من الكاتب والباحث والأديب والروائي عبد المجيد زراقط؟
كتب عشرين مؤلّفاً في تاريخ الأدب ونقده، منها: الشعر الأمويّ بين الفنّ والسلطان، الحداثة في النقد الأدبيّ المعاصر، في مفهوم الشعر ونقده، في بناء الرواية اللبنانيّة، الإبداع الأدبيّ العربيّ: قضايا وإشكالات، محسن الأمين: العالم المجتهد وحركته الإصلاحيّة...، وكتب الرواية والقصّة القصيرة، ولديه روايتان هما: آفاق بوعلي، والهجرة في ليل الرحيل، وأربع مجموعات قصص قصيرة هي: «ذات عصر»، و»مناديل»، و»حكايات في البال»، و»تعب».
وكتب أدب الأطفال، ولديه أربع قصص طويلة هي: «عيد النصر»، و»انتصار العصافير»، و»دروس الأحبّة»، و»فرح العمر»، ومجموعات قصصيّة كثيرة. وقد كانت له تجربة في كتابة السيرة للأطفال، فكتب لهم: سيرة النبيّ محمّد (ص)، وسير المعصومين الأربع عشرة، تحت عنوان: القادة الهداة، ومختارات من تاريخنا، ودروب الخير. هذا إلى جانب عشرات البحوث والدراسات التخصّصية والمقالات الأدبيّة...، ولا يزال يواصل مواكبة حركة الثقافة العربيّة، ويكتب الدراسات والقصص والروايات ويشارك في المؤتمرات.
إنه الأديب والروائي الدكتور عبد المجيد زراقط الذي خصّ مجلّة «مع الشباب» بهذا الحوار، حيث رجعت بنا الذاكرة إلى عقود خَلَت ليحدّثنا عن سيرة حياته المفعمة بالعلم والعمل والحضور الفاعل في المحافل العلميّة والتربويّة، فيقول:
أنا من بلدة مركبا، قضاء مرجعيون، وُلدت في 3/ 12/ 1946. تلقّيت تعليميَ الابتدائيّ والمتوسّط في مدرسة قريتي، وفي مدارس القرى المجاورة الرسميّة. انتسبت إلى دار المعلّمين والمعلّمات في صيدا، وتخرّجت فيها عام 1967. تابعت دراستي، وأنا أمارس التدريس، إلى أن نلت شهادة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف في بيروت، فانتقلت للتدريس في الجامعة اللبنانيّة.
هُجِّرت من قريتي في العام 1987، فأقمتُ في بيروت، حيث عملت في الصحافة الثقافيّة، مواكباً حركة الثقافة العربيّة. وكانت لديّ تجربة متميّزة في نقد بعض الظواهر الثقافيّة، وذلك تحت عنوان: «مضادات ثقافيّة» في مجلة الكفاح العربيّ.
نشرت بعض المتابعات في الصحف اللبنانيّة والعربيّة، وشاركت في العديد من المؤتمرات العلميّة في لبنان والأقطار العربيّة. وأسهمت في تأسيس عدّة مجلّات موجّهة للأطفال، منها: «مجلّة سامر» و»مجلّة أحمد»، وكتبت في مجلتي «العربي الصغير»، و»ماجد» الموجّهتين للأطفال.
كيف بدأت رحلة الأديب زراقط، ولِمَ اخترت هذا المجال؟
الاستعداد للكتابة موهبة من الله تعالى، وإذ تُنمَّى هذه الموهبة تتحقق واقعاً، وقد أُتيحت لي ظروف جعلتني أمضي في هذا الدرب، منها أنّي ختمت القرآن الكريم وأنا في السادسة من عمري، وأجدت القراءة والكتابة في هذه السنّ المبكرة. ولمّا كانت ليالي القرية طويلة، كنت أقرأ لأسرتي، في هذه الليالي الدعاء... وقصصاً اشتراها أبي وجدّي، منها: روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان، والسيرة النبويّة، وفصولاً من نهج البلاغة إلخ...، فامتلكت اللغة العربيّة سليقةً، وتكوّنت لديّ عادة القراءة والكتابة.
