عند الحديث عن الشباب، لا يمكن الاقتصار على مرحلة عمريّة معيّنة بشكلٍ مبتور عما قبلها أو بعدها، إنّما يجب الحديث عن أسس للمستقبل، تتكوّن فيها ملامح الشخصيّة التي ستؤدّي دوراً في بناء المجتمع والأخذ به نحو الصلاح أو الفساد.
ولكي تتوازن شخصيّة الشباب في مرحلتها العمريّة، وتندفع نحو القيام بمسؤوليّاتها المجتمعيّة، أملاً بالصلاح المنشود، لا يمكن إغفال طبيعة العلاقات المجتمعيّة التي يمكن أن تسود في محيطه، وتغذّيه بمكوّنات الشخصيّة المساعدة على تحقيق أهدافها؛ ولعلّ أبرزها العلاقات الأسريّة، إذ لا ينفك الشباب عن الارتباط القَبْلي بأُسرهم، ولكنهم يعيشون أزمة التكيّف مع هذا الارتباط في ظلّ تطلّعهم نحو مواكبة التطوّر وأدواته بما ينسجم مع الطموح وإثبات الذات، من جهة، وفي ظل انسلابهم من هويتهم الثقافيّة أمام مغريات الحداثة والعصرنة من جهة ثانية.
هذه المقدمة تقود إلى طرح سؤال رئيس: ما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الشباب وأسرهم في ظلّ متطلّبات الحياة العصريّة التي يصوغها الشباب لأنفسهم؟ وكيف يمكن تحصينها في ظل الأخطار المحدقة؟
وللإجابة عن هذا السؤال بشكل وافٍ، لا بدّ من عرض جملة نقاط؛ بدءاً بطبيعة العلاقة بين الشباب وأسرهم، مروراً بالتطلعاّت وما يشوبها من تحدِّيات، وصولاً إلى الحلول اللازمة والمساعدة لتحقيق الهدف.
أولاً: طبيعة العلاقة بين الشباب وأسرهم
لا يخفى على متتبع أو مراقب، أنّ المرحلة العمريّة التي يعيشها الشاب في ظلّ أسرته، تتبلور فيها كثير من معالم شخصيّته، ويحتاج فيها إلى الاحتضان الأوسع أمام تحدّيات الواقع ومغرياته، فهو يعيش حالة من تطوّر الأحاسيس والغرائز والنموّ الجسديّ والروحيّ، ويخطو نحو عالم جديد بالنسبة إليه، وغالباً ما يجهل الأهل والمحيطون به هذا التحوّل أو الانتقال الجديد، أو أنّهم يعلمون لكن لا يهتمّون لأمره، ما يدعو الشاب للشعور بالعزلة والوحدة، وبما أنّه يواجه عالماً كبيراً يكتشفه للمرّة الأولى، فإنّه يشعر بحاجته للدليل والمرشد والعون الفكريّ، والمؤسّسات التي ينبغي أن تعطيه الوقت الكافي الذي يحتاج إليه[1]؛ لذا تتمظهر ثروة الشباب في القدرات والاستعدادات والتجارب والمحاولات الدؤوبة لاحتلال موقع متميّز ينسجم مع الطموح.
هذا التوصيف الدقيق يلقي بالمسؤوليّة على المحيط المجتمعيّ الأقرب وهو [الأسرة]، إذ يمكن من خلالها بناء الشخصيّة المتوازنة والمتفاعلة بإيجابيّة عالية مع محيطها. لذا لا بد من التعامل مع الأمر انطلاقاً من بعدين[2]:
الأول: من الأسرة باتجاه الأبناء، وهنا تحضر جملة من المقدّمات المساعدة على علاقة سوية، منها:
ـ التعامل مع الابن، كصديق يمكن محاورته والأخذ برأيه.
ـ الإشراف على النشاطات والعلاقات دون تدخّل في الجزئيّات والتفاصيل.
ـ تدريب الأبناء على التنظيم والترتيب في أمورهم الخاصّة لتعويدهم على الاستقلاليّة.
ـ تشجيعهم على القيام بكل ما يمكن أن يبادروا إليه ضمن الحدود المشروعة.
ـ تحفيزهم على التجربة لاكتشاف قدراتهم وتكليفهم بالمسؤوليّة على ضوئها.
ـ الابتعاد عن المقارنة سواء بتجربتهم (أي الأهل) أو بتجارب الآخرين.
ـ الانسجام في منهجيّة التعامل ما بين الأبوين دفعاً للتمييز أو المقارنة.
الثاني: من الأبناء باتجاه أُسَرِهم، فهناك في المقابل قواعد على الشباب الانطلاق منها لانتظام علاقاتهم الأسرية، منها:
ـ الابتعاد عن نظرة أن الأهل هم من الجيل القديم، وأنّهم لا يفهمون شيئاً من عالم الشباب.
ـ الاستماع الدائم إلى وجهات النظر والتدقيق بها قبل الحكم عليها.
ـ إعطاء الأمور حجمها الطبيعيّ والحقيقيّ، ولا تتعدّاه إلى حدّ يشعر الشاب بأنّه الضحيّة.
