يوم وفاتي لا أذكر متى كان، أعتقد مضى عدد من السنين.. ربما عقود.. أذكر أصواتَهم فقط.. أفراد مثلي يحبونني وتصعب عليهم مفارقتي. كانت هناك عطورٌ ممتزجة فوق رأسي. كان احتشادُهم يرعبُني. وتلك العطور، رائحة الدمع والعرق والورود البيضاء. سحقًا لهم!! شوّهوا عطر القرنفل والمسك الأبيض الذي كان يروق لي. من قال لتلك القريبة الغبية إنّ روحي ستسرُّ لإحضارها تلك الباقة هنا معها. لا أدري لم، لكني شعرتُ بأنّ حساسيةَ أنفي تضاعفت منذ اللحظة التي وضعوني فيها داخل حفرةٍ باردة جدا.. ضيقة.
في ذاك اليوم سرعان ما رحلت الأقدام. عندها ارتفعت رائحة التربة المبللة لتؤنِس وحشتي وحدها. وبعض من نورٍ ودفءٍ متقطّع يهب وينقطع. يهب ليشعرَني ببعض الارتياح، ثم ينقطع برعب وكأنما ليلقنني درسا. الحفرة أكثر ضيقا من أن أدقق فيما قد أكون اقترفتُه وأنا فوق بينهم كي أستحقّ كل هذا الظلام. أحاولُ جدًا دون جدوى.
لكن وقتا طويلا مضى الآن، تذكرت كل الأشياء.. السلبية كانت خطا متواصلا أمام عيني.. الإيجابية كانت على شكلِ نقاط بيضاء تتوزع فوق الخط الأسود. أقول إيجابية لأنها حين كانت تتدفق، كان الارتياحُ يلازمها. لكن النقاط سرعان ما بدأت تزداد وتضيق بينها المسافات حتى استحال الخط أبيض. النور والدفء ازدادا جليا.
يمرّ الوقتُ في هذا السكنِ الغريب، بدأتُ بعد حقبةٍ لا بأس بها أشعرُ بأنّ جسدي خفيفٌ وله فروع أتحسسها في التربة. ما عاد رفاتا يابسا. فروع متباعدة حتى. أظن لونها كان في البداية أخضر. بدأت بعد أيام من الرطوبةِ أنمو. شعورٌ بتصلّبِ أطرافي المدبّبة الجديدة وبرشدِها بشكل عمودي. كنت في بطنِ الأرض. كأنها تهضمني بعد مأدبة الابتلاع تلك.
أعتقد أن تلك الأطراف بدأت تخترقُ التربة، رغم أني عاجز عن تحريكِ نفسي. لكني أشعر بارتياح كبير. حمدا لله! لا بد أن ما يحصل لي هو من صنعِه وإبداعِه.. سبحانه جل وعلا..
أيامٌ أو سنوات لا أدري.. بدأت أفقد إدراكي الواضح للزمكانِ هنا. مكاني تبدل أو أني أنا الذي خرجت مني كل تلك الأطراف المدببة الخضراء. كأني ذبت إلى مادة كي أخرجَ فقط!
الزمان الذي مرّ عليّ جعلَ أطرافي تلك تتحوّلُ إلى مادةٍ صلبةٍ بنية اللون. كنتُ أزدادُ طولًا فوق التربة.. لا أشتمُّ شيئا هذه المرة.. لكني أستمتعُ كلما حلّق شيءٌ ما فوقي ليرميَ داخلَ أجزائي الغريبة حبوبًا لذيذة. أجزائي الغريبة كانت ملوّنة. تشبه القرنفل والمسك ذاك. وكانت بعد ابتلاع البذورِ تزدادُ عددًا وحجمًا.. حتى امتلأتُ منها ثم من أحجام ثقيلةِ الوزنِ تتدلّى من عنقي! كنت أشعر بالقوة. بالصلابة. بالثبات. النور والدفء مستمران، ينقطع الدفء فترات ثم يعود. أما النور فينقطع عني يوميا ليعود في نفسِ التوقيت! لكني كنتُ راضيا. أعتقد أن رأسي كان أخضر.. لم يكن طولي كبيرا جدا.. حتى أن أشياء متحركة صغيرة كانت تدغدغ رأسي باستمرار ولا تهجرني إلا بعد اقتلاع عددٍ من أجزائي الغريبة.
