قليلةٌ هي الأعمال الأدبيّة الّتي تعبرُ في دروبِ الحبر مرور الفرائد...
تتغلغلُ في سطور النّفس، ساكبةً البلاغة والفكر، فتُحيي جذور الوجود الإنسانيّ، وتبثّ في نسغِ القارئ أغصانًا من ضوءٍ، وأوراقًا من ألق.
وإذا قسنا هذه النوادر بزمانِ ومكان وبيئات وخلفيّات مبدعيها، فسوف نحظى بتعليلٍ منطقيّ واضح لسبب التّميّز والاختلاف والفرادة، فالقلائد عادةً يشترك في إبداعها عدّة صائغين، تُضاف أناملهم إلى أحقاب مديدةٍ من الانتظار في جوف العتمة، تستقي فيها الجوهرةُ كلّ ظروفِ توهّجها الأبديّ..
الشّهيدة بنت الهدى:
هكذا نفهم كيف تكوّنت المجموعة القصصيّة الكاملة للشّهيدة بنت الهدى، وهكذا نستطيع أن نعلّل هذه القوّة الكامنة فيها، والّتي ما زالت تتجدّد عامًا بعد عامٍ، لتتحوّل إلى تحفة باذخةٍ، تصلح لتكون مُتّكأً مهمًّا في التّربية وصناعة الإنسان واللّسان معًا.
فإذا أضأنا إضاءة سريعة على زمن ولادة الكاتبة 1937م حيث العالم يغلي متحضّرًا لاندلاع الحرب العالميّة الثّانية، وإذا أضفنا إلى هذا الزّمان مكانَ ولادتها في العراق، الّذي كان يعيش مع ما رافق تلك الأحداث من غليانٍ عربيّ، حيث كانت دول العالم تتقاسم أمّة العرب برمّتها، وما تمخّض عن هذا التّقاسم من احتلالات قابلتها ثورات عربيّة انتهت بتحويل الاحتلال الفعلي إلى احتلال فكري، نضيف إلى ذلك ما حباه الله لهذه الموهوبة المبدعة من صفات موروثة وذكاءٍ فذٍّ، وسرعة خاطر، وعمق تفكير، وقدراتٍ خلّاقةٍ، لا يهبها الله تعالى إلاّ لخاصّة عباده وأوليائه، ومن ثمّ ما يسّرته لها الحياة من مدارس متنوّعة تنتمي إلى الفكر المحمّديّ العلويّ الأصيل، وعلماء ربّانيّين، وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من علمٍ وفكرٍ وحكمة، كلّ هذا المحيط الزّماني والمكاني، والبيئة الإنسانيّة والفكريّة لا بدّ من أن تُخرج إلى الإنسانيّة قلمًا بهذا الإبداع، وفكرًا بهذا التّميّز.
وعلى الرغم أنّ الكاتبة المُلهَمة لم تحظَ من سنواتِ العمر ما يتعدّى عمرَ الشّباب، لكنّها تمكّنت في عجالة حياتها من أن تترك بصمةً خالدةً، تشكّل نموذجًا لعبقريّة النّساء وتميّزهنّ، إضافةً إلى كونها مدرسةً تقدّم لتلاميذها مناهجهم المعرفيّة والتّربويّة وهم في بيوتهم.
وإذا كان المقام لا يتّسع لكي نقدّم دراسة عميقةً لمجموعة النّفائس الّتي تركتها الشّهيدة بنت الهدى، ومنها مجموعتها القصصيّة، لكن، ربّما أسعفتنا الكلمات بتقديم موجزٍ لقراءة واعيةٍ، يمكن أن يشير إلى أهمّيّة هذه المجموعة، ولا سيّما في واقعنا الحالي وما يواجهه الإنسان العربيّ والمسلم رجلًا كان أم امرأة، من تحدّيات الحياة.
