صدرت عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية , الترجمة العربية لكتاب (الثمن الباهض للمادية) لعالم النفس الامريكي "تيم كاسر".
وفيه يبين كبف تؤثر القيم المادية وثقافة الاستهلاك في سعادة الانسان وصحته النفسية بعد ان ساد الاعتقاد ان الحصول على ما يكفي من طعام ولباس ومأوى , وغيرها من الضروريات والكماليات المادية يكفي لتحقيق السعادة والرفاهية. وقد برهنت الابحاث الواردة في هذا الكتاب ان اللذين يهتمون بتكليس الثروات والممتلكات المادية , يتملكهم شعور بعدم السعادة , ويسيطر عليهم القلق , وينعرضون لمشاكل عاطفية ويفقدون ثقتهم بأنفسهم , بصرف النظر عن العمر والجنس والدخل والثقافة.
طارق عسيلي
يرتكز كاسر في أبحاثه على مُعطيات تجريبيّة، وعلى مجموعة كبيرة من الاستبيانات واستطلاعات الرأي، وبعد تحديد المشكلة وتحليلها ينتقل لاقتراح طرائق للتغيير على المستويات الشخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة.
يقع الكتاب في مائة وثمانين صفحة من الحجم المتوسّط، ويحتوي على مقدّمة وفصولٍ تسعة.
وممّا جاء في مقدّمة الكتاب: لقد تمّ إغراء عدد كبير منّا بالاعتقاد أنّ امتلاك مزيد من الثروة والممتلكات المادّيّة أساسيّ للحياة الكريمة. وزُرعت فينا فكرة أنّ الإنسان، لكي يكون سعيداً، يجب أن يكون ميسوراً أوّلاً. وتعلّم كثيرون منّا، عن وعي أو عن غير وعي، أنّ تقييم رفاهنا وإنجازاتنا لا يكون من خلال النظر إلى الداخل، إلى روحنا أو كمالنا فحسب، بل من خلال النظر إلى خارجنا، إلى ما نملك وإلى ما نقدر على شرائه.
في الفصل الأول تحدّث الكتاب عن موضوع الرسائل المُشوّشة التي تُلاحقُنا في حياتِنا اليوميّة، عبر وسائل الإعلام بأشكالِها المختلفة، بما تبثه من رسائل تُشكّل مصدراً رئيسيّاً للقيم الماديّة، بدءاً من عناوين الصُحف، التي تُكرِّم رابح اليانصيب، والكُتب التي تحمل عنوان: كيف تُصبح غنيّاً بسرعة، والتي تتصدّر لائحة الكتب الأكثر مبيعاً، مُروراً بالإعلانات التي تزيّن صفحات الإنترنت، وصولاً إلى مراقبة المشاهير على شاشات التلفزة وفي الإعلانات... وبرغم اختلاف هذه الرسائل بالشكل، إلّا أنّ كلّ رسالة منها تُعلن في جوهرها أنّ «السعادة يُمكن أن تــــوجد فـــي مـــــركز التسوّق وعلى الإنترنت، وفي الكاتالوجات».!؟
أمّا في الفصل الثاني فقد ناقش موضوع الرّفــــــاه الشخــــصـــــيّ، عبــــــــــــــــــر مجــــموعة من الدراسات التي أجراها مع عدد من الباحثين، وركّزت في ربط ما يراه الناس ذا قيمة، بمجموعة متنوّعة من مظاهر الحياة، مثل السعادة والاكتئاب والقلق.
كانت الدراسة الأولى عن طريق استبيان لقياس القيم، التي يتبنّاها الناس، سمّاه مُؤشّر الطموح، وقد شارك فيه مجموعة من الطلابّ الجامعيّين. وبيّنت هذه الدراسة أنّ الشبّان الذين رأوا في النجاح الماليّ أساساً لطموحاتهم، عانوا تدنِّي مستوى رفاههم، وارتفاعاً في مستوى الإرهاق، وصُعوبةً في التكيّف. وأوحت خلاصة النتائج أنّ: «للحلم الأميركيّ جانباً مظلماً، وأنّ السعي للحصول على الثروة قد يكون مقوّضاً للسعادة».
أمّا الاستبيان الثاني، فقد اعتمد على إجابات عن أسئلة إضافيّة، واتّسعت لجمهور أوسع، حيث عُرض على فئات عمريّة وطبقات اجتماعيّة مختلفة. وأكّدت نتائج الاستبيان الجديد النتائج السابقة، فقد تحدّث الراشدون الذين ركّزوا في المال والصورة والشّهرة عن مستوى من تحقيق الذات والاكتئاب أقلّ من المستوى الموجود لدى غير المهتمّين بالقيم المادّيّة. وتحدّث من اهتموا بالمال والتملّك والشهرة عن أمراض جسديّة كالصّداع، وآلام الظهر والتهاب اللوز، أكثر من الأفراد الذين يقلُّ تركيزهم في هذه القيم.
