-----------

المطالعة ... أزمة ورق أم أزمة مزاج؟

{ فرح الحاج دياب }

المطالعة ... أزمة ورق أم أزمة مزاج؟

في زاوية غرفته الضّيقة زرع شمساً، ثمّ نفخ على السقف فاقتلعه، وبنى مكانه خيمةً حاكها من خيوط السماء. الأمر يشبه السفر في آلة زمنيّة عجيبة يهرب عبرَها من سكن الطلبة الذي يقطنُه، ويهبطُ في بلادٍ بعيدةٍ لا يعرفها. تختفي الشمس فجأة وتتحوّل إلى غيمة عملاقة. الحرارة في هذا الفصل تنخفض إلى ما دون الصّفر، البرد يقضِم أصابعه، لكنه يقاوم ويقلِب الصفحة، فهذا ليس فصل الشتاء، بل هو فصل في رواية قرر العيش فيها بكل حواسه. هو يعلم أن الشهادة التي ترك عائلتَه في القرية من أجلِها، ولجأ إلى بيروت ليحصلها، قد لا تكون إلّا ورقة مزخرفه تعلقها أمّه على الحائط، إلّا أنه يخشى أن يكون هو الحائط.

يخطر بديهياً أن تكون الجامعات هي الفسحة الأكثر حفاظاً على عادة المطالعة. وأن حركةً ثقافيّة تنشط بين الطلّاب عمادها الكتب. لكنّ المشهد اليوم: طلّاب يتناولون الشاشات الذكيّة بدل الكتب. والمشهد أكثر تعبيراً من التصريح.

مجلة مع الشباب زارت عدة جامعات والتقت طلاباً من فئات مختلفة واختصاصات متعددة لاستطلاع حركة القراءة بين الشباب. فكان الواقع مؤكداً للإحصاءات الخاصة بمعدلات القراءة في وطننا العربي. إذ تكشف عن تراجعٍ ثقافي خطير بحسب منظمة الأونيسكو. «أنا لا أناقش موضوع المطالعة مع الرفاق لأنّها ليست من اهتماماتهم». يقول حسام (علاقات عامة). وتؤكّد منى (صحافة) أنها نادراً ما تجد الفرصة لمناقشة كتاب مع زملائها، وإذا حاولت ابتداء نقاش، تشعر أنها «تغرد خارج سرب الأحاديث المتداولة».

وفي معرض السؤال عن زيارات الطلاب إلى معارض الكتب، التي يفترَض أن تكون مائدة كتب شهية، لم يكن هناك الكثير من التحفظ في الإجابات: «لا أزور معارض». تقول هالة (طفولة مبكرة). في حين زارت سمايا (صحافة) المعرض ثلاث سنوات متتالية ولم تشترِ كتاباً.

طلبة الجامعات: لا وقت لدينا

إذا كانت القراءة تطيل العمر كما يقول صاحب العبقريّات الخالدة عباس العقاد، فلا شك في أن المقررات الجامعيّة ذات القوالب الجامدة تقصّر العمر. يجمع عدد من الطلاب على عدم توفّر الوقت لديهم للمطالعة. تقول لين (حقوق): «أنا بصعوبة أستطيع قراءة الكتب المطلوبة لأجتاز المقرّرات الجامعية». ويوافقها زميلها علي الرأي مضيفاً : «اشتريت في سنتي الجّامعيّة الأولى كتاباً عن علم الإجتماع، وها أنا أصبحت في سنتي الخامسة، ولم أقرأه بعد». ويختم ساخراً «سأقرأه العام القادم أو العام الذي بعده».

من جهتها طالبة العلوم السياسيّة نادين تشبه قراءة المقررات الجامعيّة بتناول وجبة طعام لا تحبها: «تأكلها رغماً عن أنفك حتى تشعر بالتّخمة حد التقيؤ، فيما وجبتك المفضّلة بردت ولم تعد شهيّة، ومعدتك بدأت تؤلمك، وها أنت تتقيّأ كلمات لم تفهمها». وتضيف: «دخلت هذا الاختصاص لشغفي بقراءة كل ما يتعلق بالسياسة، ولكنّ الامور بدأت تتعقد لدى ارتيادي الكلّيّة، لا شيء إلا كتب من التواريخ والطلاسم».

ضيق الوقت، والتّخمة الناجمة عن الحشو، وملل الطلبة من قراءة كتب أساتذتهم، ليست الأسباب الوحيدة التي أدت إلى تراجع المطالعة لدى طلبة الجامعات، فكريستينا تشكو من ارتفاع أسعار الكتب: «بدل أن يشجّعوا الطلبة على القراءة في زمن اللاقراءة، يحاربوننا بالأسعار ويضيّقون الخناق علينا».

