-----------

أبو الأسود الدؤلي، النحوي الأول

{ خضر فرحات }

أبو الأسود الدؤلي، النحوي الأول

كثيرةٌ هي العلوم والمعارف التي كان البشر يطبّقونها دون أن يكون لها قواعد مكتوبة، أو نظريّات مدروسة ومدوّنة في الكتب، إلى أن يأتي مَن يُنظِّمها، ويضع لها أسسًا وقواعد تُدوّن كتبيًّا لتطويرها بحيث يتمّ الاعتماد عليها.

وعلم النحو من هذه العلوم؛ فقد كان عرب الجاهليّة سادة الفصاحة والبلاغة، وكانوا لا يلحنون في القول، ولا يُخطئون في اللفظ، على الرغم من أنّهم كانوا لا يملكون كتبًا لتدريس النحو، ولم تتوفر بين أيديهم مناهج وأساليب لتيسيره، حتى أتى أبو الأسود الدؤليّ، فاستنبط من كلامهم قواعد يُسار عليها في ضبط أواخر الكلمات، ويُعصم من أتقنها من اللحن في التلفّظ أو الكتابة.

فمن هو أبو الأسود الدؤليّ؟

هو  أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤليّ الكنانيّ من قبيلة الدئل، من كنانة مُضَرْ التي سكنت البصرة. ولد في العام 603 للميلاد قبل بعثة النبيّ محمد (ص)، وآمن به دون أن يلتقيه أو يره. تميّز بفصاحته البالغة حتى اشتُهر عنه قوله: “إني لأجد للحن غمزًا  كغمز اللحم”. وهو واضع علم النحو[1]، بإشارة من الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) على الرأي المشهور، حيث عُدّ من أصحابه المخلصين[2].

 ونُقل أنّه تولّى إمارة البصرة من قِبل ابن عباس، وذلك عندما دعاه
الإمام علي (ع) للالتحاق به في صفّين؛ فذهب واستخلف أبا الأسود عليها.

أسّس أبو الأسود قواعد اللغة العربيّة، ووضع لبناتها الأولى؛ حيث خاف على الناس من الوقوع في اللحن والغلط في قواعد العربيّة؛ ولهذا كان أوّل من وضع قواعدها، وأنهج سبلها، ووضع أقيستها، فوضع باب الفاعل، وباب حروف الجرّ، وباب المضاف، وباب النصب، وباب الجرّ، ووضع الحركات والتنوين على الجمل[3].

 وضع طريقة خاصّة لضبط كلمات المصحف الشريف؛ حيث استخدم فكرة الألوان المُخالفة، ووضع نقطة فوق الحرف ليدلّ على الفتحة، ونقطة تحته ليدلّ على الكسرة، ونقطة على يسار الحرف للدلالة على الضمّة، ونقطتين فوق الحرف، أو على يساره للدلالة على التنوين، أمّا بالنسبة للحرف الساكن فتركه دون أيّ نقاط، وفي تلك الفترة لم يُستعمل هذا الضبط إلّا في القرآن الكريم.

وكان أبو الأسود أوّل مَن ألّفَ كتابًا في النحو، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف وحروف النصب والرفع والجر والجزم، وكانت جهوده في تأسيس النحو الأساس الذي تكوَّن منه المذهب البصريّ لاحقًا، وقد فعل ذلك كلّه بإشارة من الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)؛ لأنّ الروايات كلّها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى عليّ.  وقد رُوي عنه أنّه سُئل: من أين لك هذا العلم؟ فقال: لقّنْتُ حدودَه من عليَ بن أبي طالب. وفي حديث آخر قال: ألقى إليّ عليٌّ أصولًا احتذيتُ بها.

وأمّا السبب المباشر الذي دفع أبا الأسود لتأسيس علم النحو فذكروا فيه أقوالًا مختلفة، فقال بعضهم: وضع أبو الأسود الدؤليّ النحو بنفسه عندما سمع اللحن في قراءة القرآن‏، وقال آخرون:إنّ السبب الذي وُضعت له أبواب النحو أنّ بنت أبي الأسود، قالت له: ما أجْمَلُ السمَاءِ؟، فقال: نجُومُهَا، قالت: أنا لا أستفهِمُ يا أبتاه بل أتعجّب، فقال: إذا أردتِ أن تتعجّبي فافتحي فاكِ وقولي ما أجمَلَ السَمَاءَ، فأخبر بذلك عليًّا عليه  (ع) فأعطاه أصولًا بنى منها، وعمل بعده عليها[4].

