رويدًا.. رويدًا..
هذه أرض الغريّ..
حيث شاء الله أن يُعبد... فغيض الماء واستوى الفلك على الجوديّ
هذه أرض الغريّ...
بعض ترابها مسكٌ، وبعضها تبرٌ، وبعضٌ.. وما أدراك ما بعضٌ؟
إذ احتوى الأميرَ عليًّا..
النجف الأشرف،حاضرةٌ علميّة عريقة، وهي واحدة من أبرز المدن العراقيّة المقدّسة. نشأت حول مرقد الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، في ظهر الكوفة، ثم ما لبثت أن ورثتها مكانةً وسُكّانًا؛ حيث أصبحت محافظة مستقلّة تلحقها الكوفة وبعض المدن الأخرى.
تعدّدت أسماؤها، ولكلّ اسمٍ شريفٍ دلالةٌ على عراقة هذه المدينة وأصالتها:
«النجف الأشرف»: ويعود اسمها إلى ذلك الجبل العظيم الذي أراد ابن نبي الله نوح (ع) أن يأوي إليه هربًا من الطوفان؛ حيث قال لأبيه: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ)(سورة هود، الآية43)، فأوحى الله عزّ وجلّ: «يا جبل، أيُعتصم بكَ منّي؟ فتقطّع قطعًا إلى بلاد الشام، وصار رملًا دقيقًا، وصار بعد ذلك بحرًا عظيمًا، كان يسمّى «نيّ»، ثم جفّ، فقيل «نيّ جف»، ثمّ صاروا يسمّونه «نجف»؛ لأنّه كان أخفّ على ألسنتهم[1].
«الغريّ»: الغريّ لغةً هو الحسنُ من كلّ شيء. والغريّان بناءان كالصومعتين مشهوران بالكوفة عند مقام أمير المؤمنين (ع)، وهذه التسمية مشهورةٌ متداولة منذ ما قبل الإسلام، وما زالت إلى يومنا هذا.
«الجوديّ»: ورد هذا الاسم في بعض كتب التفسير والتاريخ والأخبار، نسبةً إلى جبل الجوديّ الذي استوت عليه سفينة النبيّ نوح (ع) بعد الطوفان، حيث يذكر بعض المؤرّخين والمفسّرين أنّه بالقرب من الكوفة[2].
«المشهد»: من التسميات التي عُرفت بها النجف بعد ظهور المرقد الشريف لأمير المؤمنين (ع) وعمارته.
مدينة النجف تاريخيًّا:
تعود مدينة النجف إلى عصورٍ تاريخيّةٍ قديمة، لم تُحدّد وفق إطارٍ زمنيٍ حتى اليوم، ولكن تذكر بعض الروايات الشريفة أنّ فيها استوت سفينة نبيّ الله نوح (ع)، ومنها تفرّق أولاده في الأرض، وفيها كان منزل خليل الله إبراهيم (ع).
والمعروف أنّها كانت في العصر الجاهليّ متنزّهًا لملوك الحيرة اللخميّين والمناذرة، وكانت عامرةً بالأديرة المسيحيّة؛ وذلك لتميّزها بمناخٍ معتدلٍ مقارنةً بالحجاز.
وعند الفتح الإسلاميّ كانت مأهولةً بالعرب، وهم أهل زراعة، وقد وقعت فيها معارك مهمّة[3].
نزل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الكوفة سنة 36ه واتخذها عاصمةً للدولة الإسلاميّة، وجعل ظهر الكوفة مقبرةً للمسلمين. وحين توفيّ بالكوفة شهيدًا حمله ابناه الحسن والحسين (ع) إلى الغريّ من نجف الكوفة ـ وكانت منطقةً متطرفةً من النجف ليس فيها عمارة ـ قريب من قبريّ النبيّين هود وصالح (ع)، وبجوار قبريّ النبيين آدم ونوح (ع)، فدفناه وأخفيا موضع قبره بوصيّةٍ منه (ع). حيث بقي مخفيًّا زمنًا غير قليل بلغ حوالي 90عامًا.
ازدهرت النجف بعد ظهور القبر الشريف، فنشأت العمارة حول المرقد، ثمّ توسّعت البلدة، وتطوّرت من النواحي العلميّة والعمرانيّة، فازدهرت المدارس والمساجد وكثُر عدد سكّانها. وقام بعض المقتدرين منهم بتحصين النجف فشيّدوا الأسوار حول المدينة التي لا تزال بعض آثارها إلى اليوم.
وبما أنّ النجف الأشرف إحدى المدن المقدّسة؛ لاحتضانها المرقد المطهّر لحرم الإمام عليّ بن أبي طالب، وعدد من المراقد والمقامات الشريفة للأنبياء والصالحين، فقد ازدهرت بسياحتها الدينيّة، حيث تستقبل حوالي خمسين ألف زائرٍ يوميًّا، أمّا في المناسبات الدينيّة، فيصل عدد زوارها إلى ما يقارب مليون وخمسمئة ألف زائر.
