مقدّمة:
يعدّ موضوع القيم من الموضوعات الأساسيّة التي شغلت الفكر الإنسانيّ منذ تاريخ طويل، فقد استأثر باهتمام الفلاسفة منذ بواكير التفلسف، ولا يزال. ومع انفصال العلوم عن الفلسفة أضحت القيم موضوعاً لفروع عديدة، منها: علم الاجتماع، والتربية، والاقتصاد، والأخلاق، والإنثربولوجيا... وبعد تفاقم الأزمة المعنويّة والأخلاقيّة في مجتمعاتنا المعاصرة، وبعد انسداد الآفاق أمام المشاريع الحضاريّة المهيمنة، يكتسب هذا الموضوع أهمّيّة خاصّة. على الرغم من أنّ الفكر الإسلاميّ المعاصر لم يخلُ من مساهمات، تسعى إلى توظيف التراث الإسلامي الكبير حول القيم والأخلاق بالاستفادة من أطروحات الفكر الغربيّ.
وقد صدر مؤخّراً عن مركز الأبحاث والدراسات التربويّة في بيروت (طباعة دار البلاغة) دراسة جديدة تحت عنوان: «منظومة القيم التوحيديّة: رؤية تأصيليّة لبناء علوم إنسانيّة من منظور حضاريّ»، للكاتب الدكتور حسان عبد الله حسان.
في هذه القراءة محاولة لاستكشاف المعالم الأساسيّة لهذه الأطروحة، وعرض بعض الملاحظات النقديّة؛ كتقويم أوليّ للجهد العلميّ الذي بذله الباحث، والنتائج التي وصل إليها.
التعريف بالكتاب:
جاء الكتاب في 332 صفحة من الحجم الصغير، يحتوي على أربعة فصول تعالج تباعاً الموضوعات الآتية:
أولاً: إطار الدراسة ومنهجيّتها العامّة.
ثانياً: بناء مفهوم منظومة القيم التوحيديّة.
ثالثاً: خصائص منظومة القيم التوحيديّة.
رابعاً: أبعاد منظومة القيم التوحيديّة.
وينهي الباحث كتابه بخاتمة يورد فيها مجموعة من الخلاصات والنتائج.
المباحث التمهيديّة:
في الفصل الأول أشار الباحث إلى أهميّة موضوع القيم عموماً، وكيفية تحكّمها في سلوك الإنسان وأنشطته، وتوجيه مساراته ومآلاته. وحدّد المستويات المختلفة من التعامل مع موضوع القيم: المستوى المعرفيّ، والحضاريّ، والعلميّ. وركّز في هذه الدائرة الأخيرة على خصوصيّات التربية الإسلاميّة ونظرتها المميّزة للقيم، والتي تدور حول مبدأ «المثل الأعلى». كما نقّح الكاتب في هذا الفصل مصطلح المنظومة القيميّة، فأورد: «ونقصد بها شبكة القيم المستمدّة من التوحيد كمفهوم مركزيّ في الإسلام، فالقيم لا توجد منعزلة أو فرادى، وإنما تنتظم في شبكة حول قيمة مركزيّة أو مبدأ محوريّ»[1].
وقد أنهى الكاتب الفصل الأول بعرض الدراسات المرجعيّة التي اعتمدها في بحثه.
المنظومة التوحيدية:
في الفصل الثاني، انطلق الباحث من تحديد الإطار الفكريّ للقيم استناداً إلى البحث الدلاليّ للفظ القيمة في اللغة وفي الاستخدامات القرآنيّة. ليخلص إلى مركزيّة التوحيد في منظومة القيم التوحيديّة، وتحديد مستويات التعامل مع القيم: القيمة كمبدأ وكواقع معيش وكخبرة، منبّهاً إلى الفارق الكبير بين منظومة القيم التوحيديّة، ومنظومة القيم في الفكر الغربيّ التي تتخذ من الإنسان نفسه في حاجاته ومتطلّباته المثل الأعلى.
خصائص المنظومة التوحيديّة ومستوياتها:
في الفصل الثالث قام المؤلف بخطوتين أساسيّتن: أولاً استعرض ثماني خصائص لهذه المنظومة، فوسمها ب: الغائيّة، والمقاصديّة، والجمع بين النظريّ والعمليّ، والاجتهاديّة، والديناميّة، والكليّة، والواقعيّة، والوسطيّة. وثانياً: حدّد مستويات المنظومة التوحيدية للقيم؛ حيث وزّع هذه القيم في نسق يتألّف من عدة مستويات، تنفرد في المستوى الأول: القيمة المركزيّة، وهي: التوحيد. وفي المستوى الثاني تتمركز القيم الحاكمة، وهي: التوحيد والتزكية والعمران. وفي المستوى الثالث مرتبةً؛ القيم المؤسسة، حيث نجد: التزكية، والوسطية، والحرية، والعدل، والمساواة، والعمران. أمّا المستوى الرابع والأخير، فقد خصّصه للقيم الأطراف، وعالجها مفصلاً في الفصل الرابع والأخير.
