-----------

حوار مع البروفيسور خليل احمد خليل

{ ريحانة زعيتر }

حوار مع البروفيسور خليل احمد خليل

مترجم موسوعة «لالاند» الفلسفية

«نحن ذاهبون باتجاه نهضة كبيرة جداً»

على منضدة خشبيّة متواضعة، مطلّة على شبّاك يدخلُ منه هواءُ شجرةِ الكينا العتيقة، يجلس خليل أحمد خليل في شقّته الكائنة في أحد أحياء بيروت. تقبع خلفه وعلى امتداد حائط الصالة، طولاً وعرضاً، مكتبةٌ  تعبِق منها  رائحةُ الكتب القديمةِ ممزوجةً بتلك الجديدة. تحتضن اثنين وستين مؤلّفاً من رصيده، وتسعاً وستين ممّا عَمَد إليه من المعرّبات، إضافةً إلى موسوعة لالاند الفلسفيّة.

كشاهدٍ من الزمن الجميل نجا، تتمركز قرب المنضدة كنبةٌ صغيرةٌ لم تصِبها الحداثة. جلستُ عليها إلى جانب أستاذنا لنغوص معاً في الذاكرة إلى بدايات السيرة ومحطّاتٍ أساسيّة من التجربة. فتأسّى خليل أحمد خليل حينًا وبكى تارةً، وشعر بالعزّ والفخر طورين. 

وفيما يلي نصّ المقابلة:


من هو خليل أحمد خليل؟

هو لا يعرف، لكنه تعلّم أن يعرف أين يكون. ولدت في 12 تشرين الثاني عام 1942 في بيت أحزان. لأنّ أمي صُدِمت بموت اثنين من إخوتي. كنت ابن مدينة صور الذي نشأ في القرية، فتقريّت. أي تعوّدت على الكرم الريفيّ والحياة الكريمة، وأنّ الكرامة فوق كلّ اعتبار، والأمانة أيضاً. فقد عشتُ المرحلة الثانية من طفولتي مع جدّتي سعدى الشاميّة في بلدة قانا، وفي المرحلة الثالثة من الطفولة ترعرعت في كنف عمّتي ميلاء.

تعلّمتُ في مدرسة الإنكليز في صور، وهي من أقدم الإرساليّات في المدينة. ثمّ تلقّيت تعليمًا قرآنيّاً في كنف عمّي الشيخ محمّد علي الصايغ، ودرستُ قواعد النحو الآجرّوميّة. فتعلّمت الفصاحة واللفظ العربيّ المتين. ثمّ دخلت مدرسة حناواي الرسميّة، وتعلّمت فيها اللغة الفرنسيّة في الصفّين الأول والثاني من المرحلة الابتدائيّة. عُدت إلى والدي في صور وعمري عشر سنوات وتسجّلت في المدرسة الجعفريّة. وهناك أنهيت الشهادة الرسميّة.

كشأن كلّ العامليّين، جئنا من قاع الفقر. الأمر الذي أعطانا نوعاً من الصلابة والقوّة والفصاحة، والاعتماد على النفس، كانت حياتنا مقاومة وكدحاً. كما أنّنا عشنا في بيئة منفتحة على جوارها. وقد عشنا النكبة، والهجرة الفلسطينيّة. وكنّا شعباً واحداً بقضيّتين متشابهتين.

هل كنتم واعين بأنّكم جزءٌ من قضيّة كبيرة؟

نعم، من خلال المدرسة الجعفريّة التي كانت تحتضن أحزاباً متعدّدة، وحركات سياسيّة، حركة البعث والقوميّ السوريّ والقوميّين العرب والشيوعيّين. كلّها كانت موجودة في مدارس مدينة صور وسرعان ما وعينا القضيّة.

متى كان أول نشاط سياسيّ في حياتك؟

أوّل خطاب سياسيّ كتبته في حياتي كان عام 1956 في الرابعة عشرة من عمري . قلت للناظر في المدرسة الجعفريّة أريد أن ألقي كلمة بمناسبة الثورة الجزائريّة وذكرى وعد بلفور. فطلب من الصفوف أن تنتظم في الملعب. وألقيت كلمتي. كنّا نتدرّب في المدرسة على الخطابة. وفي الجامع على الاصطفاف والانضباط والثبات.

كيف عاش خليل أحمد خليل مراهقته؟

لقد كنتُ شقيّاً، لدرجة أنّني رسبت في الدورة الأولى في صفّ البروفيه. لكنّها كانت بمثابة صدمة إيجابيّة. فقد عاقبت نفسي بالذهاب الى مدرسة داخليّة في بحمدون – المعهد العربيّ. فالذكيّ من يحاسب نفسه. والنقد الذاتيّ نوع من الذكاء.

الواقع أنّ جيلنا تشكّل من قوّة جاءت من صلابة المعاناة. ومأساة الحسين حاضرة في ذهننا جميعاً. فكيف يتربّى المرء على مأساة كهذه ولا يكون تراجيديّاً وبطوليّاً في حياته.

