-----------

المراهقون من الهوامش نحو الجماعات المنظمة

{ فرح الحاج دياب }

المراهقون من الهوامش نحو الجماعات المنظمة

سقط عرش الهوامش، وبات الفرد الذي يختار البقاء على الهامش كحرفٍ وحيد منزوٍ لا يحمل معنىً واضحاً وسط حروفٍ كثيرةٍ متشابكةٍ في جماعاتٍ منظّمةٍ من الكلمات المكتوبة على جبين المجتمعات الإنسانيّة.

البحث عن الهويّة الذي يبدأ في عمر المراهقة يشبه البحث عن إبرةٍ في كومةِ قشٍّ، هذه الإبرة التي يجدها الفرد ويخيط  بها بناءه الداخلي الذي يمثّلُ مجموع معتقداته وقدراته ودوافعه وتاريخه كما يؤكّد المتخصص في علم الإجتماع الأستاذ علي السّقّا، مضيفاً «كلما كان هذا البناء متيناً كان الفرد أكثرَ وعياً بأوجهِ التفرّد والتشابه مع الآخرين، وأكثرَ إدراكاً لنقاط قوّته وضعفه في شقّ طريق حياته، في حين أنّه كلّما كان هذا البناء ضعيفاً وهشّاً، بدا الفرد مشوَّشاً حول ما يميّزه عن الآخرين وصار أكثرَ اعتماداً على مصادرَ خارجيّةٍ لتقييم ذاته واكتشافها».ويضيف «لاشكّ في أنّ بناءَ الهوية ديناميكيٌّ وغيرُ ثابتٍ إذْ يتغير ويتطوّر في مراحل حياتية شتى، فتُضاف عناصرُ جديدةٌ لهذه الهويّة وتزال أخرى، إذْ إنّ الإنسان دائم البحث والاكتشاف، إلا أنّ معالم تحديدها تبدأ خلال المراهقة كونَها مرحلة عمريّةً فاصلةً بين الطفولة وسنّ الرّشد، وتعرف تقلّباتٍ مزاجيةً وهرمونيةً تمهيداً لمرحلة الشباب والمسؤولية والاكتمال الجسديّ والنفسيّ، وتؤسس لتشكّل الهويّة أسئلة وجودية يطرحها المراهق باستمرار على نفسه لتحديد أناه وهويته».

رحلة البحث عن الهويّة

تُعدّ الجماعات المنظّمة بمختلف اتحاداتها وجمعياتها وهيئاتها من أبرز قطاعات المجتمع أهميّة لكونها تضمّ شريحةَ الشباب التي تعتبر القوّة الأكثر تأثيراً في المجتمع، فتساهم هذه المنظمات ببناء هويّة المنضوين تحت لوائها عبر الأنشطة التي توجّه اهتماماتهم ورغباتهم نحو الممارسات

التي من شأنها أن تعزّز تربيتهم وترسّخها، فضلاً عن دورها الحيويّ في التقليل من أنماط السلوك المنحرف ووقاية المجتمع منه  لكونها تشكّل واجهةً جماهيريّةً عريضةً يمكن التعويل عليها في تحقيق الاندماج الاجتماعي والتوازن النّفسيّ لدى المراهق.

تشترك الجماعات المنظّمة في مكافحة الجريمة والوقاية من أسبابها بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ، من خلال أنشطتها الثقافيّة والتوجيهيّة والتهذيبيّة التي تسعى إلى  تكريس الممارسات السّلوكيّة العقلانيّة والمهذّبة عندهم حيث تبعدهم عن مواطن الجريمة وتدلّهم على السّلوك السّوي الذي يعتمده المجتمع وتقرّه الأعراف والقواعد الاجتماعيّة والأخلاقيّة، هذا ما يوافق عليه الصحافي المتخصّص في البيئة والقضايا الاجتماعيّة في مجلة نيوزويك الشّرق الأوسط مصطفى رعد مؤكّداً «انتمائي إلى الجمعيّات قد ساعدني على تطوير مهاراتي بالتواصل اللاعنفي مع الآخرين»، ويضيف «يعزّز الانتماء إلى الجمعيّات القدرة على التواصل الإجابي مع الآخرين، فشعورنا بالفرح يكتمل حينما نساعد إنسانا من دون مقابل، أو حينما نساعد حيواناً من دون أن نحصل على خدمة بالمقابل، وهو ما لا يفهمه بعض الناس، في زمن «البزنس» الذي يتعارض مع مبدأ الرحمة والتعاطف واللطف في التعامل مع جميع المخلوقات في حياتنا اليومية».

