حواراتٌ عديدةٌ خضت غمارها مع غير المتديّنين واللاأدريين، تمحورت حول قضايا فلسفيةٍ ودينيةٍ متنوعة، ثمة نقطة كانت تلفت نظري في كلّ نقاش معهم عندما أطرح عليهم السؤال التالي: هل تنكرون حاجتكم إلى الدين نتيجة قيامكم ببذل جهدٍ في البحث والتفتيش عن أجوبةٍ تشغل عقل الإنسان وتقلق فكره حول الخالق والحياة والموت والمصير... إلخ؟ أم أنكم اتخذتم هذا الموقف بفعل عوامل شخصية لا علاقة لها بتنقيبكم عن الحقيقة؟
كان جوابهم يأتي عاصفًا بصورة استفهامٍ يستنكرون فيه ضرورة البحث عن الدين، قائلين: لماذا نُتعب أنفسنا في البحث عن الدين ونقضي جزءًا من عمرنا في التفتيش عنه في حين أنه يمكننا أن نقضي وقتنا في أمورٍ تعود بالنفع الملموس واللذة المحسوسة على حياتنا؟!
لمست أن موقف أكثرهم من الدين سببه دوافع ذاتية ومصالح شخصية ولا علاقة له بالمعرفة والموضوعية، لم يكن قرارهم قد تمّ اتخاذه بفعل بحثٍ وتفتيشٍ عن الحقيقة، وهم بسلوكهم هذا يناقضون نداء الطبيعة البشرية، فهل يمكن لعاقلٍ إنكار أن الإنسان معجونٌ بأصل خلقته بغريزة حبّ الاستطلاع عن الحقيقة؟
ألم يعش هؤلاء عندما كانوا أطفالًا حالة الإكثار من السؤال؟! كم مرةً – بدافع من فضول الاستكشاف – بادروا أهلهم بالاستفهام عن كلّ ما يحيط بهم من أشياء وما يختبرونه من مواقف وما يسمعون عنه من أفكار؟!
ألم يسمعوا في البيئة التي يتحركون داخلها، أو عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أو في المتون التي قرؤوها في المدارس والجامعات، أو القصص والروايات التي طالعوها... عن أنّ الأعمّ الأغلب من البشر هم متديّنون؟ ألم يخطر – حينها – في بالهم أن يسألوا أنفسهم: هل جميع هؤلاء البشر بمن فيهم من عقلاء وعلماء وفلاسفة وأدباء وشعراء وقادة... مخطئون في اعتقادهم؟ ألا يحتملون – ولو على مستوى الاحتمال – أن يكون الحق مع المتديّنين؟
كيف استطاعوا أن يحجبوا غريزة حبّ المعرفة في البحث عن الحقيقة؟! كيف قاوموا إغراء البحث عن الدين من أنه هل هو حقيقة أم خيال؟! كيف تمكنت عقولهم من أن تقف صامتة عن إثارة الاستفهامات حول القضايا المصيرية في الحياة؟
لكن الحقيقة أنهم لا يمكنهم أن يحجبوا النداء الداخلي لفطرة عشق المعرفة الذي يلحُّ عليهم بقوةٍ للبحث عن الجواب؛ خصوصًا في لحظات الخلوة مع النفس، أو التأمل قبل النوم، أو أوقات الأزمات والمصائب التي تعصف بهم، لأنّ هذا النوع من شغف البحث هو الذي يبني تصورًا واضحًا عند الإنسان عن الخلق والحياة والموت... فيطرد هواجس الجهل، ويرفع الشعور النفسي بالقلق الوجودي الذي يتركه فراغ البحث عن الحقيقة.
فالبحث عن الدين هو تنقيب عن الحقيقة، وتلبيةٌ لنداء الطبيعة البشرية العاشقة للاستطلاع، هو تحقيقٌ للشعور النفسي بالاستقرار والهدفية في الحياة.
وإذا حفرنا أعمق من ذلك في النفس الإنسانية نلمس بالوجدان أن الشعور الديني مجبولٌ داخل كلّ واحدٍ منّا في عرض الميول الوجدانية الأخرى كحبّ المعرفة وعشق الجمال والشعور بالخير الخلقي... وهذا الشعور الديني هو الذي يدفع الإنسان نحو الالتزام الأخلاقي أمام قوةٍ عظمى في هذا الكون لها على الإنسان حقّ الطاعة.
وقد اعترف كثير من علماء النفس بتجذّر الانجذاب نحو الإله في وجدان الإنسان[1]، وكذلك أثبتت الدراسات الأنثربولوجية وأبحاث تاريخ الأديان وعلم الآثار والحفريات... تأصُّل الشعور الديني في حياة الحضارات البشرية كافة.
يقول مؤسس علم النفس التحليلي كارل يونج – وهو تلميذ سيجموند فرويد: «إن انعدام الشعور الديني يسبّب كثيرًا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الأمان والنزوع نحو النزعات المادية البحتة، كما يؤدي إلى فقدان الشعور بمعنى ومغزى هذه الحياة ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع» [2] .
وورد في معجم لاروس للقرن العشرين: «إن الغريزة الدينية مشتركةٌ بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجيةً، وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية»[3] .
