-----------

الإبداع في سن المراهقة ، علماء صغار

{ زينة شيت }

الإبداع في سن المراهقة ، علماء صغار

تخيل معي قليلاً هذا المشهد:

أنت تعيش في محيطٍ لِنَقُلْ أنّه أبيض اللون. تمارس حياتك بشكلٍ طبيعيٍّ، تستيقظ صباحاً، تتناول الفطور (إذا كان هناك متَّسعٌ من الوقت). تذهب بعدها إلى المدرسة أو الجامعة أو ربّما إلى عملك. تقابل الزملاء وتقوم بما تريد القيام به، لتعود بعدها إلى منزلك وتقضي الوقت مع العائلة وتخلد إلى النوم لتحلم قليلاً وتستيقظ مجدَّداً لتعيد النمط نفسه.

 يبدو ذلك مملّاً، أليس كذلك؟

ماذا لو خرجنا من هذا البياض السائد، أو ربما أضفنا بعض الألوان إليه؟ سننظر إلى المشهد نفسه بأبعادٍ مختلفةٍ وكلٌّ منَّا على طريقته. هذا ما يميِّز كلَّ فردٍ مِنّا عن الآخر، نظرته إلى الأشياء. وعندما ننظر خارج المحيط الأبيض نمارس حينها الإبداع. فللمبدع عقلٌ يخترق به حواجز كلَّ ما هو «تقليديٌّ». وكلّما طوّرنا قدراتِنا الإبداعيةَ منذ الصّغر، أصبحنا أسياد أنفسنا. من هنا نجد أهمية الإبداع خصوصا في مرحلة المراهقة، التي يعتقد البعض أنّها أهمّ مراحل النمو لدى الفرد. وما أن قمنا بتجهيز محيطٍ سليمٍ للمراهق، ضمِنَّا له دفةً لسفينة حياته.

وفي ما يلي عرضٌ لِنماذجَ إبداعيةٍ من بعض المراهقين:

العلماء الصغار

“لو خسرنا، لا تأسوا ولا تنزعجوا.  نحن هنا من أجل الاستفادة ولا من أجل الربح.” هي أكثر الكلمات التي أثّرت على عليّ ابن الـ 17 عاماً، الذي وقف مع زملائه يداً بيدٍ ليرفعوا اسم لبنان عالياً. تلك الكلمات الخالصة والنابعة من قلب مدرِّبهم الأستاذ حيدر بيضون كانت الحافز الأكبر لهم. فتيانٌ لا تتجاوز أعمارهم السبعة عشر، عملوا بروحٍ جماعيّةٍ  لخلق روبوتات كانت كفيلةً بإظهار الإبداع والإصرار لدى الطلّاب. فبعد التفوّق في مباريات الروبوت «فئة السومو» الذي حققته فرق مدارس المصطفى (ص) عامّةً، تأهل للمباريات العربية فريقان من تلك الثانوية، للمشاركة في «البطولة العربية للروبوت” في مدينة شرم الشيخ في مصر، التي شارك فيها 45 فريقاً من 16 دولةٍ عربيّةٍ على أمد ثلاثةِ أيّامِ بإشراف لجنة تحكيمٍ دوليّةٍ.

وفي مقابلةٍ مع الطالب علي رمّال، سرد لنا علي قصة «العلماء الصغار». لتطوير القدرات العقليّة لدى الطلّاب وفي ظل التطوّر التكنولوجيّ الملحوظ، كانت فكرة إقامة «نادي الروبوت» في الثانويّة الذي تألف منذ سنتين من طالبين فقط، إلى أن أصبحوا هذه السنة ثلاثة عشر طالباً. ويقول علي “عملنا على روبوت اسمه “السومو SUMO” الذي وضع على الحلبة مع روبوت آخر ليتخاصموا من دون تحكم أصحاب الروبوتات بهم وذلك من خلال برمجة مسبقة لهم على اللابتوب.” ويتابع  “الروبوت الذي يبقى على أرض الملعب هو الفائز”. وقد نال الطلاب المرتبة الثالثة على لبنان  في البطولة الأولى للروبوت NERD 18،  لذا عمل الطلاب على اكتشاف الأغلاط في الروبوت وإعادة برمجتها. راقب الحكام طريقة الروبوت الإستراتيجية، الأمر الذي خوّلهم للمشاركة في البطولة العربية. سافر الطلاب الخمسة إلى مصر «لم نصدّق أننا وصلنا إلى هنا” يقول علي بعيونٍ برّاقةٍ.

