صدر عن مكتبة جرير الالكترونية الترجمة العربية لكتاب «المراهقون يتعلمون ما يعايشونه» للدكتورة دوروثي لوو نولتي وهي أستاذةٌ ومحاضِرةٌ في مادّة الحياة الأسريّة، والدكتورة رايتشل هاريس المعالجة النفسيّة والمتخصصة في علاج المشاكل الأسريّة، وفيه تقدّمان منظوراً نفسيّاً إجتماعيّاً للتعامل مع المراهقين في دليلٍ مؤلَّف من أربعمئة وأربعين صفحةً، والذي يشكّل مرشِداً للتربية من خلال التجارب والمواقف التي جرت مع المراهقين في الولايات المتحدة الأميركية في سنوات المراهقة المضطربة.
كل التجارب الموجودة بين طيّات الكتاب مرَّ بها الأهالي والمراهقون. وكانت تجاربَ حقيقيةً وواقعيةً غيرَ متخيلةٍ تحصل مع الكثير من الأهل كلَّ يومٍ وفي كلِّ بلدٍ، مع تميّز بعض الخصائص المرتبطة فقط بالمجتمع الأميركي الذي يتمايز عن غيره من المجتمعات، لكنْ بشكلٍ عامٍّ كلُّ تجربةٍ من التجارب المكتوبة تعلّم قيماً وطرقاً مختلفةً للتعامل مع الأبناء الذين يمرّون بمرحلة المراهقة.
صحيحٌ أنّ مَنْ كَتَبَ هذا الكتاب هم شخصان لم يعايشا خصائص مجتمعنا العربيّ والإسلامي الذي يختلف حتماً عن غيره من المجتمعات التي طالها الانفتاح بكلّ جوانبه، لكن يمكن للأهل الذين يريدون أن يتعلّموا ماذا يعني أن يراهق الطفل أن يقرأوا هذا الكتاب لأنه يعطي فكرةً شاملةً عن المراهقة: تعريفاً، وخصائصَ، وسبلاً للتعامل مع تحدياتها.
ضمن مقدمةٍ وستة عشر عنواناً ركّزت الكاتبتان بشكل أساسي على طرقٍ ومقارباتٍ لكيفية بناء قنواتِ تواصلٍ سليمةٍ بين الأهل والمراهقين وبوسائلَ مختلفةٍ من الحوار والتفاوض والمشاركة في إبداء الرأي وتقرير المصير في الاختيار الحرّ للأهداف والأحلام والتطلعات الخاصة بالمراهق، يقدم هذا الكتاب صورةً بانوراميةً لكلِّ ما يمكن أن يتعرّض له الأولاد من ضغوطات ومشاكلَ إجتماعيّةٍ وإقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ وصحيّةٍ وغيرها من الأمور التي تحصل مع كلِّ أسرةٍ في هذا العالم.
كلُّ ما يعايشه المراهق ينعكس على بناء شخصيته وتكوين ذاته، ولأنّ المنزل هو المدرسة الأولى للأولاد فإنّ كل ما يمارسه المراهق ويراه ويختبره ويطبّقه هو إنعكاسٌ فعليٌّ لدائرته الأولى التي هي الأب والأم. ويُعتبر الأهل المرآة التي يرى الطفل فيها نفسه، والتي تعطيه الثقة والدعم والنجاح والقدرة على مصالحة النفس. مقابل ذلك يمكن لهذه المرآة أن تُحدثَ خللاً وظيفيّاً إذا لم يعرف الأهل كيفية ضبط مشاعرهم ومخاوفهم.
يلجأ الاولاد أحياناً إلى الأهل للإفصاح عن مشاكلهم، من ضغوطاتٍ في المدرسة أو مع أصدقائهم أو خلال النشاطات التي يقومون بها، وقد يقوم الأهل بتجاهلهم في بعض الأحيان وأحياناً أخرى يوجهون لهم نصائحَ نظريةً لا تمتّ لما يقومون به بصلةٍ، دون أن ينتبهوا أنهم يتصرفون عكس ما ينصحون به وهذا ما يخلق قطيعةً وبُعداً بين الطرفين ولا يبني علاقةً سليمةً بين الطرفين.
كلّما كبِر المراهقُ أصبح التعاملُ معه أصعبَ وهناك بعض المراهقين الذين لا يمكن التحدث معهم أبداً، لذلك من المهمّ أن يحافظ الأهل على شبكةٍ من العلاقات مع أقاربهم الذين يمكن أن يؤثروا على أولادهم بطريقةٍ أخرى، وهنا تكمن أهمية صلة الرحم.