أمّا النتائج التي توصّلت إليها الأبحاث المختلفة الأخرى، حول القيم المادّيّة، فكانت واحدة وهي: تدنّي مستوى الرفاهية والصحّة النفسيّة عند من يتبنّون القيم الماديّة أكثر ممّا عند من يعتقدون أنّ السعي وراء الماديّات فاقد للأهميّة نسبيّاً. كما بيّنت الدراسات أنّ القيم الماديّة مرتبطة بتقويضٍ شامل لرفاه الناس، من رضا منخفضٍ بالحياة، إلى اضطرابات الشخصيّة، والنرجسيّة، والسلوك العدوانيّ تُجاه المجتمع.
ويبيّن الفصل الثالث أنَّ الحاجات النفسيّة، وبصرف النظـــــر عـــــن الـــجدل المثار حول طبيعة هذه الحاجات وكيفيّة تصنيفها، فإنَّ الجميع يعترفون بأنّ إشباع الحاجات الماديّة لا يكفي لتأمين الرفاه. وأنّ سبب ارتباطِ القيم بمستوى حياةٍ منخفضِ الجودة يكمن في أنَّ هذه القيم هي مجرّد عوارضَ وإشارات. وإلى أنّ بعض الحاجات ما زالت دون إشباع.
ثمّة مجموعات أربع من الحاجات هي: الحاجة للشعور بالأمن والسلامة، والحاجة للتواصل مع الآخرين، وحاجات الكفاءة وتقدير الذات، وحاجات الأصالة والاستقلالية. والرفاهية وجودة الحياة تزداد عندما تُشبَع هذه الحاجات، وتقلُّ عند التقصير في إشباعها.
وخلَصت الدراسات والاستبيانات التي تضمّنها الفصل الرابع، إلى أنّ عدم إشباع حاجات الأمن والسلامة والغذاء بشكل تامّ، يدفع الناس بشدّة إلى التركيز على القيم المادّيّة. وسواء أتفحّصنا خصائص الأهل، والعائلة، أو البلد، أم نظرنا إلى محتوى الأحلام أو ردود الفعل على الموت، فالأدّلة هي ذاتها.
وبالتالي، فالقيم الماديّة هي استراتيجيّات ضعيفة للمواجهة. كما تكون استراتيجيّات المــــــواجهة الأخرى، التي يُمكن أن تجعل الناس يشعرون بالسعادة على المدى القصير (عزل الذات، إنكار المشكلة، الملذّات الحسّيّة مثل شرب الخمر والجنس)، كما أنّ السعي وراء المادّيات على المدى الطويل قد يزيد مشاعر عدم الأمن ويُعمّقها. ويُشير الارتباط السلبيّ بين القيم المادّية والسعادة، إلى أنّ هذه الاستراتيجيّة للتصدّي ليست نافعة في التخفيف من مشاكل الناس، وربما تزيد من تفاقم المشاكل عندهم.
الفصل الخامس عالج موضوع هشاشة تقدير الذات، إذ من الواضح أنّ لتقدير الذات مشتركات كثيرة مع كيفيّة فهم القيم المادّية. فالناس الذين يتبنّون القيم المادّية يُوقفون اعتدادهم بأنفسهم وتقديرهم لذواتهم على حصولهم على مكافأة (ماليّة) أو مدح من غيرهم. وأنّ بعض الآليّات السيكولوجيّة المتعلّقة بالسعي الحثيث لتحقيق الأهداف المادّية، تحول دون تحسين رفاه الناس، عندما تزداد ثروتهم ويتحسّن وضعهم.
وثمّــــــــة حقيقـــــة مُحزِنة وهي أنّ الناس عندما يشعرون بالفراغ من نجاح أو فشل ماديّ، يستمرّون بالاعتقاد أنّ الأكثر سيكون أفضل، وهكذا يتابعون الكفاح من أجل شيء لن يجعلهم أكثر سعادة أبداً. وخلال العمليّة يشعرون بقليل من الرِّضا النسبيّ عن حاجاتهم للكفاءة والاحترام، ويفشلون في تصحيح المسائل الأساسيّة التي تؤدّي بهم إلى هذا السعي الفارغ، ويتجاهلون الحاجات النفسيّة المُهمّة الأخرى، وكلّ ذلك يكون على حساب رفاهيّتِهم.
كمــــا خصـــّص الفصـــــل الســــادس للـــحديث عــن العلاقات المُتردّية مع الآخر، حيث كشفت الدراسات أنّ الأشخاص المادّيّين يُعانون العزلة في علاقاتهم الاجتماعيّة أكثر من الأشخاص غير الماديّين، وأنّ الترابط بين العلاقات غير المستقرّة والقيم الماديّة يظهر على مستوى لا واعٍ أيضاً، إذ بيّنت دراسة للأحلام أنّ الناس المُوجّهين نحو القيم الماديّة كانوا في الغالب يتجنّبون الألفة والعلاقات الحميمة في أحلامهم. كما تحدّث هؤلاء عن أحلام مليئة بالصرعات والمشاكل.
