-----------

فيلم لوسي Lucy : “الإلحاد العلمي والداروينية”

{ حيدر الكعبي / محمد علي العسكري }

فيلم لوسي Lucy : “الإلحاد العلمي والداروينية”

يبدو أنّ التعصّب للداروينية قد تجاوز الحدود العلميّة للنظرية، فصار مجرّد مناقشتها يمثّل نزعةَ تخلّفٍ وإيمانٍ بالأساطير، مع أنّ النظريّة قد تعرّضت لنكساتٍ علميّةٍ على يد فلاسفةٍ وعلماء طبيعةٍ، وآخر نكسةٍ تعرّضت لها كانت في العام 2009 بعد اكتشاف عظام القرد «آردي»، والتي دحضت فكرة تطوّر الإنسان عن قرد الشمبانزي.

وفي خضمّ هذا الصراع، تُدلي هوليوود دلوها بقوّةٍ. فالمتتبّع لسلسة أفلامها التي تتناول هذه النظرية يجد بما لا يقبل الشكّ بأنها من أشدّ المناصرين للداروينيّة. ولعلّها من أكثر الجهات التي أقنعت الجماهير بصحّة هذه النظريّة، بشكل يفوق تأثير المؤلّفات والمحافل العلميّة نفسها. لقد أنتجت عددًا كبيرًا من أفلام الدرجة الأولى التي تدعم نظرية داروين بشكلٍ صريحٍ أو ضمنيٍّ، ولعلّ أهمّها سلسلة أفلام «إكس مان» وسلسلة «كوكب القردة».

وضمن هذه الطائفة من الأفلام يبرز فيلم «لوسي» الذي أنتج عام 2014.

في البدء يظهر الممثل الأميركيّ الشهير «مورغان فريمان» كبروفيسورٍ متخصصٍّ يدعى «صموئيل نورمان»، وهو يقدّم نظريّةً مهمّةً تتعلّق بتأثير القدرات العقليّة الهائلة التي تكمن في مخّ الإنسان ككائنٍ يتربّع على قمّة هرم التطوّر للكائنات الحيّة الموجودة على الأرض وفقًا لنظرية داروين.

يقول البروفيسور صموئيل في محاضرته:

“الآن دعونا نناقش حالةً خاصةً، الكائن الحيّ الوحيد الذي يستخدم قدراته الدماغيّة أفضل منا هو الدولفين، هذا الحيوان المذهل يستخدم حتى 20% من قدراته الدماغية، وتلك القدرة تسمح له بتحديد مواقع الأشياء عن طريق الموجات الصوتية بدقةٍ أفضلَ من أيِّ جهاز سونار صمّمه الجنس البشريّ، ولكن الدلافين لم تقم بهذا عن قصد. فجهاز الموجات الصوتيّة الخاصّ بها تطوّر طبيعيًّا.

هذا هو الجزء الفلسفي المطروج أمامنا للمناقشة هذه الأيام. هل يمكننا أن نجعل الناس تملك أكثر من الذي لديها؟ دعونا نتخيّل للحظات كيف ستكون حياتنا إن تمكنّا من الولوج إلى 20% من قدراتنا الدماغية. إنّ هذا المعدّل سيدع لنا مطلق الحريّة لكي نتحكّم في كلّ خليّة بجسدنا».

يسأل أحد الجالسين: هل تم إثبات ذلك علميًّا؟

يجيبه البروفيسور: لا، فإلى الآن تلك مجرّد فرضيّة، ولكن إن فكّرت في الأمر جيّدًا فستجد أن المصريين والهنود القدامى كانوا على علمٍ بالخلايا منذ قرون قبل اختراع الميكروسكوب، وماذا عن (داروين) الجميعُ اعتبره أحمقَ عندما وضع نظريةً بخصوص التطوّر، نحن بحاجةٍ إلى القواعد والقوانين لنصل من التطوّر إلى الثورة. هناك ما يقرب من المائة مليون خليّةٍ عصبيّةٍ لكلِّ إنسان، ونسبة 15% منها فقط هي ما نستخدمه. هناك اتصالاتٌ في جسم الإنسان أكثر من الاتصالات الموجودة بين النجوم في مجرتنا. لدينا شبكةٌ ضخمةٌ من المعلومات لم نتمكّن من الولوج إليها لحدّ الآن..

