-----------

مقابلة مع البروفيسور رشيد بن عيسى

{ زينب عقيل }

مقابلة مع البروفيسور رشيد بن عيسى

من هو رشيد بن عيسى؟

أنا من البربر في الجزائر. نحن نقول بأننا «المرابطون» في اللغة البربريّة، وأنا من أسرةٍ من الأشراف.

عندما كنت صغيراً في عمر ستّ سنوات، كنتُ أُلبسُ «البرنس» وأعلم ما لا يجوز لي. ذلك أنّ الانتساب إلى أسرةٍ من الأشراف، يعني أن تكون مقيّدًا بعاداتٍ وتقاليدَ لا تُقيِّد غيرك في القبيلة. بعض الأطفال في المدرسة كانوا يسبّون الدين، ويسبّون الوالدين، لكن عندما تكون ابن شريفٍ، فهذا لا يجوز.

نشأت في زمن  استعمار فرنسا للجزائر. ولم يكن ثمّة مدارسُ عربيّةٌ. وحفظت قدرًا من القرآن الكريم علّمنيه الوالد (رحمه الله)، الذي كان تلميذاً للشيخ بن بادبس، زعيم الإصلاح في الجزائر. ثم انتقلت إلى ولاية «وهران» لأنّ فيها مدارسَ، حيث كبِرت هناك.

 وفي مرحلة الثانويّة، كانت فرنسا قد افتتحت ثانويةً تعلّم اللغة العربية التي لم تكن تُدرَّس في الجزائر. وعندها انتقلت من ثانوية تبعد عني 20 كم إلى ثانوية تبعد 500كم طلباً للغة العربية. وذلك لعلمي بأنّ العربية هي لغة القرآن ولغة الجنّة. فذهبت وكرّرت سنتين دراسيّتين في سبيلها.

وبعد الاستقلال، كانت الجزائر قد حصلت على مِنح لجميع البلدان، فلم أذهب إلى أميركا أو غير البلدان. بل جئت إلى دمشق لأتقن العربيّة أكثر. وعندما رجعت من سوريا، ذهبت إلى جامعة الجزائر لأسجِّل من جديدٍ. فأُعجِب بي مدير الجامعة وكان هو الأستاذ مالك بن نبي.

يومها دخلتُ عليه عند الساعة العاشرة صباحاً. وعند الساعة الواحدة طلب لنا الطعام، وعند السادسة ذهبت معه إلى بيته وبتُّ معه. ومنذ ذلك اليوم إلى يوم وفاته (رحمة الله عليه) لم أفارقه. كنتُ أبيتُ عنده مرتين في الأسبوع. وفي كلّ يوم سبتٍ كنت أجمع له النّاس. وكان أمراً صعباً جدّاً في ذلك الوقت أن تجمع الناس حول مالك بن نبيّ. ذلك أنّ الماركسية والشيوعية كانت منتشرةً ومتسلطةً جدًّا، وكل من كان يتكلم عن الدين، يُسمّى رجعيًّا. فلم تكن مهمةً سهلةً أن أتّصل بمئة شخصٍ في الأسبوع، وفي آخر الأسبوع يأتي شخصٌ واحدٌ.

ما سبب هذا الرابط بينك وبين مالك بن نبي، لدرجة أنه من أوّل يوم تعرفت عليه بتّ عنده؟ 

كنت قد قرأت له كتاب «الظاهرة القرآنية»، وكنت معجبًا جدًّا بكتاباته. وعندما التقيته ناقشتُه فيها. وحدثته عن تجربتي في مِصر وفي سوريا وكل اهتماماتي وكلّ ما تعلّمتُه.

سوريا كانت منفصلة آنذاك وتزدحم فيها الأفكار. كنت أتعلم العربيّة في المظاهرات. لقد كنا عنصريين في ذلك الوقت ونريد وحدة العرب. وكانت شعاراتنا: «أخونا في بغدادي.. خلي الرشاش ينادي» و«أعلنها عربيّة لا حدود ولا سدود.. خلاص يا سعود» وأيضًا: «شعب واحد لا شعبين.. خلاص يا حسين.. من مراكش للبحرين» وغيرها.

حدّثته عن كلّ هذا فتبنّاني.

 وبعد ذلك، بدأت المسيرة الفكرية. الأستاذ «بن نبي» كان ولّادًا للأفكار. يعلّمُنا كيف نفكّرُ. فنحن نتكلّم ويستوقفنا في كل جملة.

ما أهمّ الأفكار التي كنتم تتبنونها في تلك الفترة؟

الاستعمار فايروس. لكن لماذا الفايروس يمسك عندنا ولا يمسك عند غيرنا. إذا رأيت طفلاً يركب فيلاً فمن تلوم؟ هل تلومُ الفيل الذي وزنُه ألف كيلو، أم تلومُ الطفل على امتطائه الفيل.

 إذا رأيت بريطانيا وعدد سكانها ثلاثون مليوناً،  وهي تستعمر الهند وعدد سكانها ثلاثمائة مليون، عندها من تلوم؟ كان القول السائد لو رمى سكان الهند في وقت واحد دلو ماء لغرقت بريطانيا.