لماذا القصّة؟
كان بإمكان الكاتبة أن تقدّم مناهج فكريّة وفلسفيّة، وأبحاثًا تشرح فيها، وتقدّم عظاتها لقرّائها، وربّما كان هذا أسهل على عقلٍ بمستوى نضوج عقلها، لكنّ حسّها التّربويّ، حدا بها إلى أن تغتنم دفق خيالها، وغزارة أفكارها في صياغة مجموعة قصصيّة شيّقة، مكّنتها من بسط نفوذ جاذبيّة أسلوبها على القارئ، وبدلًا من أن تعطيه خيارًا واحدًا للسّلوك الّذي تدعو إليه، فضّلت الكاتبة أن تقدّم صراعًا بين قوّة الحقّ وقوّة الباطل، مُظهرةً هذا الصّراع على هيئة مواقف وأحداث، تتنازع شخصيّاتها، وتتنازع معها مكامن الخير ومكامن الشّرّ في النّفس البشريّة، فتأخذ بيد القارئ نحو الفضيلة طائعًا، مرتاحًا، مستسلمًا، راغبًا، مقتنعًا كلّ الاقتناع، وهذه القدرة لا يمتلكها كثير من المُلهَمون.
إضاءة على المجموعة القصصيّة الكاملة للشّهيدة بنت الهدى:
ولنضئ على هذه القصص، وفحوى ما جاء فيها، علّ هذه الإضاءة تكون دعوةً مخلصةً لقراءة هذه المجموعة، والارتواء من معينها العذب.
تتألّف هذه المجموعة القصصيّة من اثنتي عشرة قصّة، مختلفة المواضيع، متعدّدة الأساليب، لكنّها تجتمع على الدّعوة إلى التّخلّص من سيطرة العالم المادّيّ على العقل البشري، وتنقية السّلوك الإنساني من الشّهوات والنّقائص.
تبدأ المجموعة بمقدمة تمهّد الكاتبة فيها للمجموعة، تعقبها القصص بالتّسلسل الآتي:
1. الفضيلة تنتصر: قصّة حواريّة، تدور أحداثها بين شخصيّات واقعية، مختلفة في السّلوك والمواقف. يجري بينها صراع ينتهي بانتصار الخير على الشّرّ.
2. ليتني كنت أعلم: مجموعةٌ من القصص ذات المواضيع المتنوّعة، بأبطال وبطلات يعيشون عقد الحياة ومشاكلها، ويقع بعضهم في مغرياتها، فيأتي الحلّ ليكون عبارةً عن تجربة سامية، تعالج السّلوك الإنساني، وتأخذ بأيدي التّائهين نحو شاطئ الخلاص والأمل.
3. امرأتان ورجل: تمزج الكاتبة ضمن هذه القصّة العاطفة بالمنطق، والأدب بالعلم، فيغلب عليها الحوار بهيئة مراسلات بين سائل يبحث عن الحقيقة، ومجيب يقدّمها بوعي ومنطق جذّاب، مقدّمًا الدّليل والبرهان، دون أن تغفل الكاتبة عن متانة السّبك، وبلاغة التّعبير.
4. صراع من واقع الحياة: مجموعة قصصيّة، عرضت فيها الكاتبة عدّة أزمات نفسيّة واجتماعيّة تواجه الإنسان ضمن المجتمع الإسلاميّ المحافظ، كما قدّمت حلولًا لهذه الأزمات بأسلوب شيّق وجذّاب.
5. لقاء في المستشفى: تتغلغل حكايا الكاتبة في خفايا الحياة اليوميّة، لتضيء على مساوئ سيطرة النّظرة المادّيّة على الإنسان، وتعرض المشكلات بطريقة حواريّة مبسّطة، يمكن للقارئ أن يفهمها بسهولة، ويتنبّأ بنهاياتها.
6. الخالة الضّائعة: تتشابه هذه المجموعة القصصيّة مع سابقتها، من خلال الإضاءة على الانقياد الإنسانيّ للمادّة، ومساوئ هذا الانقياد، وكيفيّة النّجاة من شباك الشّهوة والمادّة، على شكل حوارٍ شيّق ورشيق.
7. ذكريات على تلال مكّة: قصّة تعليميّة، أشبه بالمذكّرات، تروي فيها الكاتبة قصّة صُحبتها لسيّدات ستٍّ رافقنها في رحلة الحجّ، وكيفيّة تأديتهنّ لمناسك الحجّ، وتختم هذه القصّة بقصيدة شعريّة مطوّلة.
8. الباحثة عن الحقيقة: قصة طويلة، تحمل فكرة الانتماء الدّينيّ في جوهر العقيدة، وعمق الالتزام بالدّين، بعيدًا عن السّطحيّة والخواء.
