لطالما كانت علاقة الإسلام بالمسرح موضع جدل؛ إذ تتوّجّه نحوه أصابع اتّهام سوداء تشيع أنّ الإسلام يُحرّم هذا الفنّ الجميل، فيما يقف الإسلام مرحّبًا بالأعمال المسرحيّة، ومشجعاً للفن الملتزم، تمامًا كما يشجّع الإبداع ويثني على المبدعين.
المسرح الإسلاميّ هو مسرحٌ متكامل شكلاً ومضموناً ورؤيةً، يحملُ كثيراً من القيم التي تعود بالنّفع على الفرد والمجتمع، وهو يساهم في سموّ الإنسان وتكامله على المستوى الأخلاقيّ والقيمي نحو الفضيلة.
يمتاز المسرح الإسلاميّ برؤية إسلاميّة منسجمة ومتناسقة في نظرتها إلى الكون والإنسان والحياة والقيم، وبالتالي فهي رؤية إنسانيّة جامعة، تمتلك نظرة متوازنة تجمع بين المادة والروح، وتوفّق بين الدنيا والآخرة، وتزاوج بين العقل والعاطفة، وبين العبادة والعمل، وبين الجسد والنفس، فنلاحظ أنّ المسرح الإسلاميّ يتطرّق إلى قضايا المجتمع ويعالجها بطريقة حكيمة تحثُّ على الطاعة والمسؤوليّة وامتثال شريعة الله نيّةً وقولًا وفعلًا.
في حين تختلف الأشكال المسرحيّة عند العرب، مثل خيال الظلّ المعروف بمسرح الدّمى الذي جاءهم من الشرق الأقصى (جزيرة جافا في أندونيسيا)، وازدهر في مصر أوّلاً، وذلك في عصر الفاطميّين، وترك آثاراً مكتوبة تمثّلت في أعمال ابن دانيال، قبل أن ينتقل إلى اسطنبول، حيث أخذ شكله المعروف بالكراكوز الذي انتشر تحت أسماء مختلفة على مساحة الإمبراطوريّة العثمانيّة، إضافة إلى مسرح «الحكواتيّ» الذي يحيك مسرحيّة كاملة بطبقات صوته، وصولًا إلى أداء الممثلين على خشبة المسرح. ويبقى النّوع الأخير هو الأكثر شيوعًا اليوم.
كان ياما كان... مسرح الشّارع
بما أنّ الأفكار تولد في الشّارع، وتنبع من معاناة النّاس وهمومهم، فقد تمّ تأسيس مسرح «الشّارع» على يد المخرجة والحكواتيّة الشّابة سارة قصير، التي بدأت مسيرتها مفترشةً أحد الأرصفة في شارع من شوارع الضّاحية الجنوبيّة لبيروت، ثم انطلقت منه نحو لبنان بأكمله.
سارة قصير، نقلت مسرح الشّارع الذي بدأ مع اليساريّة في أوروبا إلى بيروت، فدقّت به أبواب النّاس جميعاً، وجمعت حولها فقراء ضاحية بيروت قبل أغنيائها، بعيداً عن المسارح باهظة الثمن، والكراسي الحمراء المخمليّة، والأضواء البرّاقة.
قصير التي استطاعت أن تأسر قلوب جمهورها أشارت إلى جزء من المصاعب التي واجهتها حيث تقول لمجلة «مع الشباب»: «اصطدمت باستهجان رهيب، وصرتُ محاطة لبنانيّاً وعربيّاً بعلامات استفهام كثيرة»، وتضيف «لا مشكلة شرعيّة بين الحجاب والتمثيل، نحن نرتبط بالله، والفنّ مرتبط بالله أيضًا».
تحوّلت سارة ومسرحها المتنقّل من مكان إلى آخر، إلى علامة فارقة في الفنّ اللبنانيّ والعربيّ؛ إذ إنّها دخلت عالم التّمثيل الضّيق بحجابٍ «كامل»، كما تقول، مؤكّدة «لم يكن الإسلام يومًا عائقًا بين الفرد وبين تحقيق أحلامه، طالما أنّ ما نقدّمه يعود بالفائدة على من حولنا، فالشريعة تقف إلى جانبنا بكلّ صلابة».
تضيف «النّاس كانوا سعداء ومتشوّقين في كلّ عرض لرؤية محجّبات يتحدّثن عن هموم المنطقة والناس...»
حكايا الأطفال... الحكواتي قد عاد
كان ياما كان في قديم الزّمان كانت الجّدة أم قاسم تحكي لأحفادها كثيراً من القصص، لكنّها احتفظت لحفيدتها سارة بقصّة لم تحكِها لأحد من قبل، كانت هي القصّة التي انطلقت منها سارة لتصير حكواتيّة بامتياز.
عُرِفَ الحكواتيّ عند العرب بأنّه الراوي الذي يحيي سهرات رمضان بتلاوة الملاحم الفروسيّة مثل: سيرة عنترة بن شداد، أو أبي زيد الهلاليّ، أو الزير... يعتبر بعض الأشخاص أنّ هذه السِّير ومهارة الراوي الأدائيّة تعدّ مسرحاً بحدّ ذاته؛ وذلك نظراً إلى الجانب التمثيليّ الذي تتسم به في بعض الأحيان، وتفاعل الحضور معه ومع الطابع المثير للأحداث المرويّة. من هنا، يتميّز فن الحكواتيّ بأنّه يتوجّه إلى مخيّلة السامعين.
