-----------

القلب المطمئن

{ حامد فتحي }

القلب المطمئن

لا يدري لماذا عاودَته ذكرى تلك الابتسامة الصافية لرجلٍ لم يعرف اسمه ولا عنوانه، على الرغم من أنّ السؤال عن هويّته لم يكن صعبًا؛ لربما حداثة السِّنِّ منعته من ذلك، أو حقيقة اكتفائه برؤية تلك الابتسامة الصافية المنسابة على وجهه البسيط الذي يشعُّ بشاشةً وطمأنينةً.

أتت تلك الذِّكرى في وقت بلغ الطفل مبْلغَ الرجَّال، ونهل من الحياة، وخاض غمارها. فاكتشف أنَّها ليست كما تخيَّل، فلم تكن لحظاتٍ متتاليةٍ من السعادة، وتحقيق أحلامِ العمل، ونيل الوجاهة والشهرة. ما أقسى ما مرّ به هذا الطفلُ لمدَّة عقدٍ ونصفٍ حتى أدرك الحقيقة التي مَثلت أمام عينيه، وأعجبته مرارًا، دون أن يُدرك كُنهها.

اليوم وهو وعلى أعتاب العقد الرابع باتت تُراوده تلك الابتسامةُ، وأصبحت بمثابة حلمٍ يُجاهد لنيله، بعد أن كانت وجودًا حقيقيًّا يراه كلُّ يومٍ، دون مجاهدةٍ أو مدافعة.

يتذكَّر وجوهًا عديدة في القرية، وجهُ ذلك الحلاَّق دائمُ العبوسِ، ونفوره منه هو ورفاق الطفولة، ذلك الرَّجل الذي عرَفهُ كأنَّه “بُعْبُع الطُّفولةِ” بصوتهِ الصَّادح الغاضب، الذي طالما أرهب الأطفال، وخَوَّفهم من الذهاب إلى الجامع المجاور لبيته.

على النَّقيضِ من ذلك يظهرُ وجهُ الكهل البشوش، ليمحو كلُّ الوجوه التي لم تعرف حلاوة السلام النفسيِّ، والسكينة. مثَّل الكهل البشوش هبةً من الله له في الطفولة، ومنهلًا للسكِّينة زوّدهُ بشراب بارد، كثيرًا ما أنعش روحه، وبقي من آثاره وجود ضئيل مختبئ تحت طبقاتٍ من مشاغل الحياة.

 في قرارةٍ نفسه بات ذاك الوجه مثالًا للطمأنينة والرضى؛ كأنَّ السلام جُسِّد في هذا الرجل، في هيئته، وملبسه، ومِشيَته، وحركات جسده، ورؤيته للحياة. في الصفوف الأولى لصلاة الجماعة؛ في صلاتي المغرب والعشاء اعتاد رؤيته، وقطرات مياه الوضوء تتلألأ على وجهه الوقور، فتزيده ضياءً، وهو يتقدَّمُ بسكِينةٍ نحو أوَّل الصفوف، وترتسم على وجهه ابتسامة صافية لا تفارقه أبدًا.

مرَّات عدَّةٍ في طفولته شاهد الرجلَ الكهلَ عائدًا من حقله وقت غروب الشمس، ممسكًا بحبل مشدود برفقٍ إلى عُنقَي رأسين من الماشية، تسيران وراءه بالوتيرة المتمهِّلة نفسها، في مشهدٍ يسوده الجلال، مشهدٌ بات بمثابة لوحة محفورة في ذاكرته، يودّ لو يطبعها على لوحٍ خشبيّ، ويعلِّقها على جدارٍ في شقّته السكنيَّة، كي تظلَّ مُتَّقدة في ذهنه، وعلامة تذكُّره بأن لا يُفرط في الانشغال بالعمل على حساب طمأنينة النفس.

لم يجمع هذا الرجل كثيرًا من المال، ولا أنفق عمره في العمل في بلدان أجنبيّة لهثًا وراء تكديس المال، بينما تربَّعَ على عرش حقله البسيط ملكًا، حاز الدنيا وما فيها، وهل هناك أفضل من العودة إلى البيت بعد يوم عملٍ وعلى الوجه ابتسامة رضًى بما كسبه الإنسان؛ لينام دون عبءٍ من مقابلة المدير في الغد، أو قلقٍ على أرباح لم تبلغ النصاب المأمول.

طوال سنوات يتذكَّر ذهابه في طفولته إلى أقْدم جوامع القرية وأكبرها، مثل معظم أهل القرية، حيث رأى الرجل البشوش مرارًا يمشي بتَؤدة، كأنّه يطفو على بساط الجامع. لا تنفصل ذكرى السموِّ العمرانيِّ لبناء ذاك الجامع عن ذكرى الرجل ذو الوجه البشوش، كأنَّ الاثنين يُكْملان بعضهما، ليخلقا مشهدًا لتجلِّي عظمة الإيمان؛ الرجل بصدق الإيمان، والجامع بما حمله من تراث عمرانيّ أبدعه الفنَّان المسلم عبر قرونٍ، مستلهمًا تجربته الدينيَّة.

لم يكن الجامع بناءً يَقي من الشمس والمطر فقط، بل كان قطعةً عمرانيَّة مليئة بالسكينة والأمان، بأعمدته المرتفعة، وفضائه الواسع، وتعدّد الشبابيك والأبواب التي سمحت لضوء النهار بأن يَغْمر فضاءه، فبدا الضوء الطبيعيُّ مكمّلًا لهويَّة الجامع باعتباره بيتًا من بيوت الله.

منذ عقدٍ ونيَّف لم يرَ صاحب الوجه الطيّب، لكنّ هيئته ما زالت تحتفظ بنضارتها في ذاكرته، يستدعيها حينما تضيْق الدنيا عليه، فيصحو من غفلة الانغماس في ملذَّات الدنيا، حين يتذكّر حقّ نفسه في السكينة والطمأنينة. اليوم صار يتمنَّى ما كان باديًا أمامه منذ الطفولة، ولم يدركه، صار يتمنَّى السلام والطمأنينة، ووجه بشوش لا تعكِّره منغّصات الدنيا، وقلب مليء بالرضى والتسامح.

طوبى لذلك الكهل أينما كان، وطوبى لعلاقته بربِّه، وهنيئًا له حلاوة الإيمان، وهديَّة السكينة التي كُوفئ بها جزاءً على إخلاصه لربَّه، هكذا اعتاد أن يردّد كلَّما جاءته ذكرى الوجه البشوش، معاهدًا نفسه أن يصنع تجربته الحياتيّة دون انقيادٍ للشَّره أو الإسراف، دون حسد لما في يد غيره، بل طمعًا في سكينة مثل التي نالها ذو الوجه البشوش.