في تلك السّنة درست صفي الأول الثانويّ والثاني الثانويّ في عام دراسيّ واحد. وعُدت إلى صور قبل انتهاء العام الدراسيَّ. وكنتُ الوحيدَ الذي نجح في امتحانات البكالوريا؛ القسم الأول.

وبعدها درست الفلسفة في صيدا. وعلى الطريق ذهاباً وإياباً قرأت 75 كتاباً. هكذا أمضيت مراهقتي.

ما هو أول كتاب قرأته؟

أوّل كتاب قرأتُه عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكان لـ «نهرو»: «لمحات من تاريخ العالم». وكتاب آخر لصبحي محمصاني: «الأوضاع التشريعيّة في البلاد العربيّة».

هل أثرت باكورة قراءاتك في توجهاتك الفكرية والسياسية؟

أثّرت طبعاً في مرحلتها، هذان كتابان من 1500 كتاب تقريباً قرأتهم في حياتي.

لو كان لديك الفرصة لتغيير شيء ما مرّ في حياتك فماذا سيكون؟

لا أغيّر شيئاً بل أقوم بأشياء جديدة.

ما أكثر ما يشعرك بالفخر؟

أنا إنسان متواضع، لكن تسعدني إنجازاتي. وأولها ترجمة «موسوعة لالاند الفلسفية». من خلال هذه الموسوعة حاولنا نقل العقل الأوروبي والعقل العالميّ إلى اللغة العربيّة. لكن المؤسف أنّ العرب لم يجهزوا بعد. لكنّي على يقين أن ما نقوم به الآن سيؤتي ثماره بعد حوالَى خمسين سنة أو مئة سنة تقريباً. لأنّ هذه البلاد سوف تحترق، هذا العفن كله سوف يزول.

أمّا في المؤلّفات، فأنا سعيد بإنجاز مجموعة كتب تأسيسيّة مهمّة: «مضمون الأسطورة في الفكر العربيّ»، «المرأة العربيّة وقضايا التغيير». وكتبي «العقل في الاسلام» و»عقل العلم» و»عقل الوهم» هما الخلاصة والاكتشاف.

هل جهد موسوعة لالاند جهد شخصي أم بالتعاون مع مؤسسات؟

لقد كانت جُهداً شخصيّاً. مكثت فيه أربع سنوات بمساعدة المرحوم أحمد عويدات  صاحب دار عويدات. فهو الذي موّل المشروع بعد أن رهن شقّته بمئة مليون ليرة. وكان من المفترض أن يُشاركني الترجمة مجموعة من الأشخاص لكنّهم طلبوا أسعاراً خياليّة.

ما هو الكتاب الذي قرأته وهو المفضل لديك؟

ليس لديّ كتابٌ واحدٌ قرأتُه إلّا القرآن. وما زلت أقرأه. وكما ذكرت، فأنا قد قرأت حوالَى 1500 كتاب. حيث أعمد إلى الكتاب فأتصفحه. أقرأه قراءة صحفيّة إذا لم يجذبني. وإذا كان من الروائع أقرأه مرّة ومرّتين وأحيانًا أكثر. أقرأ خمسين صفحة في الساعة.

كيف يمكن أن يقرأ أحدنا خمسين صفحة في الساعة!

من خلال التركيز. وللحصول عليه، لا بدّ من النوم باكراً والاستيقاظ باكراً. أنا أُعمِل   ذهني من الخامسة صباحاً حتّى الثامنة. ثلاث ساعات وأتوقّف. هذان الأمران يُريحان الدماغ وتحصل من خلالهما على الشفافيّة. لأنّ الذاكرة إذا لم ترتح، لا تعطي.

ما العمل الذي أردت إنجازه ولم تتمكّن من تحقيقه بعد؟

الحمد لله، حققت كل طموحاتي. وأهمها عائلتي.

ما المهارة التي أحببت أن تتعلّمها لكن لم تستطع؟

أحببت أن أكتب بخطّ أجمل من خطّي. وأن أتعلّم الرسم والتخطيط. ولديّ محاولات في الرسم.

لماذا اخترت ميدان علم الاجتماع؟

ميداني المعرفيّ واقع بين الفلسفة وعلم الاجتماع. دخلتُه لأنّي أُريد أن أفهم: موقع الإنسان وطبيعة وجوده في المجتمع.

هل فهمت؟

اكتشفت أنّ الإنسان كلّما رجع إلى الطبيعة وإلى فطرتِه كان ذلك أفضل له. وأنّ لأيّ إنسان في هذا العصر الحقّ، في أن يكون أميّاً أو متخلّفاً أو فقيراً. فربّما سيكون أكثر سعادة، ويُعمّر أكثر.