يروي الكتاب عن تجربةٍ نظّمها بعض الآباء في أحدى الولايات الأميركية وهي إعفاء الأولاد من وظائفهم اليومية ومنعهم من أجهزتهم الإلكترونية والتعويض عنها بتقضية وقتٍ مع العائلة. كانت نتيجة التجربة أنّ الأهل والأبناء استمتعوا بقضاءِ وقتٍ حقيقيٍّ عكسَ ما كان متوقَّعاً واكتشفوا أن تخصيص وقتٍ حميمٍ للعائلة يكسر الكثير من الحواجز ويُحسّن مزاج أفراد الأسرة.
تتزايد اليوم فكرة تأهيل الأولاد قبل التحاقهم بالكليات، ولذلك يسعى الأهل إلى دعم أولادهم عبر النشاطات المختلفة، لبناء قدراتٍ خاصةٍ تعطيهم دفعةً نحو التميّز في الجامعات، فيغرق الأولاد بالأنشطة المتلاحقة والمسؤوليات المرمية على عاتقهم من قبل الأهل، الذين يرسمون برامجَ يومية لأبنائهم من دون ترك المجال لهم لحرية الاختيار. وكثيراً ما يتمنى الأهل أن يحققوا ذواتِهم، التي لم يستطيعوا في مرحلة من المراحل تحقيقها، عبر أبنائهم ما يشكّل عِبْئاً على الأولاد.
يحتاج المراهقون وقتاً خاصاً بهم مليئاً بالهدوء كي يتمكنوا من التعبير عن مشاكلهم التي يمكن أن تتطور خاصة إذا لم يكن لهم أولويةٌ في برامج الأعمال اليومية لدى الأهل. وقد يكون مفيداً إعطاؤهم حرية اختيار أنشطتهم وتقديرهم وشكرهم والتعويض لهم عن الأيّام التي يتحمّلون فيها مسؤولية العمل المنزليّ أو توليّ مسؤولية الإخوة الأصغر سنّاً وغيرها من المسؤوليّات.
أما عندما يحصل الطلاق في العائلة يجب أن يدرك الأهل أنّ الأبناء سيتعرّضون لمشاكلَ نفسيّةٍ، ويمكن أنْ تتحوّل إلى مشاكلَ جسديّةٍ، كالتعرض لحوادث سير بسبب عدم التركيز أو إدمان المخدرات للتعويض عن الأوقات السعيدة التي يعتبرون أنها ستختفي بمجرد وقوع خلافٍ بين الأبوين. ويطلق على المشكلة التي تواجه العائلة في فترة الطلاق بالفشل الوظيفيّ الأبويّ، وهذه المرحلة يسود فيها الكثير من التصرفات السيّئة، لا فقط في علاقة الزوجين بل تجاه الأبناء أيضاً، كما يُسمَّى الطلاقُ بوقتِ الجنون ولذلك على الأهل أنْ يكونوا مسؤولين تجاه تصرفاتهم لأن الطلاق يؤثّر على المراهق بشكلٍ كبيرٍ، ويختلف هذا التأثّر من فردٍ الى آخرَ، فهناك من يعبر عنه بالعنف وهناك من يعبّرعنه بالهدوء المبالَغ فيه أو النكران التامّ للمشكلة.
يختبر المراهقُ تجاربَ عديدةً قد تُوقِعه في الفشل وهذا ما يرتّب على الأهل مسؤولية زرع الأمل والتشجيع الدائم، خصوصاً أنّ شعور العجز يترك أثراً عميقاً قد لا يستطيع البعض الخروج منه، إذا لم يتمّ تداركه في الوقت المناسب. إن التشجيع على الاستمرار وتحدي الصعوبات هو واجبٌ على الأهل الذين يجب أن يشاركوا أبناءَهم أوقات الإخفاق والنجاح على حد سواء. وتعتبر المثابرة على التواصل وفتح نقاشات مع المراهقين باباً لتكوين توقّعاتٍ واقعيّةٍ.
غالباً ما يرافق المراهقين شعورُ عدم الأمان ولذلك هم حسّاسون تجاه فكرة أن يرفضهم الآخرون خاصّةً أنهم لا يزالون ينمُّون إحساسهم بأنفسهم، ولا يمكن المرور بمرحلة المراهقة من دون أنْ يشعر المراهق بعدم التقبّل من قبل الآخرين، إنْ كان لجهة الأصدقاء الذين يختارونهم أو الأزياء أو الآراء التي يقتنعون بها.