الجماعات المنظّمة تتحدى الملل والفراغ

تُعزّز الجماعات المنظّمة من فرص الاستغلال الصحيح لأوقات الفراغ بالأنشطة الترويجية المفيدة التي من شأنها أن تنمّي فكر المراهقين والشّباب، خاصّة في المجتمعات العربيّة الغارقة بالبطالة، هذا ما يؤكّده السّقا شارحاً «إنّ دور هذه الجماعات المنظّمة يتّضح في توجيه شريحة الشباب إلى استثمار أوقات فراغهم  بما يعود عليهم وعلى المجتمعِ بفائدةٍ بدلاً من قتلها وتبديدها، كما تبعدهم الأنشطة عن الملل وتقيهم العزلة والانطواء على أنفسهم، وتَحدُّ من سلوكهم الأنانيّ إذْ تحثّهم على العمل والتّضحية من أجل الآخرين»، ويضيف «تزوّد الجماعاتُ الشبابَ بخبراتٍ ومهاراتٍ جديدةٍ قد لا يستطيع أن يظفر بها في الجماعات المرجعيّة الأخرى، كما أنّها تُشبع الكثير من حاجاته كالحاجة إلى إشغال دورٍ معيّن يترتّب على أدائه تقديرٌ اجتماعيٌّ فضلاً عن الشّعور بالانتماء إلى عضوية الجماعة التي يجد من خلالها إشباعاً لحاجاته وميوله وإرضاءً لرغباته».

إنّ أهم ما يجعل المنظمات الجماهيريّة تتبوأ مكاناً مهمّاً بين مؤسّسات المجتمع الأخرى هو أنّها تعمل على ترسيخ المفاهيم التربويّة الحديثة بين مختلف شرائح المجتمع وفئاته العمرية المتباينة لاسيّما الشباب منها ضمن أهدافٍ اجتماعيّة محدّدة تترسّخ من خلال القوى الاجتماعيّة التي تتولى عمليّة التّغيير.

ويختم السّقّا «لهذه الجماعات أثرٌ بالغٌ في بناء شخصية الفرد وإعداده لخوض غمار الحياة وتحمّل أشقّ المسؤوليات بعقلٍ ناضجٍ ومتّزنٍ، ليكون قادراً في المستقبل على النهوض بأعبائه وتحمّل التزاماته على أكمل وجهٍ وأفضل صورةٍ».

بين اكتشاف المواهب واكتشاف «الأنا»

