذلك على تخصّصات إضافيّة لا تأخذ طابعاً رسميّاً، سواء أكانت إنسانيّة، أم تجريبيّة، مستعيناً في خضمّ هذه المهمّة بنخبة من الخبراء وذوي الكفاءة الذين لم يضنّوا عليّ البتّة بنصائحهم وتوضيحاتهم وإرشاداتهم.
وثمّة آليّات ثلاث توسّلتها في هذا الإطار: إحداها حفظ الشواهد الاستدلاليّة، والقصائد الشعريّة، والتعاريف العلميّة، والنصوص المقدّسة التي أطّلع عليها، وأستشرف فيها القيمة والأهمّية والجدوى؛ والثانية تلخيص الكتب التي أطالعها في نصوص قصيرة، أو تشجيرات مرمّزة، بحيث سمح لي ذلك بحفظ أفكارها، واستظهارها متى احتجت إلى توظيفها أو الاستشهاد بها؛ وثالثها التباحث أو النقاش مع بعض الأصدقاء المهتمين بالمجالات المعرفيّة نفسها في الأفكار والآراء والطروحات التي تتضمّنها هذه الكتب، بهدف تثبيت محتوياتها في الذهن، والتأكّد من فهم بعض المسائل والقضايا التفصيليّة التي انطوت عليها.
2 - هل استطاع المفكر الإسلاميّ اللبنانيّ تحقيق طموحه الذي كان قد رسمه في شبابه؟
إنّ للطموح طابعاً نسبيّاً، وحضوراً مرناً قابلاً للتعديل وفق المتغيّرات، فهو يلازم صاحبه باطّراد، وينمو مع اتساع مخيّلته، وتنوّع تجاربه، وتزايد وتيرة الإنجاز في حياته؛ لذلك كان من الطبيعيّ أن ترافقني في كلّ مرحلة عمريّة طموحات، وبمجرّد أن أراها دانيةً من سِمْتِ التحقّق، أنسج في الأفق الذي تخفيه مؤشّراتُها طموحاتٍ أخرى في سُلَّم لما تنقطع درجاته، وذلك في نسقٍ متّصل بالخبرات التي تتراكم مع امتداد الوقت، والفرص التي تسنح لي كلّما تخطّيت بعض الصعوبات.
وعليه، إذا صحّ تصنيفي للطموحات العلميَّة والعمليَّة التي صبوْت إليها في مرحلتي الطفولة والمراهقة، إلى قريبةٍ ومتوسّطةٍ وبعيدةٍ، وقرأتُها في ضوء محدوديّة عمر الإنسان، وانحصار الواقعيّ منها بالمنطقيّ القابل للتحقّق، فإنّ بإمكاني أن أعدّ نفسي قد حقّقت من هذه الطموحات القريبَ الذي أمدّني بمقوِّمات الإنجاز وتقنيّاته، وهيّأ لي المسرح الذي يفتقر إليه دوري، ومساحةً تتجاوز النصف من المتوسط الذي تشكّلت من خلاله منظومتي الفكريّة، وتبلورت خصوصيّة المقاربات المعرفيّة التي شرعت بطرحها، وتألّفت من خلاله النخبة التي تتفاعل مع هذا المشروع، ولا أزال ماخراً عباب السعي بإيمانٍ وإخلاصٍ وتفانٍ في سبيل أن أقطف من هذه الشجرة الباسقة ما يملأ سلّتي، ويلوّن نظري، ويُسكت جوعي.
3 - يتّضح من خلال تتبّع نشاطكم الواسع والمتنوّع، وحضوركم الفكريّ والتربويّ والاجتماعيّ أنّ لديكم تجربة عمليّة مثمرة. ماذا تحدِّثنا عنها؟
ترسم مهنة التعليم آفاقاً وفضاءاتٍ رحبةً من التفاعل والانسجام العميقين مع المتعلّمين، لكونها ذات صلة بالمستقبل العلميّ والعمليّ لهم، فمن الطبيعيّ أن يندفعوا إلى خلقِ علاقات بعيدة عن بؤر التوتّر مع أساتذتهم، أو أن تنفتح قابليّاتهم على تلقّف المعرفة التي تُعدّهم لممارسة الأدوار التي يطمحون إليها.