واليوم باتت الصورة الذهنية التي يكوّنها المراهقُ عن جسده تؤدّي دوراً مهمّاً في إحساسه المتنامي بنفسه سواءاً كان صبيّاً أم فتاةً، وهذه الصورة تؤثّر على ثقته بنفسه، علماً أنّ الثقافةَ التي توجّهها وسائل الاعلام مبنيةٌ على مقاييسَ محدَّدةٍ للجمال وهي مقاييسُ يمكن لنسبةٍ ضئيلةٍ من النّاس فقط تحقيقها. وهذا ما يجعل الواقع أصعبَ للجميع خصوصاً للمراهقين الذين يتعرضون لضغطٍ ثقافيٍّ يزيد من النّقد الذّاتي لأنفسهم، وهنا يأتي دور الأهل في إعطاء نماذجَ إيجابيةٍ وواقعيةٍ عن الحالة الذهنية والجسدية المميزة بكل ولدٍ من الأبناء.
يعتبر الأصدقاءُ شكلاً من أشكال التعبير عن الاستقلال لدى المراهقين، واحترام العلاقات الرومانسية هو أمرٌ ضروريٌّ، لأن النّقد الذي يُوجَّه للمراهق يفسَّر دائماً على أنّه رفضٌ شخصيٌّ له، ولذلك فإن مشاعر وتعابير المراهقين يجب أن تُؤخَذَ بجديّةٍ، لأنّهم يشعرون بالضياع والهجران ويمكن أن يفقد الأهل أبناءَهم إذا تعاملوا معهم بعنفٍ أو إذا شعر المراهق أنّه يتمّ رفضه أو تجاهله.
إن نمط الاستجابة الانفعالية يدفع إلى خسارة المرونة التي يحتاجها الأهل للتجاوب اللائق مع المراهقين، لذلك عندما يقوم المراهقون بمشاركة تجاربهم التي حتما سيخطئون بها مثل التحدّث مع الغرباء أو تكوين صدقاتٍ لا يُفضِّلها الأهل أو الخروج ليلاً، تكون مهمة الأهل الرئيسيّة هي تعزيز ثقة أبنائهم بأنفسهم وتقبّلهم لهم وترك المجال لهم لاكتشافهم شخصياتهم من الداخل وتطويرها حتى يكون بإمكانهم تطوير ذواتهم، وحتى يتمكّنوا من الانخراط مع الآخرين في المجتمع.
الكثير من القواعد تُحدث اختناقاً لدى المراهق كما تخلق حالةً من العصيان والتمرّد، لذا فإنّ التحدِّيَ في هذه المرحلة يكون وضعَ خطّةٍ عادلةٍ تعطي الحرية للأبناء، وفي الوقت نفسِه تُحمّلهم المسؤولية عندما يرتكبون الأخطاء. ويتميز المراهقون بإنهم واسعو الحيلة خاصة عندما يتعلّق الأمر بقواعد الآباء والنّظام، ولذلك يجب دائماً أن يكون هدفُ القواعِد الإرشادَ والتوجيهَ وتكوينَ مستوًى معيَّنٍ من النّضج والوعي لا الحبسَ والتقييدَ.
إنّ ترك المساحة للتفاوض عبر إشراك المراهق في وضع القواعد أو عبر اعتباره مشاركاً في تحديد أولوياته يؤدّي إلى بناء مواطنين فاعلين ومؤثّرين في المجتمع، فمن يشارك في تكوين السلطة داخل منزله يستطيع أن يفعل الأمرَ نفسَه خارج المنزل، وعلى الأمد البعيد سيكونون شريحةً تستطيع أنْ تجعلَ العالمَ مكاناً أفضلَ.
ينمو حبّ الاستقلال في شخصيّة المراهق ولذلك على الأهل مساعدة أبنائهم على تعلّم كيفيّة التعامل مع الحريّة، لأنّ المراهقَ متمرِّدٌ دائماً ويسعى إلى اختبار الحدود، ولعلّ الحكمة التقليدية من قصة روميو وجولييت هي أن التدخّل في مشاعر الأبناء وقراراتهم قد يحدث كارثة، وأنّ المعضلة الأبوية المعتادة هي السّيطرة والتحكّم، ولذلك قد يكون من الأفضل أن لا يقوم الآباء بأيّ ردّة فعلٍ بل الاكتفاء بالمراقبة.
وبينما يُعدُّ الخذلان والوعود الكاذبة للأبناء سبباً لضعف العلاقة مع المراهق ونموّ شعور الإحباط وعدم الثقة، يجب على الأهل أن ينفّذوا كلامهم وأن يكونوا قدوةً للتصرّف السليم، ما يخلق مجالاً للاعتماديّة بين الطرفين خصوصًا أنه يمكننا أن نتعلّم احترام بعضنا البعض عن طريق الحفاظ على وعودنا وهذا ما يعلّم احترام العلاقات.