يتحدث الخطّاط والرسّام حسن يونس عن تجربته في جمعيّة «إبداع»، هذه الجّمعيّة التي تأسست سنة 2008‏ في منطقة الغبيري، والتي تهدف إلى اكتشاف المواهب الأدبية والفنية وتنميتها، وإقامة الورش التأهيلية والتعليمية والدورات المتنوعة، فتعقد اللقاءات الدّوريّة، وتنظّم النشاطات الأدبية والفنية، كما تسعى للمحافظة على التراث الأدبي والفني. وترعى إصدار الكتب والانتاجات الأدبية بالتعاون مع مختلف الجمعيات. يقول يونس «انضممت إلى جمعية «إبداع» منذ حوالي ٤ سنوات.. حين تلقّيت منهم دعوة للمشاركة في أحد معارضهم التي يقيمونها سنويّاً، كانت بدايةً ناجحةً جداً وانطلاقة إلى توطيد علاقتنا أكثر، ومنذ ذلك الوقت وأنا أشارك في نشاطاتهم ومعارضهم وورشهم الفنية»، ويضيف «تهتم الجّمعيّة بالفنّانين المحترفين وتقيم لهم المعارض الفنية، لذلك  استفدت كثيرا من علاقتي ب«إبداع» ورئيسها والمنتسبين إليها، إذْ فتحت لي آفاقاً  للتعاون معهم وتطوير قدراتي وتبادل الخبرات في مجالنا، ف «إبداع» تقف إلى جانبنا وتضع إمكاناتها في خدمتنا كما تقوم  بتنظيم نشاطاتٍ بمناسباتٍ عدّةٍ تجمع المحترفين والموهوبين الشباب الذين يتم اكتشاف مواهبهم التي تعمل الجمعية على صقلها لاحقاً من خلال الدورات المكثّفة، والجدير بالذكر أنّ لجمعية «إبداع» الفضل الأكبر في نشر الثقافة ودعم الفنون منذ انطلاقتها.

إلى جانب هذه الفنون، يبقى العملُ الإنسانيُّ والعطاءُ هو الفنَّ الأعظمَ على الإطلاق، هذا ما يؤكّده الشاب المتطوّع في الدّفاع المدنيّ علي مهنّا قائلاً «الدفاع المدنيّ منّا وإلينا»، ويضيف «أستطيع أن أقول أنّه لم يكن لحياتي أيُّ قيمة قبل أن أنضم إلى الدّفاع المدني، فقد أدركت من خلاله أنّ العطاء ومساعدة الآخرين هي ما يُقرّبنا من الله ومن الإنسان ومن حقيقة أنفسنا». يُثني مهنّا على جهود كلّ أفراد وعناصر الدّفاع المدنيّ معتبراً أنّهم أكثر من يتعب وأقلّ من ينتظر الشّكر أو الثناء.

لا يقتصر العطاء على مساعدة الإنسان للإنسان فقط، إنّما يتعدّاه إلى العطاء اتّجاه الطبيعة والبيئة، وهو ما يؤكّده الصّحافي البيئي الشّابّ مصطفى رعد والذي  بدأ اهتمامه بالجمعيّات منذ بدأ متطوِّعاً عام 2014 في جمعية Indy act في مشروع تنظيف شواطئ وبحر لبنان، «رغم خوفي من الماء، إلّا أنّني تمكّنت من تعلمّ رياضة الغوص لاكتشاف الأعماق».

يأسف رعد لكون الثقافة البيئية ضعيفة في المجتمعات العربيّة، وهو ما شجّعه للسباحة عكس التّيار إذْ بدأ العمل على كتابة تحقيقاتٍ بيئيّةٍ علميةٍ، صادقةٍ وموثوقةٍ وحياديّةٍ، من أجل حماية البحر والشواطئ وتعريف النّاس على أهمية التنوّع البيولوجيّ الموجود في البيئة البحريّة، إذ يؤكّد «الدولة لم تعمل بشكلٍ جدِّيٍّ على رفع الوعي والثقافة البيئيّة لدى النّاس، بسبب مشاركتها بشكلٍ أو بآخرَ في الفساد الذي أوصل البيئة إلى نقطةٍ دقيقةٍ جداً، لذلك سَرَت ثقافةٌ معيّنةٌ عنوانُها اللامبالاة بحال البلد في حال طمرتها النفايات، وهنا يبدأ دور الجّمعيات».

هكذا، وبينما يحتج المواطنون ويشتكون من خلف الشّاشات ومن على المنابر الافتراضية، قرّر رعد أن يغوص في عمق البحر وينظّفه قدر المستطاع، مؤكّداً «لقد تمكنت بدءاً من العام 2016 من إنشاء المركز اللبناني للغوص مع مدرّب الغوص يوسف جندي، لتعليم الناس مبادئ الغوص وأهمية الحفاظ على الموائل التي تعيش فيها المخلوقات البحرية ومن ضمنها السلاحف والدلافين والحيتان».