هكذا، ومع أزمة الورق، ارتفعت أسعار الكتب وأمست دور النشر دورَ ربحٍ لا دور ثقافة. علماً بأنه لا علاقة لارتفاع سعر الكتاب بأهمية مضمونه، إذ باتت بعض الدّور تطبع وتنشر وتبيع كما لو أنّها تنادي لبيع قوارير غاز أو غسّالات مستعملة. فلا مضمون قيماً فيها، ولا لغة متينة، ولا فكرة واضحة، ولا إملاء سليماً، ولا من هم يحزنون. «لا يكاد حجم الكتاب يتجاوز حجم كف اليد، وصفحاته النحيلة لا تزيد عن السبعين صفحة، وتقول لك الموظفة بثقة أن سعره 12$، لماذا؟ شو بقوّص[1]؟!» تضيف كريستينا.

أزمة ورق أم أزمة مزاج

رائحة الكتب التي تغنى بها المثقفون، وارتشفوها مع قهوتهم كل صباح، تتلاشى في الفضاء الرقميّ إلى غـــير عودة. «الشاشة المضاءة، وسهولة قلب الصفحات، تحفزني على القراءة قبل النوم». يقول حسن (علوم سياسيّة). ويضيف: «تتيح لي تطبيقات الكتاب الإلكترونيّ أن أقوم بالاشارة إلى المقاطع التي أريد أن أرجع إليها من خلال خاصّيّة الـ highlight. ويمكنني أيضاً أن أسجّل ملاحظاتي. ثمّ يجمع لي التطبيق كلّ ما أشرت إليه، وما كتبت عليه من ملاحـــــظات في صفحة واحدة. كما أنّ التطبيق يحفظ لي الصفحة التي وصلت إليها. ويسهّل عليّ التنقل بين الفصول».

على الرغم من سلاسة وجاذبيّة التصفّح عبر الشاشات الإلكترونيّة، وقدرة العالم الرقميّ على جذب الشباب إلى خوض ميادينه، إلّا أنّها لم تحسّن نِسَب المطالعة لدى الشباب. «أقرأ ولكن حسب المزاج. أقرأ غالباً عبر الهاتف. ولكنّي لم أنهِ كتاباً يوماً». تقول غادة (أدب عربيّ). وتعلّق زميلتها سارة: «أقرأ على الورق وعبر اللوح الرقميّ، لكن نادراً ما أجد كتاباً يشدّني من أوّله إلى آخره».

واقع خطير: شباب جامعي غير مثقف

ثمة فسحات أملٍ تبدّد عتمة واقع القراءة الخطير. «القراءة تشبه الخبز اليوميّ، الذي يجب أن لا يغيب عن مائدتي في أي يوم، أنا أقرأ كثيراً، ولكنّني لا أعيش لأقرأ، بل على العكس، أنا أقرأ لأعيش، فالقراءة تمنحني حياة أجمل، إنّها صديق لا يخون مدى الحياة». هكذا تجيب طالبة الأدب العربيّ ندى. إلّا أنّها تحوّلت إلى محور الحديث في «صبحيّات» الجامعة لدى صديقاتها اللواتي ينعتنها ساخرات بالـ «مصقّفة» (بدل مثقّفة).

الورم الخبيث في جسم المطالعة لدى بعض الشباب تخطى مرحلة «عدم القراءة»، منتقلاً إلى مرحلة أخطر تتجسّد بمحاربة القرّاء والسّخرية منهم، حتى باتت نسب القراءة في الوطن العربيّ متدنّية جدّاً نسبة إلى غيرها من الشّعوب الأخرى، فمعدل قراءة الفرد العربيّ 6 دقائق سنوياً، أو ما يعادل ربع الصفحة. أمّا الكتب الأكثر مبيعاً في معارض الكتب العربيّة، فغالباً ما تكون كتب الأبراج، وتعليم الطبخ، ومذكّرات وفضائح الفنانات والفنانين حسب إحصاءات نشرتها مؤسّسة الفكر العربيّ، اعتماداً على التقارير الثقافيّة العربيّة والتقارير الإنمائيّة للأمم المتّحدة عن العالم العربيّ وغيرها. أمّا معدّل ما يقرأه المواطن الاميركيّ فهو 11 كتاباً في السنة، ونظيره البريطانيّ 8 كتب، فيما معدّل قراءة «الإسرائيلي» فـهي 7 كتب. أي ما يقارب الـ 200 ساعة سنويّاً.