ـ الاقتناع بدور الأهل في الإشراف والمتابعة حرصاً على المستقبل وتحدّياته.
ـ المصادقة ولو بمبادرات من الشاب نفسه بطلب النصيحة.
ـ الاقتناع بأنّ هامش الحرّيّة في الأسرة مطلوب، ولكنّه يترافق مع لازمة العيش معاً.
ـ ممارسة النشاطات والهوايات وملء أوقات الفراغ، بما يتلاءم مع العيش المشترك مع الأهل.
هذه المقدّمات يمكن أن ترسم ملامح العلاقة السويّة التي تحتاجها الأسرة كما يحتاجها الشاب، ويمكن الانطلاق منها نحو النقطة الثانية.
ثانياً: تطلّعات الشباب العصريّة وتحدّياتها
يعيش الشباب اليوم حالة من التطلّع نحو الحضور والمشاركة وإثبات الذات على أكثر من صعيد، ولكن في ظل ما يواجهونه من عقبات تفرض حضورها، ينعكس الأمر تحدّياً في مسار التميُّز الذي يطمحون إليه.
ولتشخيص التحدّيات بما يتلاءم مع العرض المنهجيّ المناسب، لا بدّ من تعيين الأبعاد التي يمكن أن تحضر فيها، ونكتفي بالإشارة إلى بعضها:
على المستوى الدينيّ: يعيش الشباب بشكل عام رغبة في التعرّف إلى كلّ ما يمكن أن يبعث على الطمأنينة في ذواتهم، ويرى بعضهم في الدين السبيل إلى ذلك، ولكن الواقع يعكس جمالاً في المظهر، وفراغاً في الجوهر؛ إذ يعاني أغلب الشباب من ضعف على مستوى التديّن الصريح، وعلى مستوى المعرفة النظريّة والعمليّة بأمور الدين، فضلاً عن العلاقة باللّه والقرآن الكريم، والأنبياءb.
على مستوى الهويّة والانتماء: يبحث الشباب عن هويتهم وانتمائهم بما ينسجم مع طموحهم وتطلعاتهم دائماً، ولكنّ الواقع يصدم الشباب، فيعيش ضعف الشعور بالولاء الوطنيّ والانصهار ضمن المجتمع الأوسع الذي يضم أبناء الوطن كافّة في إطارٍ من المواطنة والمساواة.
على المستوى الاقتصاديّ: يرنو الشباب نحو اكتفاء اقتصاديّ يحقّق لهم العيش الكريم، ولكن في ظل أوضاع اقتصاديّة عالميّة صعبة ومحلّيّة أصعب، يعيش حالة الإحباط، وبعيشها أكثر عندما يعلم بأنّ معدّلات البطالة سواء أكانت صريحة أم مقنّعة باتت تهدّد استقراره المستقبليّ.
على المستوى الاجتماعيّ: في الوقت الذي يرى الشباب بأنّ حضورهم الاجتماعيّ (الواقعيّ أو الافتراضيّ) يشكّل لهم توازناً في الشخصيّة، فإنّ تفكّك الأواصر الاجتماعيّة، فضلاً عن عيش حالات من العزلة والوحدة، وفقدان مستويات من العفّة والحياء، كلّها أمور تعيق تطلّعه نحو الأمن الاجتماعيّ الذي يبحث عنه.
على المستوى النفسي: في خضم البحث والسؤال عما يمكن أن يشكّل حصانة نفسيّة، يعيش كثير من الشباب حال من اضطراب في الميول، واستشعار النقص العاطفيّ، والبحث عن سبل الإشباع بمعزل عن النتائج والمترتّبات سواء أكانت فردية أم اجتماعيّة، فضلاً عن الاعتداد الزائد بالنفس.
على المستوى التعليميّ: في الوقت الذي يجهد فيه الشباب لبناء مستقبلهم العلميّ بما ينسجم مع طموحهم ورغبتهم في إثبات الذات، فإنّه يصطدم بالتشتت في الخيارات والضياع في تشخيص الاتجاهات العلميّة المستقبليّة، وترك الأمر للحظّ أو الصدفة، نتيجة غياب التوجيه التعليميّ اللازم.
هذه التطلّعات وتحدّياتها عموماً، وإن تفاوتت نسبها، تحضر على مستوى الشباب، فهي تعطي بارقة أمل من جهة، ولكنها تشكّل هاجساً لدى المراقبين والمهتمين وأصحاب الاختصاص، علماً أنّ القدرة على التعامل مع الواقع متيسرة في ظلّ ما يمكن استغلاله من فرص متاحة.