أما أساليب تواصل الوالدين مع الآخرين سواءٍ أكانت هدّامةً أم بناءةً فتصبح قدوةً للمراهقين، خصوصاً أنّ السلوكَ السلبيَّ الذي لا يتّسم بالاحترام يدفع الأولاد إلى تكراره لأنّه يَرسُخ أكثرَ من السلوك الإيجابيّ، ومن السهل التأثّر به. في المقابل عندما يتخذ مراهقونا قراراتٍ غريبةً مبنيَّةً على تفكيرٍ غيرِ ناضجٍ ينبغي أنْ يتدخّل الأهل في الموقف وغالباً ما يشعر المراهقون بالارتياح لأنهم يدركون أن والديهم يعرفون ما يفعلونه.
إن عملية التعلّم هي عمليةٌ تطوريّةٌ طويلةُ الأمدِ، ولذلك فإنّ تعليم المراهقين على تحمّل المسؤوليّة يجب أن يخرج من دائرة التحكّم والسّيطرة. وتحمّلُ المسؤولية هو من علامات النضج التي تملي مجموعة كبيرة من السلوكيات بدءًا من التعامل مع الأمور المالية وصولاً إلى العلاقات الشخصية. ويُعدُّ دفع المراهق إلى المشاركة في تأدية مشروعٍ جماعيٍّ في المدرسة أو ممارسة أنواع الرياضة التي تتطلب فرقاً، فرصة للتشبيك والتعامل مع الآخرين والابتعاد عن الفردية. وقد يبدو أنّ طلبَ تنظيف الغرفة الخاصّة بالمراهق شيءٌ عابرٌ لكنه أول مسؤولية يتحملها.
إذا عاش المراهقون في جوٍّ من العادات الصحيّة فسيعتنون بأجسادهم، عندما يكون الأهل يتبعون نظاماً صحيّاً يتأثر المراهقون بهذا النمط ويصبحون أشخاصاً مسؤوليين، ومدركين لأهميّة أنْ يحظوا بصحةٍ جيدةٍ، التي بدورها تؤثر على أدائهم اليوميّ والمجتمعيّ. هم يحتاجون إلى تنمية إحساسٍ صحيٍّ بأنفسهم وإلا سيتعلّقون بعاداتٍ صحيةٍ سيئةٍ مثل التدخين. وليست الصحة الجسديّة وحدها مسؤوليّة الأهل بل أيضاً الصحة النفسيّة التي تتجسّد بالمساندة خصوصاً أنه إذا عاش المراهقون في جوٍّ من الدعم فسيكونون أشخاصاً إيجابيين.
أما إذا عاش المراهقون في جوٍّ من الإبداع فسيشاركون الآخرين بهويتهم وتطلّعاتهم وفلسفتهم في الحياة. لذلك عندما يدعم الأهل الحسَّ الفنيَّ لأولادهم، إن كان هذا الحس الفني يظهر عبر الأزياء أو بالرسم أو التصوير الفوتوغرافي أو أيِّ هوايةٍ يميل نحوها المراهق فإنهم يقومون بإعطائه فرصةً للتعبير عن هويّته التي تميّزه أمام الآخرين وتجعله فريداً في مجتمعه.
وفي النهاية إذا عاش المراهقون في جوٍّ من الاهتمام فسيتعلّمون كيف يُحبّون. والاهتمام هو أهمّ خطوةٍ للتّعبير عن الحبِّ. ولذلك إذا أراد الأهل أن يُعلّموا أولادهم كيف يُحبّون أنفسهم وكيف يُحبّون الآخرين عليهم أن يبقوا دائماً على اتصال مع أولادهم وأن يُعطوهم وقتاً خاصّاً وأن يُحيطوهم بالرعاية الكافية وأن يوفروا لهم أوقاتاً للاستماع، لأنه عندما يحصل المراهق على قدرٍ كافٍ من الحبّ، عندها فقط يستطيع أن يحبَّ من حوله. والحبّ لا يعني فقط أن نشتري لأولادنا ما يحبّون وأن نلبّيَ لهم كل احتياجاتهم بل يعني أيضاً مرافقتهم وتقبّلهم كما هم وعدم إطلاق أحكامٍ مسبَقةٍ عليهم وإعطاءَهم الأملَ والدعمَ والتوقّعاتِ الإيجابيّةَ كي ينطلقوا نحو بناء مجتمعاتٍ سليمةٍ.