اللافت بين الطلاب المستصرحين أنّهم جميعاً يدركون واقعهم الخطير.»الشباب العربيّ يعرف كلّ شيء إلّا الثقافة». يقول عليّ (حقوق). وتعتبر سمايا (صحافة) أنّ «الكتب على أنواعها تكسب القارئ المعرفة لا إراديّاً». من جهته حسام (علاقات عامّة) يؤكّد أنّ القراءة تقدّم له «خلفيّة معرفيّة، وتبني الشخصيّة الاجتماعيّة وتُطَوِّرُها».

إدراك الواقع ليس كافياً

ثمّة أسباب وعوامل بنيويّة، أدّت إلى ثقل المطالعة. للحديث عنها التقت مجلّة «مع الشباب» المسؤول الإعلاميّ في الجامعة اللبنانيّة، ورئيس قسم علوم الإعلام والاتّصال في عمادة كلية الإعلام اللبنانيّة، الدكتورعلي رمال.

يطرح  د. رمال عدة أسباب للمزاج المتدني جداً للقراءة. الأول هو طبيعة القراءة. «فالقراءات ذات الطابع المعرفيّ انحدرت إلى الدرك الأسفل، إذ لم يعد هناك من يقرأ كتاباً غير ملزم به». ويحمّل النظام التعليمي مسؤولية عدم تحفيز العقل على القراءة. فهذا النظام «يعتمد على فكرة التذكّر والمراجعة بدلاً من إنتاج المعلومة وتطويرها». ويضيف: «عندما يتحوّل التعليم من فكرة التذكر للمعلومة إلى فكرة إنتاج المعلومة، سيصبح الطالب مجبوراً على المطالعة وتوجيه قراءاته أكثر نحو المعارف التي تؤدّي إلى تطوير المعلومة خلال فترة التعليم. وبالتالي إنتاج قيمة مضافة عنها، أي معلومة إضافية».

سببٌ أخر يشير إليه الأستاذ في كليّة الإعلام، فرضه عصر المعلومات الذي نعيشه. فتكنولوجيا الاتصال «أدت إلى التهاء الناس عن القراءة. والوقت المتبقّي لدى الشباب بعد إنجاز مهامّهم اليوميّة، يستخدمون فيه مواقع التواصل الاجتماعيّ بدل القراءة». ويرى أنّ عدم وجود البرامج المشجّعة على المطالعة من قبل مؤسّسات الدعم والهيئات والمنظّمات حتى الحكومات، يعتبر تقصيراً أمام هذه الظاهرة الخطيرة. ويشدّد: «نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث المنافسات الكبيرة جدّاً. الساحة للأذكياء فقط. والذكاء العلميّ يأتي من خلال الاكتساب. ويكتسب من المعرفة، والمعرفة تأتي من خلال قراءة الكتب».

إلى ذلك يحمل د. رمّال المسؤولية أيضاً للإنتاج العربي. فيرى أن جزءاً كبيراً منه «غير جدير بالقراءة. أو قد يأتي متأخراً بعد القيام بترجمة الكتب».

إقرأ... من أجل جيل مقاوم

بالأمس، انتصر الدم على السيف، ولكن اليوم ينتصر القلم على الدبّابة. هذا ما أثبته درويش حين كتب قصيدته «عابرون في كلام عابر»، التي تُرجمت ونُشرت في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، لتثير في صباح اليوم التالي حالة من الفزع، ألحقها درويش بـ «هستيريا القصيدة» قائلاً «فككوا المستوطنات لأفكك القصيدة».

من يحمل سلاحاً دون ثقافة، يشبه النعجة التي تمسك سلاحها وتلحق القطيع مطلقة النار على الجبهة المقابلة، التي لا تعرف عنها شيئاً، غيرَ أن زعيماً ما ضلّلها تماماً كما في تنظيم «داعش» الإرهابي. وهذا ما قاله جوزيف غوبلز وزير الإعلام النازي الذي صنع هتلر: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي».

«إقرأ باسم ربّك الذي خلق»

هذا أول ما أوحي للرسول الأكرم (ص) من القرآن الكريم. ولعل عبادة الله تبدأ من المكتبات وتنتهي في المساجد. لأن المؤمن العارف أفضل إلى الله من المؤمن الجاهل.

---------------------------------

[1] مثل شعبي لبناني يستخدم في سياق الاستهزاء.