يسأل شخصٌ آخرُ: سيّدي ما هي المرحلة المقبلة من التطوّر؟

يجيبه البروفيسور: الخطوة الآتية ربما تسمح للإنسان بالتحكّم بأشخاصٍ آخرين. ولحدوث هذا لا بدّ لنا من الولوج إلى ما لا يقلّ عن 40% من قدراتنا الدماغيّة للسيطرة على أنفسنا والآخرين وللتحكّم بالأمر برمّته. ولكن حاليًّا هذا يعدّ محضَ خيالٍ علميٍّ. (ثم يختم كلامه مازحًا): منذ زمن لم نكن نعرف أنّ كلبًا سيذهب إلى القمر..

إنّ هذه المحاضرة العلميّة المصحوبة بلقطات من الحياة الواقعيّة لتأييد مقولاتها، تُبيِّن لنا أنّ هذا الفيلم ليس مجرّد خيالٍ علميٍّ فحسب، بل هو مدرسة تعليميّة تؤسّس لمذهبٍ جديدٍ من المعرفة، تحاول مزج نظريتين أو ثلاث من النظريات المعرفية.

ومن خلال هذه المحاضرة العلمية الجادة، يُهيِّىء كاتب السيناريو المشاهدين لقبول أحداث الفيلم المقبلة، التي تمثّل بلوغ فتاة أميركية عادية اسمها لوسي مراحل التكامل العقليّ والجسديّ بسرعةٍ مذهلةٍ بسبب تعاطيها - من دون قصد - لعقار لم يتمّ اختباره بَعْد، أدّى إلى تطوّر قابليتها على استغلال قدراتها العقلية بشكل مذهل. ما جعلها قادرةً على فهم حركة الطبيعة والكائنات حولها.

وأثر ذلك تتصل لوسي بالبروفيسور صموئيل وتخبره بأنها تناولت عقّارًا جعلها لا تشعر بألمٍ أو خوفٍ أو رغبةٍ بشريّةٍ، وأنها كلّما شعرت بأن رغباتها البشرية تقلّ - كالشهوة للطعام أو الجنس مثلاً -  كلّما زاد ما تعرفه عن فيزياء الكمّ والرياضيات التطبيقيّة والقدرة اللّانهائيّة لنواة الخليّة.

إنّ محور سيناريو الفيلم هذا يؤكّد على أنّ القدرات العقلية للإنسان إذا ما نمت بطريقة أو بأخرى فإنها ستفجّر في الانسان قدرة تجعله يعلم ويتحكم تكوينيًّا بكلِّ شيءٍ من حوله، وهي فكرة لها مساس بالعقائد الدينية لدى المسلمين بخاصّة، تتعلّق بمنح البشر الذين أنعم الله عليهم بعقول كاملة، سلطةً تكوينيّة في هذا الوجود.

ثمّ تمرّ لوسي بكثيرٍ من الأحداث والمغامرات، وفي الوقت نفسه تزداد قدراتها العقليّة بالتطور المضطرد، ومع اقترابها من بلوغ المراحل النهائية من هذا التطور فإنها تمتلك قدرة على الانتقال بكلّ سهولةٍ من الحاضر إلى الماضي، فتشهد خلال مسيرتها على تكوّن الحياة على الأرض، والتي يظهرها المخرج على أنها كانت مطابقة لنظرية داروين للتطور والنشوء، بحيث أنها في حقبة معيّنة تلتقي بالقِرْدة “لوسي” التي تَعدّها النظريةُ الداروينيةُ حلقةَ الوصل التطوريّة بين القِرَدة والبشر، علمًا أنّ الفيلم يؤكد في البداية على أن سبب تسمية البطلة باسم لوسي لم يكن اعتباطًا، وإنما لأنها تمثّل النقلة الثّانية من تطوّر البشر كما كانت القِرْدة “لوسي” تمثّل النقلة الأولى في سلسلة تطوّرهم.