وانطلاقاً من ذلك، كرّست من منبر هذه المهنة أداةً إضافيّة لتثقيف الشباب، وتوعيتهم، وإرفادهم بالمعارف والمواقف والقيم الأخلاقيّة التي تسهم في بناء شخصيّاتهم، وتؤهّلهم لأن يكونوا رساليّين في منطقهم وسلوكهم. وبالرغم من الأثر الواسع الذي خلقته ثنائيّة الدور التي حرصْتُ على مراعاتها في مراحل التعليم ما قبل الجامعيّ خاصّة؛ لأنّ الشباب في هذه المرحلة يكونون عادةً على مستوى عالٍ من الوعي والنضوج والشعور بالمسؤوليّة، إذ تجتذبهم الكلمة الطيّبة، والفكرة المثمرة، والمنطق العقليّ السليم، ويحدّدون بجدّيّة أدوارهم وقناعاتهم وأهدافهم التي يناضلون في سبيلها، وبإمكانهم أن يميّزوا بين المفاهيم، وأن يحاكموا الأفكار، وأن يدركوا أبعاد الطروحات التي تُملى عليهم.
بيد أنّ التجربة التي أظُنُّها ذات أثر أعمق في عقول الشباب ونفوسهم، هي تلك المسيرة التي شرعت بها في مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ عمدت إلى تأسيس منبر علميّ ثابت، أطرح فيه على امتداد العام محاضرات وندوات علميّة وثقافيّة مركّزة، تستهدف الشباب بمختلف فئاتهم، فتبني منظوماتهم المعرفيّة، وترسّخ لديهم القيم الأخلاقيّة والدينيّة، وتجيب على سيول التساؤلات التي تنهال عليهم في خضمّ التجاذبات الفكريّة، والتفاعلات الحضاريّة، وذلك في العصر الذي تداخل فيه العالم الافتراضيّ مع المجال الواقعيّ، وتبوّأت فيه تكنولوجيا الإعلام والتواصل ذروة الحضور الفاعل في حياة الناس بمختلف فئاتهم ومستوياتهم.
وبمحاذاة هذا المنبر العلميّ الثابت الذي اعتنت به «جمعيّة الحجى واليراع الثقافيّة الخيريّة»، شرع الشباب المتفاعلون مع هذا النمط من الفكر بتنظيم محاضرات ولقاءات وجلسات حواريّة في القرى والبلدات التي ينتمون إليها، وفاجأني في كلّ زيارة حجم الجمهور الذي يستجيب لهذا اللون من الموضوعات المطروحة، فاستطعتُ تكوين حالةٍ ثقافيّة متميّزة بطابعها العلميّ، ومنهجها النقديّ، ومنطقها الحرّ، تجمع في سبك قناعاتها بين التراث الدينيّ والحداثة العلميّة، ولا ترى للعلم قيمةً إن جُرّد عن العمل، أو أُبعد عن الأخلاق.
ولعلّ من جملة تلك البرامج التي انتظمت منها محاضراتي، واستهدفت الشباب بصورة خاصّة: فكرة الله عند الفلاسفة، والمعاد بين الفلسفة والدين، والكتب المُقدّسة في أديان العالم الحيّة، والمذاهب الإسلاميّة في علم الكلام، وسواها. وإلى جانبها محاضرات متخصّصة، تجمع بين الرؤيتين الدينيّة والعلميّة، منها: «الامتداد غير الاعتياديّ لعمر الإنسان بين المعتقد الدينيّ والرؤية البيولوجيّة»، «والتجاوز الخارق لآليّة انسياب الزمان وتدرّجه في التصوّر الدينيّ، وموقف فيزياء الكمّ منه»، وغيرهما.
كما خصّصت للمناسبات التي تحظى باهتمام الشباب مساحة جديرةً بالعناية، لتكون المناخ الرساليّ المناسب لطرح أفكاري ومواقفي إزاء الموضوعات المرتبطة بها.