تؤكّد قصير«كان القرار في لجنة الأساتذة في الجّامعة اللبنانيّة حذرًا، لأنني كنت أوّل فتاة محجّبة تدخل هذا الاختصاص». وتُكمل «أترك المسرح، وأترك الجّامعة، ولا أتخلّى يوماً عن حجابي وإن كنت في سنة تخرّجي».
تميّز سارة، لم يحل دون مشكلة الحجاب في مجال التمثيل، «لدي مشكلة بأنّني محجّبة حجاباً ليس «موديرن»، الفرص قليلة وأحياناً نادرة، في خضم أزمة الثقة بالشّخص المحلّيّ»، مضيفةً «التزامي بعقيدتي لا يسمح لي لا بأخذ أدوار تختلف معي، أمّا إذا اضطررت، فإنني أجد حلولاً إخراجيّة، لذلك تؤكّد قصير أنّ فرقة مسرح الشّارع تحضّر باستمرار لمسرحيّات جديدة تسعى لتنشئة الأطفال على القيم التربويّة الصحيحة، والتي لا شكّ أنّها تنبع من قيم الإسلام.
مسرح مجدل سلم في جنوب لبنان... أحداثٌ لا تنتهي
في أسفل وادي القيسيّة، شُيّد المسرح الحسينيّ الدائم الذي تتحوّل الجبال المطلّة عليه إلى مدرّجات يجلس الأهالي على صخورها. يرتدي الممثّلون ثياب التمثيل الخاصّة بمصرع الحسين8 وأنصاره، تلوح راية الإمام الحسين8، يطلّ الممثّلون بالعمامات الخضراء والسوداء، يحملون الدروع القديمة المصنوعة يدويّاً، والسيوف، وبعض الرماح الحديديّة، متوجّهين الى الوادي المجهّز بالخيم والنخيل الطبيعيّ الذي أصبح من طبيعة أرض الوادي، بعدما زُرع منذ سنوات عدّة لأجل المسرح.
هذا هو مسرح مجدل سلم، الذي تأسس عام (1985) حين قرّر تسعة شبان من البلدة تمثيل واقعة الطّف على طريقتهم الخاصّة، مستفيدين من حماسة الأهالي وتشجيعهم، محقّقين بذلك نجاحًا لافتًا، إذ يحضر المسرحيّة كلّ عام آلاف النّاس من أبناء المنطقة وخارجها.
ولعلّ ما يكمن وراء نجاح هذه المسرحيّة هو الصّدق في كتابتها وأدائها؛
ولم يقف الشّبان عند واقعة الطّف فقط، بل تطوّر عملهم المسرحيّ؛ إذ لعبوا مسرحيّة «جرح وأرض» التي عُرضت في قصر الأونسكو في بيروت، بالإضافة إلى مسرحيّات أخرى.
يحرص الكاتب المسرحيّ موسى ياسين، على كتابة المسرحيّة بشكل مختلف كلّ عام، ويقدّمها كلّ مرّة في قالب مختلف، آخذًا بعين الاعتبار التطوّرات السياسيّة والاجتماعيّة التي تتعرّض لها المنطقة، إذ يؤكّد للمسرحيّة هدف رئيسيّ هو توعية الأهالي على قضايا المنطقة، ومآسيها...
من مسرح هذه البلدة انطلق عدد من الممثّلين ليشقّوا طرقهم في عالم التمثيل إذ إنّ أبطال المسرحيّة والقائمين عليها خضعوا جميعًا لدورات متخصّصة، وباتوا يشاركون اليوم في أعمال فنيّة مسرحيّة وتلفزيونيّة كثيرة.
من هنا، لا بد أن يكون المسرح الإسلاميّ ذا رسالة هادفة تخدم الإنسان أينما حلّ أو ارتحل، بحيث تسمو بعقله ووجدانه وجسده إنسانيّاً وأخلاقيّاً ومصيريّاً، فيتخذ الوسطيّة والانفتاح مذهباً له في هذه الحياة المليئة بالتناقضات والمشاكل والصراعات الاجتماعيّة والقضايا الأخلاقيّة في زمن استباحة الرذيلة، وتفسّخ الأخلاق، وانحطاط الإنسان، وتراجع القيم الأصيلة التي تمّ استبدالها بالقيم الكمّيّة الاستعماليّة في عالمنا الذي بات يضجّ بالماديّات والمعايير الزائفة؛ لذا يرفض المسرح الإسلاميّ الغواية المجانيّة، والنفاق الكاذب، والغلو المبالغ فيه، والعبثيّة الفوضويّة. وفي المقابل، يدعو إلى الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والصبر على مصاعب الحياة.
في الختام يمكننا القول إنّ الحياة خشـــبة مسرح، ونحن من نختار أدوارنا التي نلعبها، فلتكن أدوارًا تعكس وجهنا الحسن، الوجه الإســــلاميّ، الحضـــاريّ، المُبدع، المـــتمسّك بالضـــّوابط الإسلاميّة والمنفتح على الآخر.