وفي أثناء رحلتها إلى الماضي تتعرّف “لوسي” أيضًا على بدايات نشوء الكون والتي يُظهرها المخرج على أنّها قد حدثت وفقًا لنظرية الانفجار الكوني العظيم التي تؤكدها نظرية الفيزيائي الشهير ستيفن هاوكينغ، وأن أصول الحياة التي ظهرت على الأرض إنما ظهرت بسبب خلايا أوّلية حيّة كانت مقبلة على متن نيزك سقط من الفضاء.

وفي لحظة تكاملها العقليّ يختفي جسد لوسي لتتحول إلى وجودٍ عقليٍّ مهيمِنٍ على عالَم المادة، وحينما يدخل رجل شرطةٍ إلى الغرفة في اللحظة التي تختفي فيها “لوسي” ويسأل عنها، تَرِده رسالةٌ فوريةٌ على هاتفه الجوّال يقرأ فيها جواب “لوسي”: “أنا في كلّ مكان”.

إن فكرة الفيلم هذه مطابقةٌ للنظرية الأفلاطونيّة الشهيرة المعروفة باسم «عالم المثل» وهي - وفقًا للفيلسوف أفلاطون - نظريةٌ تتحدث عن وجود عالَم ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان على علمٍ بجميع العلوم والخفايا، وعند ذهابه إلى العالم الحسيّ (أيْ حينما يولد) يكون قد نسي كل هذه العلوم، وما عليه إلا أن يسعى إلى تذكّرها في العالم الحسي.

وعلى الرغم من أنّ مجرى النظرية الأفلاطونية  هو مجرًى دينيٌّ يؤكّد على عالَم الغيب وعلى إلهٍ واجبِ الوجود، إلا أن مخرج الفيلم يميل بهذه النظرية نحو الإلحاد بطريقةٍ ذكيةٍ، وذلك حينما يمزج بين النظرية الأفلاطونية وبين النظرية الداروينية بذكاءٍ.

أضف إلى ذلك فإنّ تحوّل الفتاة “لوسي” إلى وجودٍ يشبه الوجود الإلهيَّ يدعم فكرة أنّ الانسان يمكن أن يتحوّل إلى ذاتٍ إلهيةٍ - جلّ الله تعالى - ببلوغه كامل قدرته العقلية، وتأسيسًا على ذلك فإنّ كلّ إنسانٍ يحمل بداخله بذرةَ إلهٍ.

لقد حاول أصحاب نظريّة التطوّر، التأكيد على أنَّ العلم في مواجهة الدين. وهو ما نلاحظه في سياقات الفيلم. في حين أنّ العلم في الحقيقة يدخل في مواجهة مع العلم نفسه، لأن الداروينية لم تُخفِق في أن تثبت نفسها أمام الإشكالات التي أثارها المتدينون فحسب، بل أيضًا أمام وجهات النظر العلمية المقابلة لها، والتي تقود إلى نتائجَ مغايِرةٍ.

  إلى ذلك، فقد ترك التوظيفُ الأيديولوجيٌّ بصمته على هذه النظرية عندما اُستُعمِلت كدليلٍ على نفي وجود الخالق، لاسيما بعد تطورها في ظل الاكتشافات التي حصلت في ميدانَيِ الوراثة والبيولوجيا الجُزيئيّة، أو ما عُرف بالداروينية الجديدة.