أبعاد القيم التوحيديّة:
استأثر الفصل الرابع بالقسم الأكبر من الدراسة (أكثر من نصفها!)، فعالج أبعاد منظومة القيم التوحيديّة، والتي أرجعها إلى عشرة أبعاد: القيم العقديّة، القيم الأخلاقيّة، القيم الاجتماعيّة، قيم التزكية، قيم العمران، القيم الجماليّة، قيم العدالة، القيم العقليّة، القيم الاقتصاديّة، قيم التعامل الدوليّ.
وتناول في كل بعد من هذه الأبعاد موضوع القيمة، ومجالاتها، ومفرداتها.
وعزّز الباحث دراسته برسوم توضيحيّة للمستويات الأربع للقيم (الفصل الثالث)، وأبعاد المنظومة التوحيديّة ومجالاتها وموضوعاتها ومفرداتها. كما أدرج الباحث ملحقين يتعلقان بمفردات القيم الأطراف ومضاداتها.
والسؤال الذي يفرض نفسه علينا: إلى أي مدى نجح الباحث في مقاربته؟ وهل حقّقت دراسته قيمة مضافة للأعمال الفكريّة السابقة في هذا المجال؟
القراءة النقديّة:
نبدأ هذه القراءة النقديّة من الهدف المركزيّ الذي وضعه الباحث نصب عينيه، والذي دعاه -كما ذكر ذلك في مقدّمة الدراسة وخاتمتها- إلى هذا العمل. حيث يقول: «تنطلق هذه الدراسة من حاجة الواقع الإسلاميّ إلى اكتشاف منظومة قيمه الأصيلة وبيان كيفية تضمينها في برامج التنشئة الاجتماعيّة والحضاريّة للأمّة، ومن ناحية أخرى تبدو الحاجة إلى هذا الدرس القيميّ والتربويّ التأصيليّ في ضوء ما يتعرض له الواقع الإسلاميّ من حالة اكتساح قيميّ في ضوء الموجة الاستعمارية الثالثة التي تحمل شعار العولمة»[2].
لكن عمليّا ّإنّ ما سعى لأجله الباحث هو بناء منظومة القيم لا أكثر!!
وهو في هذا السعي، الذي يشكر عليه في كل الأحوال، وقع في مزالق كثيرة منهجيةً، ومضمونيّةً، وحتى شكليّة!! وهذه الانزلاقات أثّرت قطعاً على قيمة العمل الذي قدّمه الباحث وتقتضي مراجعة عميقة لهذه الأطروحة. ولكننا في سياق هذه القراءة السريعة سنكتفي ببعض الملاحظات المحورية:
أولاً: يشير العنوان الفرعي للكتاب (رؤية تأصيليّة لبناء علوم إنسانيّة من منظور حضاريّ)، إلى أنّ المشروع الذي انخرط فيه الباحث، والذي يعالج إشكاليّة القيم على قاعدة التوحيد والرؤية الكونيّة التوحيديّة، إنّما أراد به أساساً إعادة بناء منظومة العلم الإنسانيّ من منظور آخر، يتخطّى ما تعانيه هذه المنظومة القائمة من عقم وقصور، ولكننا لا نجد تركيزاً كافياً على هذا الهدف، ولا إشارات في النص تشير إلى هذا الانشغال؟؟ وكأنّ العنوان الفرعيّ لهذه الدراسة غدا من موجبات التزويق الشكليّ للعنوان!!!
ثانياً: إنّ أقصى ما حقّقته هو تقديم رؤية أوّليّة لمستويات منظومة القيم (المستويات الأربع)، ومفردات هذه القيم في المستوى الرابع (أطراف القيم). من هنا غلب على الدراسة التقسيمات، والتشقيقات، والتي لم يقدّم الكاتب تفسيرات مقنعة لهذه التفريعات. فهل نقّح الباحث منهجه، وحدّد منهجيّته لنسل هذه المستويات، أو تعداد هذه القيم الأطراف؟؟ ولماذا اعتبر بعض القيم حاكمة وبعضها الآخر مؤسّسة؟ وكيف وصل إلى هذه النتيجة؟؟.