أمّا الكتابة للأطفال فقد أتت نتيجة تجربة حياتيّة؛ إذ كنت أحكي لابني حكايات في ليالي الشتاء الطويلة، ولاحظت أنّها تعجبه، فكتبتها، ونشرتها في «مجلّة سامر» تحت عنوان: «حكايات مخدّتي»؛ وإذ نالت هذه القصص إعجاب القرّاء، واصلت الكتابة، فكتبت: «مذكرات دوريّ»، فلَقِيَت الإعجاب نفسَه، عملت بعد ذلك في «مجلة سامر»، وواصلت الكتابة، وذلك في الوقت نفسه الذي كنت أكتب فيه النقد الأدبيّ والقصص، وما زلت أفعل هذا، فأنا لا أستطيع العيش من دون أن أقرأ وأكتب.
خَتمت القرآن الكريم في كتّاب القرية، فهل كان لهذا الأمر تأثير على قراءاتك اللاحقة؟
القرآن الكريم ليس كتاباً عادياً، إنّما هو وحيٌ إلهيّ، تتمثّل فيه معجزة النبي محمّد (ص)، ومن يتلقّاه يتلقى كتاب عقيدة دينيّة، وكتاب أسسٍ نظريّة تربويّة لها رؤيتها الشاملة إلى العالم وقضاياه، وهو كتاباً أدبيّاً يتمثّل فيه الإعجاز الجماليّ اللغويّ العربيّ. ختمت القرآن وأنا في السادسة من عمري، وبقيت أُعيد قراءته بفهم وتدبّر، فامتلكت، على المستوى الدينيّ، وعياً دينياً ثابتاً أمام مختلف المدارس الفكريّة التي عرفتها. وعلى المستوى التربويّ، منظومة قيم تربويّة إسلاميّة إنسانيّة، أصدر عنها في كتاباتي، أمّا على المستوى اللغوي الأدبي، فقد امتلكت اللغة سليقة، وامتلكت معجماً لغوياً وأساليبَ تركيبٍ وبنىً لغويّةً. كما مثَّل لديّ ما يسمَّى في النقد الحديث «الأنا الأعلى الثقافيّ» الذي يؤدي دوره من طريق الوعي واللاوعي في تشكيل المنظور الكتابيّ وفي الكتابة نفسها. وهذا يتواصل بتواصل قراءة القرآن الكريم وتدبُّره، وتوظيف هذه القراءة في مختلف شؤون الحياة، وليس في المناسبات فحسب.
تنوّعَ إنتاجُك بين القصّة القصيرة والرواية والنقد الأدبيّ وأدب الأطفال؛ في أيٍّ منها يجد عبد المجيد زراقط نفسه؟
تنوُّع كتاباتي ليس من اختياري، وإنّما من اختيار الحياة، فلو خُيِّرت لاكتفيت بكتابة القصّة القصيرة والرواية للكبار والأطفال، لكن، وكما هو معروف، فإنّ كتابة الإبداع الأدبيّ لا تقدّم مردوداً ماليّاً يوفّر حياة كريمة لمن يريد أن لا يرتزق، ولمن لا يوظِّف كتابته لأحد أيّاً يكن. وكما قيل: أدركَتْه حرفة الأدب، وهو دلالة على فقر الأديب غير المرتهن لسلطان يكون منديله؛ لهذا أكملت دراستي، وعملت في مجال اقتضى كتابة النقد الأدبيّ في الجامعة وفي الصفحات الثقافيّة، وأنا أشعر الآن بأنّي قمعت المبدع فيَّ، وغلَّبت الناقد، وهذا يؤلمني، ولكن ما يعزّيني هو أنّي تمكّنت بهذا العمل من أن أكون كاتباً مستقلّاً لم أُرتهن لأحد، ولا أدين لأحد بفضل إلّا لله – تعالى -، وقد مررت بظروف قاسية، وتغلّبت عليها، ما جعلني مؤمناً بأنّ من يتّقِ الله - تعالى - يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
بِمَن تأثّر عبد المجيد زراقط من أصحاب التجارب الروائيّة، وما هي أوّل رواية قرأتها؟ وكيف تُقوّم الرواية العربيّة اليوم؟
أوّل قصّة قرأتها، كما أذكر، ليست رواية، وإنّما سيرة تروي بطولات الإمام عليّ (ع)، ولا أذكر اسمها، وكنت أقرأها لجدّي وأبي، رحمهما الله تعالى، في سهرات الشتاء الطويلة في قريتنا. كما كنت أقرأ فصولاً من السيرة النبويّة وسيراً شعبيّة، مثل: سيرة عنترة والسيرة الهلاليّة. وأذكر أنّي كنت أقرأ أيضاً في مجلس جدّي الذي كان يحضره كثير من أبناء القرية، قصّة «الأخذ بالثأر» للسيد محسن الأمين، وكان هذا تقليداً نقوم به في كلّ سنة، ولعلّ قراءة السير هذه هي التي نمّت لديّ قدرة القصّ. ثم اشترى لي جدّي وأبي روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان، فكنت أقرأها بشغف. وبعد خروجي من القرية، صرت أقرأ لمعظم الروائيّين العرب. وكان نجيب محفوظ الروائي المفضّل لدي، وقد كتبت أوّل مقال نقديًّ لي عنه نشرته في مجلة «القلم الناشئ» التي كانت تصدر عن اللجنة الثقافيّة في دار المعلّمين والمعلّمات في صيدا، تحت عنوان: «نجيب محفوظ رجل الرواية العربيّة».