9. كلمة ودعوة: هذا الكتاب هو أوّل مؤلّفات الشّهيدة بنت الهدى؛ نشرته في السّتّينات، وهو عبارة عن رسائل متسلسلة تبدؤها بلفظة: أختاه، وتتبعها بمونولوج جميل ولطيف، تقدّم فيه دليلًا شاملًا للمرأة المسلمة، وتعرض فيه حقوقها وواجباتها.
10. بطولة المرأة المسلمة: ضمن هذا الكتاب تقدّم الكاتبة قصصًا موجزة عن بعض النّساء المسلمات اللّواتي قدّمن صورة ناصعة عن تضحيات وجرأة المرأة في عصر النّبيّ محمّد (ص) في دفاعها عن دينها.
11. المرأة مع النّبيّ (ص): عبارة عن إضاءات مختصرة على سِيَرِ بعض النّساء المسلمات اللّواتي عشن مع النّبيّ الأعظم (ص)، وحوله.
12. المرأة في شريعة النّبيّ: كتابٌ تحكي فيه الكاتبة عن التّغيّر الّذي طرأ على واقع المرأة بعد نبوّة محمّد، بأسلوب سهل مبسّط.
حصادُ القراءة:
من خلال قراءتنا لهذه المجموعة، وتشجيع فتياتنا على قراءتها، سنحصل على:
- الأسلوب السّهل الممتنع: فالكاتبة تتميّز بسهولة مفرداتها وغناها، وهي متمكّنة لغويًّا وبلاغيًّا، تنسجم مع القارئ، وتراعي تنوّع قدراته، وتُغني خياله.
- القصّة الكاملة بمؤشّراتها ومكوّناتها وعناصرها: تقدّم الكاتبة نماذج من القصص الواقعيّة بأزمنتها وأمكنتها وشخصيّاتها، دون أن تغفل عناصر القصّة، من وضع أوّلي إلى حدث مبدّل فعقدة فحلّ، بأسلوب أدبيّ متين.
- الفكرة العميقة: تتناول الكاتبة الأفكار في العمق، فتتغلغل في خفايا النّفس، وتضيء على الصّراعات، وتعطي تحليلًا للعقد النّفسيّة، وتبرّر السّلوك بطريقة ذكيّة لمّاحة.
- المنهج التّربويّ: تقدّم الكاتبة نماذج تعليميّة تربويّة من خلال الصّراع بين الحقّ والباطل، والخير والشّرّ، وانتصار الخير دائمًا رغم أنّه أدنى مادّيًّا، وأضعف، وبذلك تُحيي الأمل ربويّة من خلال الصّراع بين الحقّ والباطل، والخير والشّرّ، وانتصار الخير دائمًا رغم أنّه أدنى مادّيفي نفس القارئ، وتزيد من قدراته على مواجهة الظّلم وتحدّيه.
- إغناء المخزون اللّغوي: هناك حشد من المفردات الجزلة، والتّراكيب المتينة الّتي ساقتها الكاتبة خلال نصوصها، وقد قصدت أن تحيط المبهمة منها بحشد من الألفاظ السّهلة لتيسّر فهمها وحفظها وإعادة استعمالها.
- المفاهيم الإسلامية: قدّمت الكاتبة العقيدة الإسلاميّة بأرقى مظاهرها، من خلال شخصيّات تعتبر إرضاء الله أولويّتها، وتخوض التّجارب بقوّة وشراسة ضدّ مغريات الحياة، والشّهوات الّتي تعترض طريقها، لتكون نموذجًا مضيئًا للقارئ الباحث عن الكمال.
- خلاصة التّجربة الإنسانيّة: لم تنسَ الكاتبة أن تقدّم في كلّ قصّة ساقتها خلاصة لتجربة إنسانيّة واقعيّة، يمكن أن تشكّل إضافة تربويّة وتعليميّة مهمّة للقارئ، وتشحذ قيَمَهُ بفضائل القرآن الكريم والإسلام الحنيف.
خلاصة:
رغم مرور حقبة زمنيّة أدبيّة لا بأس بها على صدور هذه المجموعة، لكنّ ثباتها في وجه الزّمن يضاعف من قيمتها، ويعطيها مكانة تجعل من دراستها أمرًا مهمًّا، بوصفها وثيقة أدبيّة ودينيّة وتربويّة لا غنى عنها في مناهج السّلوك الإنسانيّ قبل الإسلامي، وضرورة لكلّ باحث عن الكمال الخُلقيّ.