لم يكن همّ الكاتب بناء المنهج وتشييد طريق الوصول إلى المنظومة ثم سلوك هذا الطريق، بل كان كلّ همه أن يشيّد المنظومة!!! ومن هنا اعتمد على الدراسات السابقة، فكانت منظومته خليطاً ومركباً يجمع بين أكثر من أطروحة سابقة، منها: دستور الأخلاق في القرآن للشيخ الدراز، ومنظومة القيم العليا لفتحي ملكاوي، ومنظومة القيم المرجعيّة في الإسلام لمحمد الكتاني ...، ومنظومة الحقوق في رسالة الإمام زين العابدين 8، وغيرها.
وقد انعكس هذا الأمر على مفاصل الدراسة، فنرصد عدم الدقة في التقسيمات، والتداخل بين الدوائر، وحتى بعض التكرار!!
ثالثاً: القلق المرجعيّ: لا يحدّد الباحث مرجعيّته المعرفية في التعامل مع موضوع القيم، وحرصاً منه على اكتمال بناء صرح المنظومة، نراه يتعامل مع الموضوع بمرجعيّات مختلفة، ويستشهد بنصوص وحتى بمبانٍ من مشارب شتّى، ما أوقعه في التهافت؛ فمرّة ينتصر للنسبيّة، وأخرى يرفضها ويتمسّك بالإطلاقيّة، ومرة يستشهد بنصوص وضعيّة تؤمن بتجريبيّة القيم، ومرة أخرى يؤكّد على المعياريّة!!!
وهنا مرّة أخرى يتراءى لنا الباحث يخوض غمار هذا البحر دون أن يتسلّح بمرجعيّة محدّدة ومبانٍ واضحة، فقد استخدم عدّة مصطلحات دون تحديد دقيق، منها: التنشئة الحضاريّة، والتنشئة الاجتماعيّة، غيرهما.
رابعاً: لم يكن نصّ الدراسة منسجماً، ومتّسقاً، بل يستشعر القارئ بأنّه يقرأ نصّاً متعدّد الأبعاد والأساليب والتراكيب، لقد قاد إلى هذا الأمر، حشد النص بالشواهد والمؤيّدات من المصادر والمراجع، حتى مع غياب الاتساق والانسيابيّة، بل العديد من الاستشهادات نتلمس فيها التعسّف والتكلّف.
فضعفت روح النصّ إن لم تكن تلاشت. ممّا عمّق أزمة الجماليّة والرونق في بحث يتعامل مع موضوعٍ حسّاس يتطلب درجة رفيعة من الأدب والجمال (القيم)؛ الأخطاء اللغويّة، والمطبعيّة الكثيرة، والتراكيب المخلّة.
خامساً: لا شك في أهمّيّة موضوع الدراسة وأهدافها، ولكن العمل المنجز لا يعكس تخطيطاً متكاملاً لمثل هذا البحث التأصيليّ والتأسيسيّ، ولا بناء متّسقاً لمنهجيّاته، ولا تحديداً لخطواته وفرضيّاته، ولا تنقيحاً علميّاً لمساراته، بل إنّ القارئ يصطدم مع الفوضى المنهجيّة من بداية الكتاب، حيث تمّ الخلط بين مقدّمة البحث ككلّ مع مقدّمة الفصل الأول!![3].
كلمة أخيرة:
إنّ تدوين هذه الملاحظات في سياق التعريف بالكتاب وتقديمه، لا تنقص من قيمة العمل شيئاً، لكنها تؤكّد أنّ موضوع الأخلاق عموماً، وإشكاليّة القيم خصوصاً لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجهود العلميّة التخصصيّة، والتي يجب أن تنهل من التراث الإسلاميّ الغنيّ ومن نظريات العلماء القدامى، وتستفيد كذلك من النقلات المنهجيّة التي عرفها الفكر الغربيّ، والمشاريع التأسيسيّة في الساحتين العربيّة والإسلاميّة، من قبيل: مشروع محمّد عابد الجابريّ[4]، والمشروع الضخم للكاتب «طه عبد الرحمان» المبثوث في عديد من كتبه[5]...؛ وذلك لبناء نظريّات أصيلة وعميقة ومقنعة بعيداً عن الأعمال التكراريّة، التي لا تضيف جديداً.
-----------------------------
[1] - حسان، حسان عبد الله: منظومة القيم التوحيديّة، ط 1، بيروت، دار البلاغة، 2019م، ص: 36.
[2] - حسان، منظومة القيم التوحيديّة، (م.س)، ص: 27، 205.
[3]- يراجع: مقدمة الكتاب: اكتفى الباحث بمقدمة للفصل الأول، ولم يكتب مقدّمة للدراسة ككلّ.
[4]- يراجع: نقد العقل الأخلاقي العربي.
[5]- يراجع: سؤال ما الأخلاق، والحق الإسلاميّ في الاختلاف الفكريّ، وتعدّدية القيم...