4 - ماذا يُحدِّثنا د. حسن رضا المفكِّر ـ الشاب ـ عن تجربته مع الشباب الجامعيّ؟ وما هي برأيكم التحدّيات التي تواجه الشباب في هذا العصر؟
بدأت تجربتي مع الشباب الجامعيّ منذ كنت طالباً في مرحلة الإجازة، إذ أتاحت لي خلفيّتي الحوزويّة من ناحية، وقريحتي الشعريّة من ناحية أخرى، أن أتبوّأ صدارة المجلس، وأن أشارك في اللقاءات الشبابيَّة داخل الجامعة وخارجها، فتمكّنت من فهم عقليّة الشابّ الجامعيّ وهمومه والأسئلة التي تقلقه، وأدركت حجم الدور الرساليّ الذي ينتظرني على هذا المستوى، وخصوصاً أنّ للجامعيّين وعيّاً نقديّاً من لون خاصّ، يدفعهم إلى فهم القضايا بالاستناد إلى المكوّنات المعرفيّة التي اكتسبوها، وطرح الإشكاليّات التي تفتقر باستمرار إلى معالجات موضوعيّة، ومقاربات حيَّة، ولا سيَّما تلك التي تتّصل بالتراث الدينيّ، سواء أكانت هذه التصوّرات النقديّة وليدة تجاربهم، أم نابعةً من قراءاتهم ومطالعاتهم لأبحاث المستشرقين ونقّاد الفكر الدينيّ.
بيد أنّ هذه التجربة اتسعت وتعمّقت عندما حصلْتُ على شهادة الدكتوراه، فقد سمح لي ذلك بأن أمارس دوراً أكثر فاعليّةً، وأن أكون على تماسّ مباشر مع الشّاب الجامعي في رحلته العلميّة والبحثيّة والمهنيّة، فثمّة كفايات ومعارف وطروحات عليه أن يتلقّفها من محاضراتٍ ذات صلة بمستقبله العلميّ، ومشروعه العمليّ، وإذا أهملها، أو توانى عن تحصيلها، فإنّه يخسر في هذا المجال رتبة المتخصّص، والطموح الذي طالما راوده.
وإزاء ذلك، من الطبيعيّ أن يتأثّر الطالب الجامعيّ ببعض المفاهيم والتصوّرات والمواقف التي يطرحها أستاذه، وأن يندفع إلى طرح هواجسه وأسئلته واستفساراته عليه بجرأة وثقة، وخصوصاً أنّ انفتاحي على المتعلّمين لديّ يكاد أن يكون مثاليّاً، إن لجهة احترامي لهم وتقديري لما يطرحونه، أم لجهة شعوري بالمسؤوليّة تجاههم، واستمتاعي بخدمتهم. وهذا ما دفع فئة كبيرة منهم إلى متابعة محاضراتي حتّى بعد تخرّجهم، والاستمرار في التواصل معي كلّما تسنّى لهم ذلك، فضلاً عن حرصهم على قراءة أبحاثي ودراساتي وكتبي العلميّة، والاستماع بشغف إلى محاضراتي ولقاءاتي المسجّلة.
وإذا كانت التحدّيات التي تواجه الشباب الجامعيّ كبيرة ومتشعّبة، فإنّها تتّسم بالتعقيد والتأزيم اللذين يتضاعفان أمام تحوّلات العصر الراهن، وهيمنة العقل النفعيّ، واتساع الفساد السياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ على مستوى الفرد والأسرة والدولة. فهم على هذا الأساس يعيشون أمام مغريات حادّة، يمكن أن تسلبهم طاقاتهم ومواهبهم وقدراتهم، أو أن تجبرهم على سلوك يتنافى مع قناعاتهم، أو أن تجعلهم فريسة التقليد والانقياد الأعمى لاتجاهات تصادر مواقفهم، وتزيّن لهم ضروب الشرّ بألوان السعادة والبهجة في زمن مثقل بانقلاب المفاهيم، واختلاط الحقائق.
فالتحدّيات الفكريّة تتولّد من فلسفات دخيلة أنيطت بها مهمّة تقويض الهويّة، والحيلولة بين المرء وتراثه، حيث تُعِدُّ متلقّفها للانبهار أمام مقاربات يغمض عينيه في محرابها من غير أن تكون له يد في إبداعها أو نقدها أو تطويرها، ليغدو الشاب بذلك ريشة في مهبّ تشكيكها بعقيدته وقيمه وتراثه، بدلاً من أن تقابلها خيارات فكريّة أصيلة ناظرة إليها شكلاً ومضموناً.
وهي تربويّة سلوكيّة بوضعها أمام هذا الشابّ نماذج ومشاهد تزيّن له أنّ سعادته في اقتفائها، والتنكّر للقيم الاجتماعيّة والدينيّة والأخلاقيّة التي اشتقّها من بيئته، ولعلّ في العالم الافتراضيّ ووسائل التواصل الحديثة التي يتوسّلها، الغنى والكفاية في توفير تلك البدائل التي تمدّه بأنماط سلوكيّة، تخاطب بعده الغريزيّ، وتلقّنه كلاماً وفعلاً يمحوان طابع شخصيّته، بمقدار ما تخدم إيديولوجيّات أخرى منافية لانتمائه التربويّ.
