-----------

لن تخبزي التنور بعد اليوم يا أمي

{ نورما رشيد حمود }

لن تخبزي التنور بعد اليوم يا أمي

... «كل شيءٍ في مكانه الصحيح، أجل... سأفاجئ الأستاذ بالمعلومات التي حضّرتها. سيتفوّق مشروعي هذا على سائر المشاريع، وستفتخر والدتي بذلك. كل شيءٍ سيكون على ما يرام»...

حدّث ربيع نفسه طويلًا قبل دخول القاعة ليناقش بحث التخرّج.  لقد أنجز سِنِيَّ الدراسة هذه بكدٍّ وجدٍّ، وحان موعد الانطلاق إلى ساحة العمل. إثنان وعشرون عامًا، ووالدته التي تفوح رائحة الخبز من يديها المباركتين تنتظر تلك اللحظة. ربّته يتيمًا في تلك الغرفة في زوايا الحيّ، واحتوته بكلّ جوارحها. ولعلّ حرارة حبّها لولدها أشدّ من حرارة ذاك التّنّور الذي تخبز عليه مئات الأرغفة كلّ يومٍ، لتبيعها وتنفقها على وحيدها ربيع، بعد أن اختطف الموت زوجها. لطالما كانت لربيع أمًّا وأبًا، لكنّها لن تحجز اليوم في قاعة الجامعة غير مقعدٍ واحد، حيث تنتابها تلك الأفكار المؤنسة، «سيتوظّف للعمل في شركةٍ رائدةٍ، سأصوّره وهو يلبس بدْلة العمل، وأرسل الصورة إلى أقاربنا. وعمّا قريب، سأخطب له سارة الجميلة... كم سيبدو وسيمًا وهو يلبس تلك البدْلة. سينجب لي أطفالًا يزيّنون داري باللّعب والضّحك. لعلّه حين يصبح مديرًا ناجحًا سيشتري لي منزلًا، أو يبني لي غرفتين في الضيعة. بعد كلّ هذا العناء، حان موعد الراحة يا أمّ ربيع»...

ثمّ دخل الأستاذ القاعة، متجهّم الوجه، عبوسًا، «الطالب ربيع، الحائز على درجة جيّد جدًّا في الامتحانات الخطيّة في كليّة إدارة الأعمال، تفضّل لنقاش بحثك». وسرعان ما حلّقت آمال ربيع، وعانقته أمانيه... ثمّ صمت الجميع في القاعة، وهم يستمعون إلى النقاش، وإذا بالأستاذ يرشقه بالملاحظات يمينًا وشمالًا، ويهزّ رأسه مستهزءًا هنا، ومستهجنًا هناك، كأنّه يقرأ قصّةً خرافيّة، وتبدو ملامح الانزعاج على صفحات وجهه. أمّا أمّ ربيع، فلا يهمّها قول قائلٍ، وتستمرّ بالتصفيق... تنظر إلى وجه ابنها المضطرب، وتقول «أحسنت يا ربيع». وبعد مدٍّ وجزرٍ، أنهى ربيع مناقشة بحثه، وتنفّس التهمام بعد الغصّة. وأخيرًا، بعد دعوات أم ربيع، نجح ولدها، لكن لم تكن نتائجه على قدر توقّعاته.

كانت تلك بدايات الخيبة عند ربيع. الخيبة التي طالته في قاعة الجامعة لم تنتهِ بين تلك الجدران. يومًا بعد يوم، يتقدّم للوظائف هنا وهناك، ولا يجد فرصةً للعمل، وأمّ ربيع تخبز التنور وتبتسم، «لا تخف يا بُنيَّ، أليس الصبح بقريبٍ». يخرج كلّ يومٍ من منزله، يقرع باب الشركة تلو الأخرى، ويزداد اليأس في قلبه. كلّ صباحٍ، يجد الناس منهمكين في أعمالهم، والأسواق تكتظّ بالمشترين؛ جميعهم يعملون، ينفقون أموالهم، يشترون ما يريدون. يأتي عيد الأم، ومحّال الذهب تعجّ بالمشترين، وربيع ينتظر الوظيفة ليشتري لأمّه قلادةً كما وعدها. ثمّ تمرّ الأيام، ويأخذ اليأس منه كلّ مأخذ، وهو لا يجد عملًا، ويتخبّط بين جدران منزله الصغير. وليس هناك أيّ خبرٍ عن وظيفةٍ... لم يعد أصلًا مهتمًّا بالبحث، وأصبح يلازم السرير.

«لماذا أنا الخاسر دائمًا؟ كلّهم لديهم آباءُ يساندونهم إلّا أنا... كلّهم يجدون الوظائف المحترمة، كلّهم يتزوّجون، كلّهم مرتاحون، إلّا أنا يا سارّة، لماذا؟ لا أمل عندي سوى السفر يا سارة، لقد أخبروني عن تلك السفن التي تحمل المهاجرين ليلًا إلى تركيا، لعلّني أجد عملًا هناك.»

«اصبر يا ربيع، لا تقدم على أمرٍ غير عقلانيٍّ، يعاقبك عليه القانون. اصبر، أصدقاؤك يحالفهم الحظ اليوم، وغدًا دورك، ولعل الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ  لي».