ورُوِيَ عن أبي الأسود أنّه قال: “دخلت على أمير المؤمنين عليٌّ، فرأيته مطرقًا مفكِّرًا؛ فقلت: فيمَ تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: سمعت ببلدكم لحنًا، فأردت أن أصنع كتابًا في أصول العربيَّة، فقلت له: إن فعلت هذا أبقيتَ فينا هذه اللغة العربيّة، ثم أتيته بعد أيّام، فألقى إليَّ صحيفة فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كلُّه اسم وفعل وحرف؛ فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس باسم ولا فعل”.

ثم قال: تتبَّعْه وزِدْ فيه ما وقع لك، واعلم أنّ الأشياء ثلاثة: ظاهرٌ، ومضمرٌ، وشيءٌ ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ، وإنّما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر.

فجمعتُ أشياء وعرضتُها عليه، فكان من ذلك حروف النَّصب، فذكرت منها: إنَّ، وأنَّ، وليت، ولعلَّ، وكأنَّ، ولم أذكر لكنَّ، فقال:لمَ تركتَها؟ فقلت:لم أحسبها منها، فقال: بلى هي منها، فزدها فيها”[5].

وبعد حياةٍ مليئة بالعلم والعطاء، أصيب أبو الأسود بمرض الفالج في آخر حياته، ما سبب له العرج، وتوفي سنة 69 هــ أثناء خلافة عبد الملك بن مروان، وله من العمر 85 سنة.

 

وَعَجِبتُ للدُنيا وَرَغبَةِ أَهلِها

وَالرِزقُ فيما بَينَهُم مَقسومُ

و َالأَحمَقُ المَرزوقُ أَعجَبُ مَن أَرى

مِن أَهلِهاh وَالعاقِلُ المَحرومُ

ثُمَّ اِنقَضى عَجَبي لِعلميَ أَنَّهُ

رِزقٌ مُوافٍ وَقتُهُ مَعلومُ

* * *

يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ

هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى

كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا

فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى

بِالْقَوْلِ مِنْك وَيحصل التسليمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ

عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ

فاِترُك مُحاوَرةَ السَفيهِ فَإِنَّها

نَدمٌ وَغِبُّ بَعدَ ذاكَ وَخيمُ

وَإِذا جَريتَ مَع السَفيهِ كَما جَرى

فَكِلاكُما في جَريهِ مَذمومُ

وَإِذا عتِبتَ عَلى السَفيه وَلُمتَهُ

في مِثلِ ما تأَتي فَأَنتَ ظَلومُ

* * *

حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيه

فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ

كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها

حَسدًا وَبَغيًا إِنَّهُ لَدَميمُ

وَالوَجهُ يُشرُقُ في الظَلامِ كَأَنَّهُ

بَدرٌ مُنيرٌ وَالنِساءُ نُجومُ

-------------------------------------

[1]- يراجع: الزركليّ، خير الدين: معجم الأعلام، ط15، دار العلم للملايين، بيروت، 2002م، ج3، ص 236-237.

[2]- يراجع: الجمحيّ، محمد بن سلام: طبقات الشعراء، (لا ط)، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2001م، صفحة 29.

[3]- يراجع: الزركليّ، خير الدين: معجم الأعلام، (م، س)، ج3، ص237.

[4]- يراجع: أبو الأسود الدؤليّ: مؤسّس النحو، ملحق صحيفة الاتّحاد، القاهرة، 29 مايو ،2019م.

[5]- يراجع: أبو الأسود الدؤليّ وخدمته للغة العربيّة، مقال في موقع دار الإفتاء المصريّة، بتاريخ 17 ربيع الأول 1441هـ / 14 نوفمبر 2019م،dar-alifta.org.