واجه الفريقان العديد من الصعاب أثناء الرحلة، حتى أنه في ليلة البطولة بقي أعضاء الفريق إلى الصباح الباكر منهمكين في تصليح عطل طرأ عليهم. وبعد ساعاتٍ من السهر الطويل، عاد الطلاب مكلّلٌ تعبهم بالنجاح. ويضيف علي «عدنا الى لبنان بإستقبالٍ رائعٍ في المطار من قبل أصدقائنا في الصف ممّا شكل حافزاً لدينا لمتابعة المسير». لم تتخطَّ فترة الراحة لدى الطلاب أسبوعاً واحداً، حتى عادوا إلى العمل وقاموا ببرمجة روبوت يخدم البلديات لبطولة ARC4 اللبنانية. ويشرح علي هنا « قمنا بصناعة روبوت يدخل إلى أنابيب المجاري تحت الأرض وهو مزودُ بكاميرا تعمل بدون أسلاكٍ أيْ Wireless ومن أمامه يوجد موتور يدور بسرعةٍ فائقةٍ لوحده عند رؤية الأوساخ عن طريق sensor وبذلك يقوم بتنظيف الأنابيب بشكلٍ سليمٍ”. ولدى سؤالنا له من أين أتت تلك الفكرة يجيب علي «بعد ملاحظة إقفال ريغارات المياه كل سنة، بعد فصل الشتاء، مما يشكل عائقاً أمام السكان».  وبدقةٍ عاليةٍ ومبهرةٍ حصل الروبوت على المرتبة الأولى في البطولة. ويبدو أن حماسهم لم يقف هنا، فتابع الطلاب المشاركة في بطولاتٍ عدةٍ إلى أن حصلوا على المرتبة الثانية في نهائيات السومو والمرتبة الثالثة في بطولة «Robot - Race”. يقول علي بفخرٍ عظيمٍ «أنهينا السنة بإحراز 5 بطولات للمدرسة وذلك الجبل الذي شعرنا به على ظهورنا، أزالته لحظات الفرح بالبطولات». عزيمتهم تلك لم تتوقف بعد، فيضيف علي «إن شاء الله سنشارك السنة القادمة ببطولة FTC والقادم أكثر».

وأخيراً يتوجه علي إلى كل المراهقين من عمره «البرمجة والتفكير تساعد في تنمية القدرات العقلية، فلا تهملوا هذا المجال. تجربتي كانت رائعةً وما دفعني إلى المثابرة هو التشجيع من قبل أهلي والمدرسة والأهم هي روح الجماعة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه.»

“شعرت أنني الأقوى”

تقول الطالبة زينب شمس الدين:» أيُّها المسؤولون، أيُّ اللُّغاتِ على متن أبجديِّتِها تَصِفُكُم؟ جرَّدتم الحروفَ من يَدي، والحبرَ من قَلَمي. طال انتِظاري وقبل أن يفرُغَ صَبري حَدَّدتُم مَصيري. ماذا أصِفُ بِكم؟….» هكذا خاطبت زينب مسؤولي الوطن، بقلبٍ محروقٍ على مستقبل أبنائِه. ومع أنهم جرّدوا الحروف من يديها والحبر من قلمها، بقي ذلك القلم يتدفّق أدباً ليحصل ما لم تكن تتوقّعه أبداً.

زينب ابنة «جون» قضاء الشوف، طالبةٌ من مدرسة المهدي شاهد (عج) وعمرها ستة عشر عاماً. شخصيةٌ هادئةٌ وكما تقول «تتحمس للتجارب الجديدة في الحياة». ومنذ صغرها تنجذب للشعر والموسيقى والقضايا الوطنية. في عمر الثالثة عشرة كانت لها فرصة المشاركة في مسابقة التعبير تحت عنوان «كيس النفايات لو تكلم» في ظل أزمة النفايات في لبنان.