يختم رعد «الله خلق الحياة لنتشاركها مع جميع المخلوقات، ولم تُخلق فقط لنا وحدنا، لذلك مهمّتنا أن نحميَ هذه المخلوقات ونمدّ لها يد العون طالما دعت الحاجة، من دون أن ننتظر أن نحصل على شيء بالمقابل»، متوجّهاً بالنّصح لجميع الشباب والشابات بضرورة الانضمام إلى الجمعيات إذ إنّها ضرورةٌ وطنيّةٌ وأخلاقيّةٌ.

الجماعات المنظّمة ابنة بيئتها

«قد يسلك المراهق الذي ينأى بنفسه عن الجماعات المنظّمة كلّيّاً منحىً سلبيّاً في استكشاف ذاته» كما يؤّكّد السّقّا معتبراً أنّ الهويّة تُبنى على عدّةِ مراحلَ تبدأ من الأسرة والعائلة الممتدّة ثمّ المدرسة، ومن بعدها الأحزاب والجمعيات والتي ترسّخ ارتباط هويّة الفرد بالهويّة الاجتماعيّة، فالأحزاب والجمعيات والمؤسّسات الكشفيّة هي وليدة بيئتها مهما كانت البرامج والمشاريع والأفكار التي تقدّمها، إذْ إنّها نتاجٌ طبيعيٌّ لحركة المجتمع الذي تنبع منه». ويضيف «إنّ أهم ما تفعله الجماعات المنظّمة من خلال برامجها هو ربط الفرد بالجماعة التي ينبثق عنها بشكلٍ أكثرَ تنظيماً، مشيراً إلى أنّه وعلى الرّغم من الدّور الايجابيّ الذي تلعبه هذه الجماعات، إلّا أنّها في الوقت عينه مؤسساتٌ مؤدلجةٌ تعمل على قولبة الفرد إلى حدٍّ لا يُمسي بعدها قادراً على رسم هويّته بعيداً عن الخطوط التي تحدّدها له».

يؤكّد السّقا أن المراهق الذي يندمج مع الجماعات الثانويّة، ستبقى هويته مكتسبةً من وسطه العائليّ ومجتمعه الضّيق المحيط به كما أنه سيكون ملتزماً بهذه الهوية الموروثة، أيْ أنّ قناعته لن تكون نابعةً من ذاته، كما أنه سيتبع سياسيّاً لما هو سائد، وهذا الفرد غالباً ما تحدد له عائلته مساره الدراسيّ وبقية القيم والمبادئ التي تكون مكتسبةً وملقّنةً له، ويضيف «الجماعة الثانويّة هي حاجةٌ فرديةٌ للخروج من كنف الأهل، إذ يحاول الفرد اكتشاف هويته وميوله واهتماماته وفي الوقت نفسه هذه الجماعة الثانويّة هي جزءٌ من المجتمع وقيمه وخطوطه العريضة.

ضع نفسك موضعاً حسناً

في خضم أزمة الهويّة التي يعاني منها الشباب العربي اليوم، وبين الجّماعات المنظّمة وأيديولوجياتها، ومدرسة الأهل وقيمهم وعاداتهم، ووسائل التواصل المعولمة التي تضخ لهم أفكاراً غريبة عنهم تربطهم بعادات وتقاليد أخرى في عمر مبكر جداً، تبقى هويّة الشبّاب العربي مسؤوليتنا جميعاً، وبالأخص مسؤولية الشاب نفسه الذي يتوجّب عليه أن يضع نفسه موضعاً حسناً فيحسن اختيار الجّمعيّة والجماعة التي يريد الإنتساب إليها، فيختار ما يجمع بينه وبين رضا الله عزّ وجل، وبالتالي يجعله في خدمة الله والإنسان والمجتمع.