وإذا تأمّلنا في وجداننا الإنساني، نلمس أنّ كلًّا منّا يحسّ في أعماق ذاته أن ضميره الأخلاقي يُلزِمه بضرورة تقدير المُحسِن وشكر المُنعِم، لأن شكر المنعم يجعل النفس تشعر بالراحة أمام دَيْن الآخرين في عنقنا، ويمنحها السعادة، والإنسان بطبعه باحثٌ عن السعادة وطالبٌ لها، وكما يعبّر أبو نصر الفارابي: «إن السعادة هي غاية ما يتشوقها كل إنسان»[4] .
ولا شك في أن خروجنا من الفراغ العدمي إلى نور الوجود هو نعمة بحدّ ذاته، فضلًا عمّا نتمتع به من مواهب معنويةٍ أو ماديةٍ مختلفة، كالعقل، وقابلية التعلّم، والإرادة، والقدرة، والشعور بالحبّ، والتنفّس، وإمكانية بلع الطعام والشراب، والإنجاب... إلخ.
وكم منّا لا يهدأ له بال، ولا يطيب له عيش، ولا ينعم بالنوم، حتى يعرف من الذي أنعم عليه بقضاء دين، أو دافع عنه، أو توسط لحلّ مشكلة من مشاكله، كي يشكره ويبدي له كلّ التقدير والاحترام جزاءً وفاقًا.
إذا كان هذا هو الحال في نِعمٍ بسيطةٍ مقارنةً بمجموع النعم والمواهب التي تحيط بالإنسان، أفلا يقضي الضمير الأخلاقي أن يقابَل معطيها بالتقدير والإحسان والشكر؟؟ ألا يشعر كلّ إنسان من أعماقه بأنه مُلزَم بالبحث عن المُنعم والواهب لشكره وإبداء كلّ التقدير والاحترام له؟؟ والبحث عن الدين ليس إلا هذا المعنى، هو بحثٌ عن ما يحقق راحتي النفسية وسعادتي في شكر الواهب والمنعم.
وكذلك عند تفحّص ذواتنا نشعر أن ثمة شحنة داخلية تحرّكنا نحو دفع الضرر عن أنفسنا، فيسعى كلّ واحد منّا إلى الخلاص من أي عاملٍ يشكِّل تهديدًا لحياته، أو يمكن أن يسبّب له الألم والعذاب، فإذا كان الإنسان لا يعرف السباحة يحذر من النزول إلى الأماكن العميقة في البحر أو النهر، وإذا رأى النار المشتعلة تقترب منه يبتعد عنها حذرًا من أن تحرقه، وإذا شاهد سلكًا كهربائيًا يحذر من لمسه خوفًا من التكهرب... إلخ من المواقف التي يعاينها الإنسان في حياته اليومية.
وقد طرق مسامعنا من قبل أشخاص يوثق بصدقهم حتى من غير المتدينين أنفسهم[5]، أن الإنسان عليه أن ينتمي إلى دين الحق، وأن الموت ليس طريقًا إلى الفناء والعدمية، بل هو طريق إلى تجدد الوجود واستمرار الحياة، وأن طبيعة الحياة التي يعيشها الإنسان بعد الموت متعلقةٌ بخياراته الدينية في هذه الحياة الأولى، فإن لم يكن متدينًا سيواجه لونًا من العقاب الشديد المستمر دون انقطاع لا إلى نهاية.
والإنسان العقلاني في تفكيره المنجذب للبحث عن الحقيقة، إذا لم يملك دليلًا على إثبات الحياة بعد الموت، فهو أيضًا لا يملك دليلًا على نفي الحياة بعد الموت – فكما أن إثبات شيء لشيء يحتاج إلى دليل، فكذلك سلب شيء عن شيء يحتاج إلى دليل، ولا دليل على سلب الحياة بعد الموت، فعدم الدليل ليس دليلًا على العدم –، وبناءً عليه تقتضي الموضوعية أن يعيش الإنسان في دائرة الشكّ أو الاحتمال تجاه الحياة بعد الموت وما تنطوي عليه من مساءلةٍ ومحاسبةٍ على طبيعة الحياة التي عاشها هنا، وهذا الاحتمال ينبغي أن يحرّكه للبحث عن الحقيقة الدينية، إذ لا طريق إلى الخلاص ودفع الضرر المحتمل بعد الموت إلا بالبحث عنها.
-----------------------------
[1]- يراجع: دراز، محمد عبد الله، الدين- بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، البحث الثالث، «في نزعة التدين ومدى أصالتها في الفطرة»، ص 79 - 101.
[2]- نقلًا عن: العيسوي، عبد الرحمن، دراسات في تفسير السلوك الإنساني، ص 193.
[3]-نقلًا عن: دراز، المصدر السابق، ص 82.
[4]-الفارابي، أبو نصر محمد بن محمد، التنبيه على سبيل السعادة، ص 177.
[5]- نقلت لنا كتب التاريخ والأحاديث أنه عندما جاء أبو لهب وقريش إلى الرسول صلى الله عليه وآله، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد». البخاري، صحيح البخاري، ج 6، ص 17.