مَن مِن المفكّرين كان له الأثر الأكبر في توجُّهاتك في مرحلة الشباب؟

كلّ يوم كان له شأنه وثقافته. في المرحلة السارتريّة، كُنت أدرس في الجامعة في فرنسا. بقيت مخدوعاً بها وبالوجوديّة، إلى أن قرأتُ كتاب سارتر: «تأمّلات في المسألة اليهوديّة» (1948). كان الكتاب بمثابة إعلان تأييد لإسرائيل. فشعرت بالغَبن؛ وتساءلت كيف نحن العرب نترجمُ له! وتفاجأت في الازدواجيّة: كيف هو مع ثورةِ الجزائر وحقوقِ الشعوب من جهة، ويؤيدُ استعمارَ فلسطين من جهةٍ أخرى؟ تأمّلت جيّداً في الكتاب فوجدتُه ردّاً على كتاب ماركس: المسألة اليهوديّة (1940). عندها طبعتُ كتاباً تحت عنوان: السارتريّة وتهافت السياسة والأخلاق. شعرتُ أنّي كشفتُه وأصبح ورائي.

وبعد مرحلة سارتر؟

أصبح لديّ القُدرة على النقد. أصبح العقل النقديّ لديّ متيناً لدرجة أنّني لم أعد أنبهر بأحد. دخلت بعدها في مرحلة أبحاثي في السوسيولوجيا، وبدأت بجمع الوقائع والحوادث.

هل كان ثمّة منعطف أساسيّ في حياتك؟

طبعاً. نحن جيل النكسة، عام 1967 كنت طالباً. ورأيت كيف تُقزّم الأيديولوجيّات والاعلام الأيديولوجيّ العدوّ. تلك الفترة كانت فترة نقد التجربة، للرئيس المصريّ جمال عبد الناصر، وللسياسات العربيّة.

بعدها جاءت الثورة الطّلابيّة في فرنسا عام 1968. وقد أدركت أثناءها أنّ العمل السياسيّ الفرديّ ليس له معنى. فإذا أردتَ أن تعمل في السياسة فعليك أن تنتمي إلى حزب. إذا لم يكن ثَمّةَ حزب، فلتؤسِّس حزباً لك.

تلك المرحلة كانت مرحلة كمال جنبلاط. وقد تعرّفتُ إليه. وجمعتنا حوارات ونقاشات مدّة ستة أشهر، انتسبت على إثرها إلى الحزب. وعندما قُتِل، اعتزلتُ العمل السياسي، وتفرّغتُ للعمل الأكاديميّ. الواقع أنّ السياسة أصبحت خلفي.

ما هي أكبر مخاوفك على عقل الشباب العربي اليوم؟

يأتي الحديث هنا عن عقلِ الأجيال. هذا الجيل يواجه الحريق الذي سيتّسِع ليَشمَل كلَّ الأنظمةِ المُتعفّنة. هذا الحريق لا بدّ منه. ثمّةَ غابة سوف تحترق. من بعيد سوف تُخمّن أنّ الغابة احترقت وانتهينا. لكنّ جذوراً وبذوراً في الأرض، ستخرُج لتصنع المجد، عندما تمطر.

إلى ذلك، ثمّة مسألة مهمّة جدّاً لا يريد أحد أن يقرأَها، مع أنّ مجموعةً من المُفكّرين الأوروبيّين أكّدوها. في الكتاب الذي ترجمتُه لتيري كوفيل: «إيران والثورة الخفيّة»، يقول كوفيل إنّ ما ستُحدِثُه الثورة الإسلاميّة في إيران حضاريّاً، سيكون في محيطها أخطر وأهمّ ممّا أحدثته الثورة الفرنسيّة في أوروبا. وكما نرى اليوم،  أربعون سنةً من حصار الثورة لم يمنعها من أن تأخذ مداها.

ميشيل فوكو ذهب إلى طهران وعاش فيها مدّة ستة أشهر، وأكّد هذه النبوءة. إلّا أنّه يجري تجاهلُها في أروقةِ الفكر السياسيّ العربيّ. إذاً يكمن الخوف على الشباب العربيّ في التضليل والإيهام. هذا الجيل سيستمرّ إلى الثلاثينيّات من هذا القرن، وسيأتي بعده جيلٌ جديدٌ يشهدُ على واقعٍ آخر. وأنا في بعض مؤلّفاتي قد كتبتُ هذه الأفكار. إذا لم أكن حيّاً فقد كتبتُها للجيل القادم.

هذا يعني أنك متفائل بمستقبل الشباب العربي؟

طبعاً. نحن ذاهبون باتّجاه نهضة كبيرة جدّاً. الأممُ الكبرى حتّى تنهض تحتاجُ إلى دورةٍ حضاريّةٍ طويلةٍ وعريضة. نحن نتحدّث عن مليار وخمسمئةِ مليون مسلم في العالم. عن جغرافيا ممتدّة في أفريقيا وآسيا وأوروبا.

الإسلام اليوم في ذروة العولمة. وبغضِّ النظر عن محاولات التشويه والتوهين التي يتعرّض لها، من خلال المجرمين الذين يوجِدونهم تحت عنوان «الإسلاميّون». هؤلاء سيحترقون في الغابة مع العفن.

ما دعوتك للشباب اليوم؟

أدعوهم الى استعمال عقولهم. الى ان يكونوا واقعيين زصادقين ومعلوماتيّين, اي ان لا يبنوا آرائهم على الاشاعات , وان لايسمحوا لاحد بتضليلهم, كما ادعوهم الى ان يتعلّموا ويُعلِّموا.