بالنسبة للرواية العربيّة – اليوم - أراها مزدهرة، ولا تقلّ شأناً، على مستويي الكمّ والكيف، عن الرواية العالميّة؛ فكتّاب الرواية العرب المبدعون كُثر، وهذا لا ينفي وجود كثيرين يجرِّبون، والآن صار من السهل نشر الكتب، ولا ضير في هذا، فليجرّب كلّ من يجد لديه رغبة في الكتابة، والزمن كفيل بالغربلة، وهذا يحدث في كلّ عصر.
تقول في كتاب «الإبداع الأدبيّ العربيّ»: قضايا وإشكالات «طائر الشعر مقيم يتغيّر فضاؤه ولا يهاجر». إلام تشير في هذا الوصف الراقي للشعر، وما هو منهجك في نقد الشعر؟
يرى بعض الباحثين أنّ الزمن زمن الرواية، وأن زمن الشعر ولَّى، وقد رأيت أنّ هذا الحكم غير صحيح، فمن نحو أوّل، الشعر لغة الوَجد الإنسانيّ، وطالما بقي الإنسان يشعر بالوَجد يبقى الشعر، ومن نحو ثانٍ، فإنّ الأدب العربيّ القديم عرف السرد، وقد أثّر في الأدب العالميّ بالسرد وليس بالشعر، كألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وقصص المعراج النبويّ.
أمّا المنهج النقدي الذي اعتمده، فالهدف من الدراسة هو الذي يحدده؛ إذ ليس من منهج جيّد ومنهج رديء، وإنّما هناك منهج يفي بهذا الغرض ومنهج يفي بذاك؛ فعلى سبيل المثال إذا أردت معرفة أسلوب نص أستخدمُ منهجاً أسلوبيّاً، وإذا أردت تفسير ظاهرة شعريّة، كالشعر العذريّ مثلاً، أستخدم منهج البنيويّة التكوينيّة، وإذا أردت معرفة خصائص البنية السرديّة أستخدم منهج السرديّة...
مجلّة «مع الشباب» تتمنّى على الدكتور عبد المجيد أن يعود معنا إلى مرحلة الشباب ويحدّثنا عن مسيرة شبابه، وتحديّات الشباب في ذلك الزمان مقارنة مع العصر الراهن؟
في ذلك الزمن، عرفت القرية الجنوبيّة الفقر، والحاجة إلى كلّ شيء: المدرسة، والماء، والكهرباء، والهاتف، ووسائل المواصلات السهلة و...، وكان التحدّي الأساس أن يتمكّن ربّ الأسرة من توفير حياة كريمة لأسرته، وهو يعاني بؤس الواقع. كان، في ما يتعلّق بي، أوّل تحدٍّ أن أكمل دراستي الابتدائيّة في قرية مجاورة، وأن أكمل دراستي المتوسّطة في قرية أخرى. لم تكن الحياة سهلة. أعطي مثالاً على ذلك. في ليلة ممطرة باردة، جئت من المدرسة، وأنا لم أتناول طعاماً طوال النهار؛ إذ نفدت الزوادة، ونفد المال، وأنا غريب في قرية غير قريتي، أردت الخروج وفتح الباب، فانطفأ السراج، وعمّ الظلام. خفت، وبقيت أرتجف حتّى الصباح، وذهبت إلى المدرسة، من دون أن أكتب الفرض، فعاقبني المدرّس، ولم يصغِ إليَّ... هذا لا يعرفه أبناء اليوم، وإنّما يعرفون تحديّات أخرى قد تكون أشدّ صعوبة.