 فقد أقرت جمعية «جائزة اللغة العربية» في جمعيتها العمومية، برنامج نشاطاتها للعام 2016، وذلك بمشاركة عددٍ من المدارس من بينها مدرسة المهدي شاهد (عج). المسابقة على محورين اثنين،  الأول جائزة التعبير الشفوي «قراءة أكاديمي» والثاني جائزة التعبير الكتابي - «تواصل أكاديمي». وكعادتها، كانت زينب أول المتطوعين وشاركت في المحور الثاني للمسابقة، وتقول «أحببت المشاركة في تلك المسابقة، وقلت لنفسي ما المانع ربما تكون تجربة مفيدة». وتضيف: «في البداية كنت متحمسةً جدّاً، ولكن مع مرور الوقت وبسبب الضغط الذي عانيته في المدرسة ما بين الامتحانات والبحوث، وصلت إلى الموعد النهائي ولم أكتب شيئا. فاعتذرت من معلمتي عن المشاركة». لم تفقد المعلمة الأمل وشجعت طالبتها المثابرة على المشاركة ولو بشيء بسيط. تابعت زينب «كان المطلوب من المشاركين أن يسعوا إلى إيجاد الحلول على قاعدة حل المشكلات (Solving Problem) من خلال مقالةٍ إعلاميةٍ مرفَقةٍ بالمستندات والصور. لذا بدأت الكتابة عند الساعة العاشرة وأنهيت في منتصف الليل. وفي اليوم التالي سلمت العمل للمعلمة.» وبعد إعلان أسماء المشاركين بالمسابقة الرئيسية، كانت زينب أحد المشاركين ضمن مدرستها، ذهب الطلاب في يومٍ محدَّدٍ إلى القاعة المحدّدة لكتابة نصِّ غيرِ محضَّرٍ في مهلةٍ أقصاها عشرين دقيقةً. تقول زينب “الموضوع هذه المرة كان عن شكر النفايات للمعنيين من بعد حلِّ أزمة النفايات. رغم مشاركتي في اللحظات الأخيرة، لم أتوقع أنني من الممكن أن أتأهّل إلى المسابقة وفي اللحظة التي سمعت اسمي من بين المتأهلين شعرت أن جسدي بقي معلقاً على الكرسي حتى أنني لم أستطع التحرك وشعور الفرح والخوف يختلطان داخلي.» تلك الصدمة كانت ايجابيةً بالنسبة لزينب، رغم التوتر الذي ساد في الأجواء ورغم بقائها لوحدها دون أيِّ مساعدةٍ في القاعة، عملت زينب على كتابة مقطعٍ شاملٍ وغنيٍّ. وعند الانتهاء، ذهب الطلاب إلى المسرح وكانت زينب أول المبتدئين في إلقاء نصها وفي قول منها «شعرت أنني الأقوى». ثقتها بنفسها أضحت حافزاً، «زينب الأولى على أكثر من عشرين مدرسةً في التعبير». تقول زينب «عند وصولي إلى المدرسة سمعت الكثير من الجمل المؤثرة الجميلة مثل «رفعت اسم المدرسة» و»نحن فخورون بك» وغيرها من الجمل التي لن أنساها أبدا». وتابعت «حتى أنني لم أنْسَ غمرة أمي عند وصولي الى المنزل”.

اعتبرت زينب أن هذه التجربة كانت جميلةً ومفيدةً ولولا دعم أهلها والمدرسة لما وصلت إلى ما هي عليه. رغم الصعاب، زادت ثقتها بنفسها وتعرفت على أصدقاء من غير بيئتها. وتقول زينب «نصيحتي للمراهقين أن لا يضيّعوا فرص المشاركة في المباريات اللغوية والعلمية لأن ذلك سيكون بمثابة خبرة لهم وبالتأكيد سيكتشفون مهاراتٍ ربما كانت مجهولةً بالنسبة لهم”.

لا شك أنّ لكلٍّ من علي وزينب شخصيةً مختلفةً وبارعةً في ما هي عليه. وتلك البراعة تحتاج إلى من يدعمها ويثني على عملها. فالمراهق خصوصاً في مراحله الأولى بحاجةٍ إلى هذا الدعم لتطوير قدراته وتنمية شخصيته، ذلك لأن كلَّ واحدٍ لديه قدرةٌ كامنةٌ لأنْ يكون مبدعاً. لكن هذه القدرة لا تتحقق لدى الجميع لأنها تحتاج للخبرات اللازمة لتحقيقها والتدرّب الكافي على الموهبة الإبداعية.  لذا على الأهل أوّلاً الالتفات إلى مواضع إبداع الابن والعمل على تزكيتها وتأمين المحيط الملائم لها. وعلى المدرسة ثانياً أن تسعى لتطوير ما يسمَّى «بالذكاء الإبداعي» لدى الطالب للوصول إلى تحقيق الذات. وبذلك لن ينتهي الأمر بسفينته على الصخور.