-----------

تصميم ذكي لا صدفة عمياء

{ سامر توفيق عجمي }

تصميم ذكي لا صدفة عمياء

«شهادة كلّ فطرة سليمة على أنّ فاعل هذا الترتيب العجيب والنظم المحكم، يستحيل أن تكون قوّة عديمة الشعور»[1].

الفيلسوف ملا صدرا

أيّها الملحد، عندما تصدّق أنت أنّ قِرداً على الرغم من أنّه يتمتّعُ بالحياةِ والشعورِ والإدراكِ الحسّيّ، ودرجةٍ من الذكاء - بغضّ النظر عن نسبتها رياضيّاً - قادرٌ وبفعلِ عاملِ الصدفة، على تأليف كتابٍ واحد، ينقضُ فيه نظريّاتِ ستيفن هوكينغ وريتشارد دوكنز. حينَها فقط قد أصدّق أنا، أنّ الفراغَ العدميَّ، أو المادّةَ العمياء أو الصدفةَ الصمّاء، قد أوجَدَت كلَّ هذه الكائناتِ العجيبةِ بتصميمِها الذكيّ الذي أذهلَ عقول العلماء!

فهل هناك وراء هذه الكائنات - التي تثيرُ الدهشةَ بدقَّةِ تصميمِها، وتحيُّر العقولَ بتناغمها الوجوديّ - مصمّمٌ ذكيّ أبدَعَها؟! أهي أخرَجَت نفسَها من فراغٍ عدميٍّ إلى الوجود بفعل الصدفة واللاشيئيّة؟!

في رحلة البحث منذ بَدء النظرِ في الوجود حتّى اليوم، ثمّة فرضيّتان لم يعثرِ العقلُ بعدُ على ثالثةٍ لهما: إمّا المصمّمُ الذكيّ وإمّا الصدفةُ العمياء، وفي الأعمّ الأغلب كان التصويت لمصلحة: نعم، الله موجود.

إنّ عالِم الحيوان أو عالِم النبات أو عالم الفلك، عندما يكتبون في مسألةٍ واحدة فقط، عن حيوانٍ فردٍ أو نبتةٍ واحدةٍ أو كوكب صغير، فإنّهم قد يكتبون آلاف الصفحاتِ التي تحتوي تفاصيلَ عجيبةً عن صُنعِه ودقّةِ هندستِه، وعن القوانينِ الداخليّةِ التي تحكُم وجودَه. ولا ريْب في أنّها تفوقُ آلافَ المرّات التصميم الذكيّ الموجودَ في الهاتف المحمول، والذي لا يُمكِن أن تُصدِّقَ عندما تنظُرُ إليه، بأنه صناعةُ الصدفة والعدم. بل هو إنجازُ مصمّمٍ ذكيٍّ يابانيّ أو أمريكيّ أو آخر...؟!!

هذه هي التجربةُ اليوميّةُ لكلّ واحد منّا في الحياة، مع الهاتف والتلفزيون والسيّارة والكمبيوتر وديوان الشعر والمنزل الجميل و...، فلا نتصوّر يوماً أنّ واحدةً منها قد خرَجَت إلينا من اللاشيء، ووضَعَت نفسَها بين أيدينا. بينَما يريدُ الملحدُ أن نتصوّرَ ملياراتِ الكائناتِ التي تفوقُها ذكاءً في التصميم، قد خرَجَت إلينا من اللاشيء والعدم؟!!

ما عشتَ أراكَ الدهرُ عَجَباً!

نعم، إنّه جنون الإلحاد. عندما يريد الملحدُ أن نصدّقَ ما يتناقض مع أبسطِ قوانين العقل والتجربة، ونكذّبَ ما تشهدُ عقولُنا ببداهتِه!

إنّها خديعةُ الإلحاد التي تكمُن في تحويلِ اليقينِ البديهيّ بقضيّة أنّ «الله موجود»، إلى مجرّدِ فرضيّةٍ محتملة. أو فرضيّةٍ قد تجمَّعَتِ القرائنُ والأدلّةُ على نفيِها بواسطة رشقاتٍ من الشٌّبهات البروباغانديّة والأسطوريّة.

هل يُعقل أن تكون مجموعةُ الأنظمةِ والقوانينِ التي تضبِطُ إيقاعَ العناصرِ المختلفةِ في الكون، في شبكة مترابطة ومنسجمة، صدفة؟!

هل يُعقل أنّ هذا الانسجامُ الكونيّ الذي يسيرُ نحو هدفٍ مشترك، وهو أن يكون صالحاً لحياة الإنسان وعيشِه فيه، صدفة؟!