لذا فإنّ السؤال الأول يطرح نفسه من جديد وبقوة:
ما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الشباب وبين أُسَرهم في ظلّ متطلّبات الحياة العصريّة التي يصوغها الشباب لأنفسهم؟ وكيف يمكن تحصينها في ظلّ الأخطار المحدقة؟
ثالثاً: العلاقة المنشودة:
إنّ ما تقدّم يكشف عن مقدّمات ضروريّة في العلاقة من جهة، ومتطلّبات تشوبها عقبات من جهة ثانية؛ فكيف يمكن المزاوجة بينهما؟
وبما أنّ المخاطب الأساس هم الشباب، فإنّه لا بدّ من رسم مسار العلاقة الأسريّة وفق ثنائيّةٍ تراعي طرفي العلاقة؛ لذا يمكن تحديد مجموعة من القواعد التي تساعد في الوصول إلى النتيجة المتوخاة، ومنها:
التحصين المعرفيّ والدينيّ: وهذه مسؤوليّة مشتركة لكلا الطرفين، الشباب وأسرهم، فبقدر ما يمكن أن تكون الحصانة المعرفيّة والدينيّة حاضرة وحاكمة وضابطة، فإنّ سبل بناء علاقة أسريّة سليمة ستكون أفعل وأكثر نجاعة.
الإيمان بالطاقات والقدرات: بما أنّ مرحلة الشباب العمريّة تعدّ ثروة على مستوى الطاقات والقدرات والاستعدادات، فلا بدّ من استثمار مُجدٍ وهادف لهذه المرحلة، يشعر معه كلا الطرفين بأنهما منسجمان في تحقيق الأهداف المنشودة[3].
تعيين المسار الصحيح: إن بناء قناعة الهدفيّة في التعامل مع الشباب، أي توجيه مختلف السلوكيّات والأفعال نحو هدف محدّد يعفي من العبثيّة واللّهو وخسارة الوقت والعمر، ولا يخفى بأن الأمر يرتبط في البداية بقدرة الأهل على تنظيم أمورهم الحياتيّة وفق مسارات صحيحة يستطيع أن يستشهد بها الشباب.
تعيين المسؤوليّات المرحليّة: إنّ تهيئة الشباب ليكونوا عناصر فاعلة ومؤثرة وناشطة في المجتمع تتطلب إعداداً دينيّاً واجتماعيّاً وقانونيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً...، بما يولّد لديهم القابليّات اللازمة في مواجهة تحدّيات الحياة بمسؤوليّة تبنى على ضوئها المهام اللاحقة.
العناية بأمور الشباب: لعلّ ما يمكن أن يخلق علاقة أسريّة سوية مع الشباب، هو إشعارهم بأنّهم على قدر عالٍ من الأهمّيّة، وبأنّ أمورهم وشؤونهم وقضاياهم محلّ عناية ومتابعة، حتى ولو كانت بعيدة عن جيل الأهل، فلكسب الودّ، يستطيع الأباء والأمهات تكريس جزء من أوقاتهم للاهتمام بأبنائهم وتوجيههم. والاهتمام هنا لا يقتصر على الحضور المباشر فقط، بل يمكن إشراك مختلف التشكيلات المجتمعيّة (النوادي- الجمعيات- الأحزاب- الكشاف- ...).
زرع الثقة بالنفس: إنّ التأكيد على تعامل الأهل مع أبنائهم الشباب بالإحسان والمحبة والاحترام، كفيل بأن يمنحهم الثقة بالنفس، والقدرة على الانسجام الطوعي مع الأسرة، وتكوين علاقة ملؤها التقدير والتآزر على كل ما يمكن أن يصبّ في المصلحة الأسريّة عموماً.
المواكبة الدائمة: قد يخطئ الشاب أو يسيء أو يرتكب جرماً ما، وعليه لا يمكن الاكتفاء بالبناء الأول وفق المقدّمات التحصينيّة، بل يحتاج الأمر إلى حسن المواكبة، واللافت- بحسب عدد من الإحصائيّات العلميّة- أنّ أغلب الاعتداءات والجرائم التي يقوم بها الشباب سببها شراسة الشباب الناجمة عن عدم مراقبتهم وإرشادهم[4].
هذه الأمور يمكن أن تشكِّل مدخلية تساعد في بناء علاقة أسريّة سويّة يمكنها مواجهة متطلّبات الحياة المعاصرة.
في الخلاصة، لا يمكن إعادة بناء النموذج المأمول بمعزل عن تشخيص أسس العلاقة، ومتطلّبات الواقع المباشر؛ ولبناء علاقة أسريّة سليمة يحتاج الأمر إلى تشارك، قد يتحمل فيه الأهل المسؤوليّة الأكبر، ولكن على الأبناء- أيضاً- أن يهيئوا أنفسهم لدور تكامليّ يتحقق من خلاله التكامل الاجتماعيّ المنشود.
--------------------------
[1]- يراجع: الشباب ذخيرة الإسلام: من إصدارات مركز نون للتأليف والترجمة، ط1، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، بيروت، 2003م، ص 10.
[2]- يراجع: قاسم، نعيم: الشباب شعلة تحرق أو تضيء، ط 1، دار الهادي، بيروت، 2007م، ص 89-95.
[3]- يراجع: القائميّ، علي: تربية الشباب بين المعرفة والتوجيه، ط 1، مكتبة فخراوي، المنامة،1996م، ص 27.
[4]- يراجع: القائميّ، علي: تربية الشباب بين المعرفة والتوجيه، ط 1، (م.س) ص 32.