كلّ ذلك يجعل من الدور الذي يمارسه روّاد الإصلاح تجاه شبابنا الجامعيّين وغيرهم عملاً مقدّساً، ومسؤوليّة إنسانيّة كبرى، وخصوصاً أنّ مهمّةً على هذا المستوى من الخطورة تتطلّب تظافر جهود الغيورين جميعاً من أجل مستقبل الأمّة، وإنقاذ الفئة التي يراهنون عليها، وليس لذي كفاءة أو قدرة أن يرمي محراثه متخلّياً عن هذه الرسالة الإلهيّة والإنسانيّة على حدّ سواء.
5 - لديكم تجربة علميّة رائدة، وتُدرّسون في الجامعات اللبنانيّة الفلسفة، والفقه، والبحث العلميّ... وغيرها. ما هي رؤيتكم الاستشرافيّة للشباب، وماذا تتوقّعون أن يقدّموا لمجتمعهم وبلدهم؟
كثيرون هم الشباب الجامعيّون الذين ينكبّون على الدراسة بجدّ واجتهاد وطموح، ويظهرون ضروباً من التفوّق والإبداع، بالرغم من ارتفاع نسبة البطالة، ومحدوديّة الحاجة إليهم في سوق العمل، وعدم تقدير الدولة لمهاراتهم وقدراتهم، بدليل أنّ قلّةً قليلةً منهم أتيحت لهم فرص خارج الوطن، فأبدعوا في إنجازاتهم، ونالوا تقدير الدول والمؤسّسات التي عملوا فيها.
فعوامل الإحباط قائمة، بيد أنّ طموح الشباب الجامعيّ يصارعها بعزم وقوّة وإصرار، ويبتكر الوسائل المذهلة الذي يحقّق من خلالها ذاته، ونراه يقنع بالضئيل من الأجر لعلّه يكمل دراسته، ويطوّر إمكاناته. وجدير بالالتفات ما نعاينه من تضحيات الأهالي بالغالي والنفيس بغية أن يتابع أبناؤهم التحصيل العلميّ في الجامعات، إيماناً منهم بأهمّية هذا الخيار وقيمته، وبأنّ الخلاص بالفعل هو في انتهاج هذا الدرب.
وعليه، فإنّ شباباً على هذا المستوى من الطموح، وبهذه الإمكانات والطاقات الصارخة، لا يمكن إلّا أن يفتح لهم الإنجاز جناحيه، سواء أتمسّكوا بأرضهم ووطنهم، أم انتقلوا إلى بيئات أخرى؛ إذ إنَّ ما حقّقته الطفرة التكنولوجيّة في مطلع القرن الحادي والعشرين، هيّأ فرصاً لم تكن متوقّعة، وخيارات يمكن أن تخرجهم من أزمتهم، أو من قسوة الظروف التي تكتنفهم.
وربّما يكون من الصعب أن يستفيد المجتمع والوطن من هذه الموارد البشريّة الواعدة، وأن يساهما في تطويرها وإدارتها والتخطيط لها، إن لم يعمدا إلى بناء دولة عادلة، وإرساء فلسفة تربويّة هادفة، بعد محاربة الفساد السياسيّ والاجتماعي والاقتصاديّ الذي أنهكها، وحوّل أحلامها إلى رمادٍ. وهذا في الواقع مشروع يحتاج إلى عقليّة علميّة صادقة ومنفتحة، وإرادة جماعيّة صلبة، تتجاوز الحدود الوهميّة التي رسمها المستفيدون من عبثيّة هذا التراجع والانحطاط.
6- ما هي نظرتكم المستقبليّة للشباب العربيّ؟
ليس من الأدبيّات العلميّة التعميم والإطلاق، ولا إهمال الفروق التي تتمايز في ضوئها الأفراد والجماعات، ولكنّ ثمّة نخبةً واسعة من الشباب العربيّ القابع داخل الحدود الوهميّة لأوطانه، يكادون أن يكونوا مذهلين على صعيد الوعي السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذي يتحلّون به، ناهيك عن البراعة في المجالات التخصّصيّة المتنوّعة التي تُعرب عن قدرات متميّزة، وطاقات هائلة، وكفاءات جديرة بالتقدير، بحيث لو أتيحت لهم الظروف المناسبة، لأفاضوا على أمّتهم بالخير الذي يفوق التصوّر، ولشكّلوا مورداً تنخفض أمام قيمتيه المادّية والمعنويّة قيمةُ الموارد النفطيّة.