بعد حقبة، شعرت بأني داخل نفقٍ أحمر.. يضخني مع الكثير من أمثالي. كنت رَخوًا، طيعا أطيح من ركن إلى آخر. لا أدري ماذا حل بآثار جسدي أو هذا الكيان الخالي من الروح، الذي تتناقله الأحداث الغريبة. لا أدري كيف أذكر. أو كيف أسردها لك أيها القارئ الوحيد مثلي في هذه اللحظة. لكني أذكر في البرهة هذه أني كنت صغيرة الحجمِ عاجزةً إذ لا أطرافَ لي... أشعرُ أني كنتُ حمراء. لا أدري لم أستخدمُ التأنيث، لكن هنا لم يعد لي جنس معين! رغم أنّ روحي لا زالت تطفو.. يبدو أن الروح لا جنس لها! أسبحُ في سائلٍ ما يشعرني بالتوتر لكثرة الحركة والطفرات فيه. لا أجوع هنا، لا أعطش، لا أتألم. لكني أعرفُ أن أمامي مهمة ما، أعرف ذلك من الشوقِ المتململ في أنسجتي. بين الفينة والأخرى، نبضٌ صاعقٌ يجعلُني أرتطمُ بملايينِ الأجسام الحمراء مثلي. نخرج من دهليزٍ إلى دهليز. مرةً أوسع، ومرةً أشد ضيقًا. في الدهاليز الضيقة كنتُ وحيدةً جدًا. لم أسمع أيّ شيءٍ هنا، ولم أرَ أي شيء. لا أذن لا عين لا لمس لا شم لا حواس مطلقًا. لكن شعوري هذا بكياني!! ما هو! ما أعرفه هو أني أدركُ ما أكون نوعًا ما. طاقةٌ ما لا تزالُ على شكلِ «أنا» رغم انقسامِها منذ ذاك اليوم آلاف المرات.
فجأةً، توقف النبض. تجمّدنا في دهاليزنا. تخثرنا كثيرًا. لا أذكر المراحل ما بين بين. سوى أني في مكانٍ ما لم أعد حمراء. لم أعد طيعة. لا دهاليز. كنتُ أسبحُ في كيان هائل. كنتُ أمتلكُ الآنَ ذيلًا دقيقًا يتحرك بخفة.
طوال ذاك الوقت، لم ينفصل شعوري ببقيتي التي في التربة، ولا ببقيّتي التي سرت في دهاليز أخرى في مكان ما آخذ في الابتعاد عن كياني الحالي. كانت لي أجزاءٌ في أماكن مختلفة، تبعث لي بأحاسيس تشبه اللمس. تأكدت من ذلك. كأني انصهرت منذ ذاك اليوم في كل شيء. كأن كل ما حولي أخذ يتنازعني. ولا سكن يحتويني كلي.
غلبني التوتر والنقلات النوعية. طال الكابوس. اشتدت رغبتي في الوصول. لا أدري إلى أين. لا أدري ماذا أنتظر. لكنه لم يكن موتا. عرفت أني لن أتلاشى.. أبدا.. أيقنت فقط أني ضعيف حتى أجلٍ غير مسمى. كنت أذوي في كل حين لأعود وأتشكل في قالبٍ آخر، في صيغة جديدة. والنور كان يروح ويجيء.
ربما كنتُ شمعةً. أحيانًا أقول.
إلتقيتُ على غفلةٍ بجسمٍ دائري كبير.. ونفذتُ إلى داخله، وبدا لي مهرجانًا صاخبًا في الداخل. ألوانٌ تطفرُ بكثرةٍ، شعرتُ باللون دون رؤيته. لا أفهم كيف. أشياء كثيرة لا أفهمها.. تكرّرت الحالة. مرةً شعرتُ بجزءٍ مني دائريّ الشكلِ تمامًا كذاك الجسم الدائري الذي التقيتُه في المهرجان. تهاجمُني ملايينُ الأجسام الدقيقة المجنونة في حركتها!
كنت مشتتا، لم أتلاشَ لكن الشتات أعياني.. حتى اللحظة، انقسمت آلاف بل ملايينَ المرات، وخضت معارك مجهريّةً حيويّة، وطفرات غامضة الأسباب. كلما حاولت إدراك النهاية، المصير.. أرهقني التفكير. لم أكن أفكر، كنت أشعر فقط.
بعد هذين المهرجانين في مكانين مختلفين وأطراف تمتد بين تربة وحمرة وخضرة، اختفيت.. كأني نمت عميقا.
عندليب ملون أيقظني شدوه ذاك اليوم.
يومَ التقت عيناهما، شعرت بي أتكون.. مرة أخرى.. جزءانِ مني يتوقان للالتحام من جديد. رغبة جامحة بالانصهار، وشعور بأني أنجح بلم أطرافي الذائبة.
يوم أحبته وأحبَّها.. كنت نصفي دمعة في عين كل منهما.
انتهى الشتات. وصلت. رضيت.
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً
روحي استقرت.