لو فرضنا – بأدب الحوار - أنّ المادّةَ الفاقدةَ للحياةِ والشعورِ والذكاء والإدراك، قد تحوّلت عبر مليارات السنين ذاتيّاً إلى كائناتٍ حيّةٍ ذكيّةٍ مدركة (على الرغم من أنّ فاقد الشيء لا يمكن أن يكون مُعطيّاً له؟!)، يبقى السؤال الذي لم يستطع أيّ ملحد أن يجيب عنه: من أوجد المادّة الأولى؟

 ولو فرضنا – بأدب الحوار أيضاً – أزليَّة المادة، فمن أبدَعَ القوانين (كقانون الحركة والجاذبيّة والتمدّد و...) التي ساعدت المادّة على التحوّل إلى ما نُعايِنُه من كائنات؟!

الواقع أنّ وجودَ النظمِ والقوانينِ والتصميمِ الذكيّ، يطرُدُ فكرةَ العبثيَّةِ والصدفةِ خارج التاريخِ المعرفيّ للبشر. وذلك بتضاؤلِ نسبةِ احتمالِها رياضيّاً إلى درجةٍ تُقارب الصفر. ما يجعلُنا نستبعدُ على الأقل، فرضيّةَ أنَّ قوّةَ النّظم قد حصَلَت من الطبيعةِ ذاتِها، من دون حاجةٍ إلى مؤثّر خارجيّ.

وقد يقتحِم علينا من يُنكرُ فكرةَ النظامِ في الكون، فما يُقال عنه إنَّه نِظام، ما هو إلّا وهمٌ صاغَه الذهنُ البشريّ، وإلّا كيف نفسّرُ وجودَ التسوناميّ والفياضانات والزلازلِ والبراكين... إلخ، فهل هذه فوضى أم نظام؟

لعلّه غَفَلَ عن أنَّ ما ذكرَه يؤكّدُ فكرةَ النظام ولا يُلغيها. فهو مع ماذا يقارنُ هذه الظواهر الطبيعيّة؟ ولماذا لم يختر إلّا بعض عناصر الطبيعة؟

إنّه يقارنُها مع فكرة النظام كي يراها فوضى، وعليه فإنّ الشيء قد «يُظهرُ حسنَه الضدُّ». كما أنّ فكرةَ وجودِ أنظمةٍ وقوانينَ تحكُم حركةَ الظواهرِ الكونيّةِ بصورةٍ متَّسِقةٍ ومُنسجمة، هي موضعُ اتّفاقِ العلماء. وإلّا لولا هذه القوانين، لا معنى للحديثِ عن أيّ علمٍ من العلوم الطبيعيةِ كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلك والطبّ وغيرِها، لأنّها علومٌ مبنيّةٌ على أساسِ الإقرارِ بوجودِ قوانينَ كونيّةٍ عامّة، كقانون الجاذبيّة، وقانون الحركة، وقانون الاطّراد... إلخ.

إلى ذلك، فإنّ النظام لا يُعايِنه الخبيرُ المتخصِّصُ وحسب. بل إنّ كلَّ إنسانٍ يُلاحِظُ هذه النظمَ في الكون، بتكرُّرِ مشاهداتِه الحسّيّةِ. ويحدِّدُ أساليبَ حياتِه العَمَليَّةِ في التجارةِ والزراعةِ والصيدِ والسفر و...، في ضوءِ الحركةِ المنتظمةِ للظواهر الكونيّة. كحركةِ الشمسِ من الشرق إلى الغرب، وتعاقب الليل والنهار، والفصول الأربعة، ومواقع النجوم،  إلى عشراتِ آلاف الظواهرِ التي تعملُ بشكلٍ منتظم، فتُسهِّلُ علينا مسيرةَ الحياة.

لقد صدق فرنسيس بيكون - وهو الأبُ المؤسّس للمنهج العلميّ الحديث - عندما قال: «هؤلاء الذين يُنكِرون الله يحطّمون كرامةَ الإنسان. لأنَّ الإنسانَ من حيثُ الجسم، شبيه بالدوابّ. وإذا لم يشبه الله من حيث الروح، أضحى مخلوقاً وضيعاً وحقيراً»[2].

فلا تحطّموا كرامتي الإنسانيّة.

----------------------------

[1]- الشيرازي، محمد (المعروف بصدر المتألهين الشيرازي)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981م، ج9، ص118.

[2]- جهانكيري، محسن، فرنسيس بيكون آراؤه وآثاره، تعريب عبد الرحمن العلوي، ط1، دار الهادي، بيروت،1426ه-2005م،  ص211.