-----------

بالإبيض

{ مريم ميرزاده }

بالإبيض

اليومَ أعلنوا وفاته... في البداية تلقّى الخبر كما الآخرين! ثم بدأ يدرك الأمر؛ إنّه ميّت!! يحاول أن يصرخ: «كيف أموت وغداً يتمّ تنصيبي ملكاً؟! أنا لا زلت صغير السن! بالأمس كنتُ في منتجعي الخاصّ أستجمّ، أنا لست مريضاً، تنتظرني عائلتي، أيقظوني، ماذا حصل؟! افعلوا شيئاً، أحضروا كبير أطباء الصّرح أيها الحمقى، أين أبي؟ نادوا عليه».

لم تُجْدِ صرخات استغاثته نفعاً، أخذ يرتفع عن سطح الأرض، لكنّه كلما جاء يرتاح ويستسلم للتحليق، يجد أحدَ الرجال يدوس فوق عنقه، يعيدُه أرضاً. يتوجّع من أثر السقطة، ولا مغيث.

يعود الارتفاع، هو لا يمكنه السيطرة على الأمر... يعلو بطريقة لا إراديّة مثل بالونٍ انتفخ بالهيليوم، ما إن يقارب سطح الغيم حتى يظهر الرجل ذو اللباس الأبيض، ويدوسُ عليه مجدّداً. هذه المرة لا يسقط، يدنو من الأرض قليلاً ليعود عدّة نساءٍ ورجالٍ بالرداء الأبيض ويدوسوا فوق عنقه ورأسه، يدوسون بطريقة قاسية لا ترحم، أهل الأرض ما عادوا يسمعونه ولا ينظرون إليه... هو لم يفهم بعد.

يعود إلى الارتفاع في حالةٍ من الضياع والنزاع المضني، أعداد الأشخاص الذين ينتظرون دورهم في الدوس على رقبته تزداد دون أن يفهم؛ امرأةٌ تدوس بكلّ قواها على بطنه، رجلٌ يرتطم بقوّة بظهره، فيشعر بانقصامه عند الوسط، آخر يدوس فوق رأسه، سيّدةٌ أخرى تدوس فوق صدره، يختنق، يواصل الاختناق دون أن يموت... يختنق عدّة مرّات تحت أقدامهم، يموت عدّة مراتٍ؛ ينازعُ، يحتضرُ، ثم يعود إلى الحياة، ليتوالى عددٌ جديد من الأفراد الدوس عليه، لا يسمحون له بالتحليق. موتُه يتكرر، تفوح منهم رائحة وردٍ زكيّة، لا يشبه ورود الأرض.

  كان يقفُ بينهم عمّي، على ثغره ابتسامته التي عهدتُها، تقدّمَ نحوه، جلس فوق صدره، جعله يختنق من جديد، تكسّرت ضلوعه، شعر بالأمر برمّته، توقّف قلبه. بعض الجراح تؤذي الميّت. تميته من جديد، كان عمّي يبتسمُ وهو ينظر إليه منازعاً. حتى اسودّ وجهُه، وتبدّلت ملامحُه، وبرزت رقعٌ زرقاءُ على جبهته ووجهه.

 تراءت للقاتل الكعبة بين حشد الأفراد ذوي الرداء الأبيض، ثم تباعد الأفراد، وبدأت آلاف الحجارة الصغيرة السوداء تخرجُ متجهةً صوبَ عينيه. كان ثمّة فتيانٌ وفتياتٌ وشبابٌ

وشاباتٌ بثيابٍ سوداء يحملون الحجارة، يرجمونه بلا توقف، حتى أصيب بالعمى... ظلّ على حاله يتوجّع دون أيّ موت؛ وجعاً لا متناهياً، حتى استحال جسده عاموداً من حجر. لا يتوقف عن الألم والنزف.

 لا زال عمّي يبتسم ويستنشقُ نفَساً عميقاً برائحة الورد، ينظر إلى الحجارةِ في أيدي أبنائِه، ثم إلى أثر الدمع في ملامح زوجته، ويهمس:

«الآنَ أتممتُ حجَّ بيتِكَ ربّي.. لبّيك اللهمَّ لبّيك..».

أفقتُ من نومي، وأنا أذكر إجابة عمّي على سؤالي «كيف حالك؟»:

«أخبريهم كم أنّي في سلام..».