 فهذا التعقيد في تركيب الكون لا يمكن أن يأتي عن طريق الصدفة، فيصرّح ويليام ستوكس(William Stokes)[1] في هذا السياق: “لو أحضرنا مليارات الكواكب مثل كوكب الأرض، وامتلأت كل هذه الكواكب عن آخرها بالأحماض الأمينية، وانتظرنا عليها مليارات السنين، فلن نحصل على بروتينٍ واحدٍ”.

وإذْ لم يدّخر كاتب السيناريو جهدًا في الاعتماد على النظرية الداروينية طوال أحداث الفيلم، فإنه يعرّج على النظرية النسبيّة الفيزيائيّة الشهيرة التي وضعها ألبرت آينشتاين التي تؤكد على أنّ الكون غيرُ محكومٍ بقواعدَ وقوانينَ ثابتةٍ وإنما يخضع لمبدأ النسبيّة، وأنّ الزمن عنصرٌ أساسيٌّ في صناعة الوجود كما تتحدّث هذه النظرية.

وإذ تنكر “لوسي” البديهيات العقلية - مثل العمليات الحسابية البسيطة - فإنها تصرّح بأنّا «أنشأنا مقياسًا لشيءٍ قد نسينا أننا لن نستطيع سبر أغواره»، وهي بالتأكيد فكرةٌ تحوّر من النظريّة النسبيّة لآينشتاين مغالطةً فكريّةً مفادها أنّ كل شيء في هذا الوجود نسبيٌّ ليس له حقيقةٌ مطلقةٌ، حتى على مستوى العمليات الحسابيّة البديهيّة.

إلا أنّ علماء الفيزياء والفلك، منذ نيوتن إلى آينشتاين، وفي غالبية مدارس الفيزياء الحديثة، باتوا مُقتنعين أنَّ الكون يعمل بهديٍ وإيقاعٍ مُتناظمٍ، تُشرف عليه قوّةٌ راشدةٌ وعاقلةٌ.

وقد أكدّت قوانين الرياضيات وتحديداً قوانين الاحتمالات فيها، استحالة الصُّدفة وعجزها كسبيلٍ لتفسيرِ حركة الكون في الإبداع والنظام الدقيق في العوالم المتناهية في الصغر وفي الكبر. إذ يقول نيوتن في هذا السياق: «إنَّ حركات الكواكب الراهنة لا يُمكن أن تكون قد انبثقت من أيِّ علّةٍ طبيعيّة فحسب، بل كانت مفروضةً بقُوّةٍ عاقلةٍ».

أما آينشتاين، فإنه عندما وصل الى المعادلة النسبية e=mc²، تبيّن لديه بأن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء وهذا يبين بأنّ إنتاج أيِّ مادةِ يستلزم طاقة هائلة.

وخلص إلى أنّ طاقةً هائلةً جدّاً كهذه لا يمكن أن تنتج من العدم، وأن مصدر تلك الطاقة الهائلة جداً هو خالق الكون. لقد كان آينشتاين يردّد كلمة «إله» في كثير من عباراته.

إنّ المزيج الفكري العجيب الذي يتضمنه هذا الفيلم، يفتح لدى المشاهد الكثير من الاحتمالات التفسيريّة حول نشأة الكون وحقيقته، سواءً أكان مؤمنًا بالربّ أم لم يكن، وهو بذلك يخلق لدى المرء حالةً من الضجيج الفكريِّ الكبير.

إلى ذلك يعتبر كاتب السيناريو بأن السمو العقليّ لدى الإنسان يمكن أن يحدث بتأثير عقّار كيميائيٍّ دون مراعاةٍ للنقاء الروحيِّ. إذ يُظهر الفيلم “لوسي” بأنّها مجرّد فتاةٍ ترتاد الملاهي وتعاقر الخمر، فإنه بذلك يسحب البساط من تحت المؤمنين بكل ذكاءٍ وخفةٍ.

-------------------------------

[1]- ويليام ستوكس (1 أكتوبر 1804 - 10 يناير 1878)،  طبيب ايرلندي، وهو أستاذ ريجيوس فيزيك في جامعة دبلن.