غير أنّ المشكلة الحقيقيّة على مستوى عالمنا العربيّ تتجلّى في شقّين: أحدهما ضعف إرادة التغيير أمام السلطة السياسيّة التي أحكمت في الأزمنة السابقة قبضتها على مفاصل الحكم، وقيّدت من حدود المشاركة السياسيّة فيه، فغدا وعي الشباب عملاقًا أمام إرادتهم، وطموحهم غمامة فوق صلادة واقعهم. والآخر تحيّز فئة من هؤلاء الشباب؛ سواء أكانوا واعين بما يُقْدِمُون عليه، أم منقادين غرائزيّاً إلى زعماء فاسدين، وحكّام طغاة، وسياسيّين مخادعين، بحيث يصبحون أدوات طيّعة في أيدي هؤلاء، ينفّذون أوامرهم، ويحافظون على مسلوباتهم، ويقدّمون لهم طقوس الطاعة، غير آبهين بما سيؤول إليه مصير البلاد، ولا مبالين بما يتركه ذلك في جسد الأمّة، وغنيمتهم من هذا الموقف إشباع مؤقّت ومحدود للغرائز والشهوات.
وبالرغم من وجود قيود وحدود، أساسها إبعاد مخيّلة الشباب العربيّ عن الاشتغال بالسياسة، وحصرها بطبقة محدّدة، وإحباط أحلامهم بالتغيير، وتوجيههم نحو مجالات أخرى، لا تشكّل خطراً على السلطة القائمة، ولا تُسقط الفساد الذي يغرسه أعلامها، فإنّ لهذه النخبة الواعية من الشباب دوراً واعداً وعميقاً في إحداث تحوّلات بنيويّة، برزت إرهاصاتها في غير مناسبة، ولكن آثارها الفعليّة لا تشاهد إلّا بعد عقود، وفي ظلّ تراكمات طويلة العنق إذا صحّ التعبير.
7 - ما هي الرسالة التي يوجّهها د. رضا للشباب؟
أدعو الشباب إلى أن يدركوا حجم الرهان الذي تضمره الأمّة تجاهههم، وأن يثقوا بالقدرات التي حباهم الله بها، وأن يكونوا على قدر من المسؤوليّة، بعيداً عن الارتهان والتبرير والانقياد للظلم والفساد السياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ، وذلك عن طريق الاحتكام إلى العقل والمنطق والعلم الحديث، والتّمسك بالهويّة والصائب من التراث الثقافيّ، وصيانة مستقبلهم بالقيم الأخلاقيّة والدينيّة؛ لأنّهم الثروة الحقيقيّة لأوطانهم، فلا ينبغي أن يكونوا أداة طيّعة في يد القوى العالميّة، تستغلّهم في تنفيذ سياساتهم، وتُبعدهم عن التعايش والانسجام مع إخوتهم في الوطن والدين والإنسانيّة.
كما أحثّ كلّ واحد منهم على بناء منظومته المعرفيّة بعناية وحرّيّة وإتّقانٍ، وأن يعمل على تحديثها وتطويرها ومحاكمتها مادام قلبه نابضاً بالحياة، وذلك عبر البحث والحوار والانفتاح على الفكر الآخر، واستغلال الوقت في مطالعة المعارف والعلوم، ومتابعة المحاضرات والندوات العلميّة المثمرة التي تزيد من ثقافته، وتفيض عن دائرة اختصاصه الدقيق، وخصوصاً أنّ وسائل التواصل الحديثة جعلت فرصة الحصول على أسباب المعرفة والمشاركة في الفضاء العموميّ متاحة لجميع الطبقات الاجتماعيّة.
وأُحذّر في السياق نفسه هذه الفئة العمريّة من الانسلاخ عن هويتها الشخصيّة، متقمّصة أنماطاً أخرى من السلوك، ومن الانقطاع عن واقعها الحقيقيّ، مسحورة بالمجال الافتراضيّ الذي يمكن أن يسلبها حضورها في بيئاتها، بمقدار ما يمكن أن يكون منبراً رقميّاً للتعبير عن مشاكلها وهمومها وقضاياها.