وفي الإجمال، وبالمقارنة مع قليلي الاهتمام بالقيم المادّيّة، كانت علاقات الماديّين أقصر عمرًا، وتخلّلها خصومات مع الأصدقاء والأحباب، وكانوا يشعرون بالعزلة والانفصال عن المجتمع.
وبالتالي، فإنّ القيم الماديّة دفعت الناس للتقليل من «الاستثمار» في علاقاتهم وفي مجتمعاتهم. والملاحظ أنّ التعبير عن هذا النقص النسبيّ بالاهتمام بالارتباط، يحصل في العلاقات ذات الجودة المنخفضة التي تتميّز بقلّة التعاطف، وبالتشتّت والنزاع ومشاعر العزلة. بالإضافة إلى أنّ هذه القيم تُضعف الروابط بين الأزواج والأصدقاء والعائلات والجماعات معاً، وبالتالي تتعارض مع إشباع حاجات الألفة والتواصل.
الـــــــــحريّة هي مـــــــوضوع الفصل السابع، إذ بيّـــــــــــــــنت الدراســـــــات ارتباط القــــــيم الماديّة بإضفاء قليل من القيمة على الحريّة والتوجّه الذاتيّ، وهكذا يقلّ احتمال إشباع هذه الحاجات. فالمهتمّون بالقيم الماديّة خاضوا تجارب ركّزت في الحصول على المكافأة والمديح، أكثر من الاستمتاع بالتحديّات وملذّات الأنشطة الأصيلة، وبالتالي، أغفلوا تجارب الاستقلال والأصالة.
فالقيم الماديّة مُرتبطة بميل للشعور بالضغط والإجبار، حتّى في السلوك المنسجم مع هذه القيم. وكلّ هذا يُشير إلى أنّ الناس عندما يركّزون في القيم المادّية يشعرون أنّهم مُقيّدون ومُعرّضون للضغط، وخاضعون للسيطرة، ولا يسعون لتأمين سبيل للحرّية والاستقلال.
وقد برهن المؤلف في الفصل الثامن، التأثير السلبيّ الذي يُمارسه المتبنّون للقيم المادّية في صحّة الآخرين وسعادتهم. ورأى أنّ التفاعل مع الناس الآخرين، عندما يرتكز على القيم المادّية يؤدّي إلى التضحية بالحميميّة والعاطفة، ممّا يجعل العلاقات فارغة وسطحيّة. وقد سبّب هذا السلوك ضرراً مهمّاً ليس على الجيل الحاليّ فحسب، بل من المرجّح أنّه سيضرّ بالأجيال القادمة. فالارتدادات تمتدّ من الأفراد إلى العائلات ثمّ إلى المجتمع الأوسع. والمؤسف أنّ أحداً لم يُولِ كوكب الأرض اهتماماً، بسبب التركيز الشديد في القيم المادّية الذي ظهر من الأفراد والجماعات. وإنّ سلامة الكرة الأرضيّة سوف تتضرّر، كلّما دفعت هذه القيم من يتبنّونها للاستهلاك في معدّلات مضرّة لا يمكن احتمالها.
وأخيراً اقترح تيم كاسر في الفصل التاسع، استراتيجيّات للتغيير في العمليّات الفرديّة والعائليّة والاجتماعيّة التي تدعم القيم المادّية. مُقدّماً آراء بديلة عن القيم المادّية لجعل الناس أكثر سعادة من خلال التركيز في قيم تُشجع القبول بالذات والعلاقات الجيّدة والعمل الاجتماعيّ. كما شدّد على التقليل من التركيز في القيم المادّية كمنهج لرفع مستوى السعادة عند الأفراد والمجمتع والعالم الواسع. ولكي نحسّن من جودة الحياة لأنفسنا، وعائلاتنا، ومجتمعاتنا، وكوكبنا ليس هناك تضحية أفضل من التقليل من القيم الماديّة في حياتنا اليوميّة، ومَحْوِ صورة الصحّة النفسيّة المزيَّفة التي رسمتها الإعلانات في وسائل الإعلام العالميّة. ورأى أنّ تركيز الاقتصاد العالميّ في أيدي أشخاص يحملون قيماً مادّية، يشكّل خطراً صحّيّاً على كوكبنا.
وفي الختام، يُمكن القول: إنّ كتاب «الثمن الباهظ للماديّة» يشكّل لقاحاً مناسباً ضدّ انتشار القيم المادّيّة، وأنّ المعطيّات العلميّة التي قدّمها الكاتب في صفحات كتابه، جاءت لتُبيّن حقيقة وجوديّة مهمّة أشار إليها حديث رسول الله محمّد (ص) وبها ختم كتابه: «ليس الغنى في كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».