لكنّهم غلبونا بالعلم، ولا بالكمّ، بالآداب والثقافة. فيوم نتعلّم ونتثقّف ستكون لنا قوّةٌ. لقد استحدث بن نبي مفهوم «القابليّة للاستعمار»، ولامَهُ الكثير من الناس. زعموا أنّه بهذا المصطلح يبرّر الاستعمار، وكان جوابه: “لماذا جاء الاستعمار إليكم ولم يذهب إلى غيركم؟ لماذا احتل الأتراك العالم العربي كلّه في خمسين سنة بين عام 1500م و 1550م؟ هل لقدرةٍ منهم أم لضعفٍ من العرب؟ عام 1492م كان سقوط غرناطة في الأندلس. وبعد 20 سنة احتل الأسبان

الجزائر ومدنًا أخرى، واحتلّ البرتغاليون مدنًا

في مِصر. فأرسلنا إلى السلطان عبد الحميد نسأله المدد والعون. فأرسل إلينا “برباروس” و”خير الدين” أخوه لتنظيم الجهاد. وهم الذين نظموا الجزائريين ونظموا الجيوش لمحاربة الأسبان وإخراجهم. وهذا ما وقع في كل البلدان. الحقيقة هي أنّ العثمانيين قد أخّروا سقوط العالم العربي في يد الاستعمار. والدليل أنه لم يكن لهم وظيفة تحذيرية، بل كانت وظيفة عسكرية من خلال الدفاع على كلّ الجبهات. وعندما ضعفوا انسحبوا عام 1830م،  فدخلت فرنسا علينا. وبعدها دخلت على المغرب العربي. ثمّ خلال الحرب العالمية الأولى حرّك ما يسمى بلورنس العرب الثورة العربية التي كانت بأمر وبإيعازٍ من الانكليز. واستولت فرنسا وبريطانيا على لبنان وسوريا والعراق.

عرّف لنا فكرة

«قابلية الاستعمار» بجملة.

القابلية للاستعمار هي اجتماع الشروط الاجتماعية والثقافية والنفسيّة، التي تجعل بلداً ضعيفاً لا قيمة له بمواجهة المتحدي.

حضرتك متخصص وباحث في علم اللغات وتجيد إحدى عشرة لغة ما هي اللغة الأحب إلى قلبك؟

قيمة كلّ لغة بقومها، إلا اللغة العربية قيمتها أعلى من قومها لأنها لغة القرآن. عندما ذهبت إلى الحج دعوت الله عزّ وجلّ باللغة العربيّة. ولكن في لحظاتي الوجدانيّة تكلمت بلغتي البربريّة وبكيت، لأنها اللغة التي سمعتها في طفولتي. مضت ساعاتٌ وأنا أدعو بالعربية ولكن عندما تكلمت بلغتي بكيت. لكنّ اللغة الأحب إلى قلبي هي اللغة العربية.

ماذا أضاف رشيد بن عيسى لعلم اللغات؟

تعلّمت اليونانيّة واللاتينيّة والعبريّة التوراتيّة بالإضافة إلى اللغة الألمانيّة وغيرها. وعُلِّمنا أن اللغة اليونانيّة واللاتينيّة تُشتق منها كل اللغات. لكنّ لُغتي الفينيقية الضاربة في القدم، جعلتني أكشف عن أكثر من 15 ألف جذر كلمة يونانيّة مشتقّة من اللغة العربية، وهذا دليلٌ على أنّ اللغة العربية هي أقدم اللغات.

ما رأيك بمستوى اللغة العربيّة لدى الأكاديميّين والطلّاب اليوم؟

ذهبت مرّة إلى العراق للمشاركة في ندوة «لتيسير» اللغة العربية. تكلّم فيها أربعٌ وخمسون أستاذًا جامعيًّا. ثلاثةٌ منهم فقط لم يخطئوا في النحو، والواحد والخمسون الآخرون رفعوا المجزوم وجرّوا المرفوع. أنا زُلزِلتُ. لأنّني في بغداد النحو العربي. ففهمت حينها دعوتَهم إلى «التيسير».

أنا لا أذكر أن معلّمتي للغة الفرنسية في الصفوف الابتدائيّة كانت قد أخطأت خطأ نحويّاً. ذلك أنها لو أخطأت سوف تُفصَل. بسبب وجود مفتّشين يفتّشون التعليم.

ما هي شروط النهضة اليوم للشّباب المسلم؟

شروط النهضة أن نأخذ للعصر عدّته وهي المادة العلميّة. التحديات التي يواجهها الشباب اليوم كلها تحديّاتٌ بالعلم، بإنشاء ثقافةٍ. والأستاذ «بن نبي» له كتابٌ عنوانه «مشكلة الثقافة» يرى فيه أنّ الثقافة هي: ذات أبعادٍ عقيديّةٍ وأخلاقيةٍ وجماليّةٍ. أنصح بقراءته.

ماذا تقول للشّباب المسلم لمواجهة التحديّات الفكريّة؟

عليكم بنظْمِ أمركم، بمعنى تدبير أشيائكم، وهو المنطق العملي النفعي. أقول: «خض غمار العلم ولا تَهَب».