وعندما التحقت بدار المعلّمين في صيدا، كانت الحياة في المدينة مختلفة على مختلف المستويات: الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة...، وخصوصاً أنّ المرحلة كانت تغلي بالنشاطات على هذه المستويات جميعها. وقد تمكّنت، في آونة قصيرة، أن أخطّ طريقاً يوصلني إلى النجاح في دراستي، وأن أحصِّل معرفة عن طريق المطالعة، وأن أنشط سياسيّاً، وأتابع دراستي الثانويّة، تمهيداً للدراسة الجامعيّة. وهذا في تقديري يعود إلى الركيزة التربويّة التي امتلكتها وأنا في رعاية والديَّ وجدي - رحمهم الله تعالى -.
وأذكر تدبيراً تربويّاً لا يمكن أن أنساه قام به والدي، الحاج حسين زراقط - رحمه الله تعالى - ملخَّصه أنّي كنت أقرأ في كتاب عن الماركسيّة، فلم يقل لي شيئاً، وإنّما أتى بكتاب للشيخ محمد جواد مغنيّة عنوانه «الله»، كما أذكر، وأرجو ألّا أكون مخطئاً في اسم الكتاب، ووضعه بين كتبي، فقرأته وأنا أقرأ الكتاب الذي يعرِّف بالماركسيّة، وكتباً أخرى في الفلسفة الغربيّة. وقد كان لكتاب الشيخ مغنيّة - رحمه الله تعالى - بأسلوبه السهل والعميق في الوقت نفسه، دور أساس في تكوين اقتناعي الدينيّ.
كيف يمكننا في هذا العصر أن نهيّئ عناصر التربية الصالحة والمجتمع الصالح، وما هي الأساليب والوسائل الناجحة برأيكم؟ وما هو دور الوالدين في خلق الحافزيّة الإيجابيّة لأولادهم على التعلّم، بناءً على لتجربتكم؟
عناصر التربية الصالحة تتمثّل في منظومة القيم الإسلاميّة الإنسانيّة، المستمدّة من المصادر الإسلاميّة النظرية المعروفة، ومن السير الحياثيَّة التي تتخذ النبي (ص)، وأهل بيته (ع)، والصحابة المنتجبين، والعلماء الأتقياء، وعظماء الإنسانيّة قدوة... أمّا أساليب التربية، فقد ذكرت قبل قليل مثالاً لها، عندما وفّر لي والدي السبيل الصحيح للهداية، ولم يمارس القمع، السبيل الصحيح هو توفير الوسائل الصالحة للهداية إلى الصواب، والإقناع العقليّ، والقدوة الحسنة؛ فمن ينصح بالصدق مثلاً عليه أن يكون صادقاً، وخصوصاً الوالدان، والأساس هو التعلُّم، أي توفير البيئة التي تتيح للفتى والفتاة التعلُّم على مختلف المستويات، فما يحصِّله المرء بنفسه لا يُنسى، وما يُفرض بالقوّة يُكره. وللأسرة الدور الأساس في التربية.
أخيراً، ما هي رسالة الدكتور عبد المجيد زراقط إلى الشباب، وما هي أولويّات هذه المرحلة في العصر الراهن؟
التعلُّم هو أكثر جدوى من التعليم، فكيف بالنصح البارد، فأنا أراه، وكذلك، كما يبدو لي، يراه الشباب تنظيراً من فوق. المهم أن نتيح للشابات والشباب التعلُّم وتحصيل المعرفة، والسبل المفضية إلى تكوين الشخصيّة القادرة على الاختيار والفعل، وهم قادرون على اغتنام هذه الفرص والعمل على بناء مجتمع صالح ووطن يتيح للإنسان أن يحيا حياة تليق بمن جعله الله سبحانه وتعالى خليفته في الأرض، وكرّمه بذلك، ودعاه لأن يسعى ويرتقي مرتبة الإنسان الكامل الذي يعمل ما فيه رضى الله تعالى وخير عباده. هذه هي الأولويّة الأساس، ومنها تتفرّع الأمور الأخرى.