«دوري! أحقًّا تعتقدين؟ اسمعي يا سارّة، يبدو أنّ الأمر متعلّقٌ بي. أنا بؤرة نحوسة... أبي مات عندما ولدت، لقد كنتُ وجهَ الشؤم... أمّي تكاد تشتعل في ذلك التنور، وظهرها أصبح كقنطرة قلعة القيصر لأجلي، ثمّ أدرس وأتعب وأشقى، ولا أجد نتيجةً... جميع أصدقائي وجدوا وظائفَ محترمةً، وها أنا منذ عامٍ ونصفٍ وأنا أبحث. أتعلمين، ربّما أنا وجه نحوسةٍ لك أيضًا. يجب أن ننفصل! أخبري أهلك بأن ربيع ليس أهلًا للزواج. قولي لهم أنّه فاشلٌ كئيب، ولا أمل منه في شيءٍ. قولي لهم أنّ الله يلطف بجميع الخلق إلّا به. فلينتهِ كلُّ شيءٍ يا سارة...»

«حقًّا لقد مللت من تشاؤمك هذا. كلّ يومٍ تزيدني يأسًا معك. عندما تعود إلى رشدك وتتذكر أنّ لك ربّاً يرعاك، كلّمني».

مضى ذلك الأسبوع وربيع يفكّر بالخلاص من تلك الحالة. لقد ملّ من ذلك السرير البالي، ولم يعد يأنس حتى بحديث أمّه المسكينة. «وماذا يعني إن خسرت سارّة، لقد خسرت كلّ شيءٍ أصلًا.  وأيّ ربٍّ يرعاني وهو يأخذ منّي كلّ شيء؟! لعلّه لا يحبّني أصلًا... ولِمَ أعيش هنا؟ يجب أن تتخلّص أمي من هذا الولد الشقيّ. سأسافر في تلك البواخر خلسةً غدًا، فإن التهمني البحر كان خيرًا لي، وإن نجوت لعلّي أجد عملًا أعوّضها به عن تعب تلك السّنين. وإن كانت كلّ رَجْوِي أن أغرق كغيري وأموت...»

وبعد أيّامٍ قليلةٍ، تلقّى ربيعٌ اتّصالًا من ذلك الشّابّ الذي وعده بالسّفر، وأخبره بأن الزّورق سيحملهم صباح يوم الجمعة. لم يكن لديه الكثير ليحزمه، فكلّ ما يملكه هو بعض الثياب القديمة، وشهادةٌ تكدّس فوق غلافها الغبار، لا يهتمّ لأمرها حتّى، ولا ينوي حملها معه. وقبل أن تخترق أشعّة الشّمس نافذة الغرفة القديمة، وتوقظ تلك العجوز لتشعل تنّورها، حمل حقيبته وخرج دون أن يودّعها. ثم سمعت الباب وهو يُغلقه، فاستيقظت ورفعت يديها إلى السماء قائلةً: «يا ربّ المساكين، بحقّ فجر الجمعة هذا، فرّج عن ولدي ربيع، وافتح له خزائن رزقك، وردّه إليّ اليوم سالمًا، فإنّ قلبي يحدّثني أنّه في ضيقٍ. أنت الذي قلت: ادعوني أستجب لكم، وأنت خيرُ مجيبٍ. لقد أمضى عمره بارًّا بي، وقد وعدتَ عبادَك البارّين بمفاتيح رزقك». ثم قامت وصلّت جنب فراش ربيع، وبدأت تدلّك ذلك العجين المختمر وتقول: «سبحان من جعل اللين في قلوب عباده... اللهم ليّن قلب ولدي لحبّك والتسليم لأمرك وقضائك».

وفي تلك الساعات العصيبة، صعد ربيع على متن الزورق، وهو يفكّر بأمّه المسكينة. رفع هاتفه ليكلّمها، ليستسمحها قبل الرحيل، وهو يتذكّر ما قاسته من ألم السنين لأجله، وجلّ ما يفكّر فيه هو كيف يعينها ويخلّصها من ذاك الفقر والتعب، وإذا بهاتفه يرنّ! إنّه رقمٌ غريب، من عساه يكون. وما إن أجاب ربيع، حتى استبشر بسؤالٍ من رجلٍ يبدو على صوته الوقار، «... هل تستطيع أن تحضر اليوم إلى شركتنا لإجراء مقابلة؟ لقد نصحنا بعض أصدقائك أن نرسل بطلبك لوظيفةٍ إداريّةٍ مرموقةٍ في شركتنا، وأخبرونا بأنّك كفوءٌ ومجتهدٌ. نرجو أن تكون عند حسن ظنّنا».

لم يصدّق ربيع ما كان يسمعه، أيُعقل أن تكون هذه فرصتَه؟ تخبطّت مشاعره، وتبدّلت معالم وجهه، وسبقته قدماه للخروج من ذلك الزورق المشؤوم. سارع إلى الشّركة... حاز على إعجاب المدير... دخل إلى المكتب المجاور، ليجد سارّة تجهّز مكتبه!!! كيف هذا؟ كلّ شيءٍ تغيّر بسرعة... وكأنّ فؤاد أمّه دلّها على ذلك، فاتصلت تطمئنّ عنه وهي تقول: «بني، لعلّ الذي أبطأ عنك هو خيرٌ لك»...

«أمّي، يا نور عيني، لو تدرين أين أنا... الحمد لله، لن تخبزي في التّنّور بعد اليوم يا أميّ»...