معالم النجف الأشرف:
مقام أمير المؤمنين علي (ع):
رُوي عن رسول الله (ص): «إنّ الله عزّ وجلّ عرض مودّتنا أهل البيت على السماوات والأرض، فأوّل من أجاب منها السماء السابعة، فزيّنها بالعرش والكرسي، ثمّ السماء الرابعة، فزيّنها بالبيت المعمور، ثمّ السماء الدنيا، فزيّنها بالنجوم، ثمّ أرض الحجاز، فشرّفها بالبيت الحرام، ثمّ أرض الشام، فزيّنها ببيت المقدس، ثمّ أرض طيبة فشرّفها بقبري، ثمّ أرض كوفان فشرّفها بقبرك يا عليّ..»[4]
بقي المرقد الشريف سرًّا مكتومًا وكنزًا مصونًا لم يطّلع عليه سوى أولاد أمير المؤمنين (ع)، وخواصّ أصحابه إلى زمن العباسيّين، وكان أوّل من أقام عليه صندوقًا داوود بن عليّ العبّاسيّ، ثم هُجر القبر الشريف حتى أعاد بناءه هارون العباسيّ سنة 170ه، وبنى قبةً بيضاء عليه. وقد جُدِّد بناؤه مرّاتٍ عديدة في مراحل مختلفة؛ ليصبح منارةً يقصدها الزائرون من كلّ حدبٍ وصوب.
كما يقع مرقدا النبيّين آدم ونوح في نفس البقعة المباركة.
وادي السلام: تُعدّ مقبرة النجف أو وادي السلام من أوسع مقابر العالم، حيث تحتوي حسب التقديرات على ما يقارب ستة ملايين قبر، وقد أُدرجت ضمن قائمة التراث العالميّ، وحظيت بشهرةٍ واسعة؛ لما ورد من استحباب الدفن في تربتها، ولمجاورتها مقام أمير المؤمنين (ع).
تضمّ مرقدي النبيّين هود وصالح (ع)، مقام صاحب الزمان (عج)، مقام الإمام زين العابدين (ع)، وعددًا من مراقد أولياء الله الصالحين والعلماء والمؤمنين.
مسجد الكوفة: أحد أهمّ مساجد النجف الأشرف التاريخيّة، يضمّ مقامات لعددٍ من الأنبياء والصالحين. وهو من أقدم المساجد، فقد سُئِل الإمام الصادق (ع): «إنّ مسجد الكوفة قديم؟ فقال: نعم، وهو مصلّى الأنبياء (ع)، ولقد صلّى فيه رسول (ص) حين أُسريَ به إلى السماء، فقال له جبرئيل (ع): يا محمد هذا مسجد أبيك آدم (ع) ومصلّى الأنبياء (ع)»[5]. وللمسجد مكانة عظيمة، فقد رُوي أنّ الإمام الصادق (ع) سأل أحد أصحابه: «كَمْ بَيْنَكَ وبَيْنَ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَكُونُ مِيلًا، قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَتُصَلِّي فِيه الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا، قُلْتُ: لَا، فَقَالَ: أَمَا لَوْ كُنْتُ بِحَضْرَتِه لَرَجَوْتُ أَلَّا تَفُوتَنِي فِيه صَلَاةٌ وتَدْرِي مَا فَضْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ صَالِحٍ، ولَا نَبِيٍّ إِلَّا وقَدْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ كُوفَانَ، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) لَمَّا أَسْرَى اللَّه بِه قَالَ لَه جَبْرَئِيل (ع) تَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه السَّاعَةَ أَنْتَ مُقَابِلُ مَسْجِدِ كُوفَانَ قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ لِي رَبِّي حَتَّى آتِيَه فَأُصَلِّيَ فِيه رَكْعَتَيْنِ، فَاسْتَأْذَنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَأَذِنَ لَه. وإِنَّ مَيْمَنَتَه لَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وإِنَّ وَسَطَه لَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وإِنَّ مُؤَخَّرَه لَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وإِنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ فِيه لَتَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ، وإِنَّ النَّافِلَةَ فِيه لَتَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ، وإِنَّ الْجُلُوسَ فِيه بِغَيْرِ تِلَاوَةٍ ولَا ذِكْرٍ لَعِبَادَةٌ. ولَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِيه لأَتَوْه ولَوْ حَبْوًا»[6].
اتّخذه أمير المؤمنين (ع) مقرًّا للحكم والقضاء؛ وألقى على منبره عددًا من خطبه المشهورة. استُشهد فيه أثناء إقامته لصلاة الصبح ليلة 21 من شهر رمضان سنة40 من الهجرة على يد أحد الخوارج.
مسجد السهلة: أحد أهمّ المساجد التي بُنيت في الكوفة خلال القرن الهجريّ الأوّل، وهو على صلةٍ وثيقة بتاريخ الأنبياء، ورد في الروايات أنّه: «موضع بيت إدريس النبيّ (ص)، والذي كان يخيط فيه، ومنه سار إبراهيم (ع) إلى اليمن بالعمالقة، ومنه سار داود إلى جالوت»[7].
ومسجد السهلة هو مقرّ الإمام المهديّ (عج)، ومسكنه عند ظهوره.
قصر النعمان بن المنذر: أحد معالم مدينة النجف التاريخيّة، يعود لمملكة الحيرة القديمة ودولة المناذرة، التي كان لها شأن كبير في التاريخ العربيّ قبل الإسلام.
متحف التراث النجفيّ: خان الشيلان، يتكّون من طابقين: الأوّل يحتوي على مقتنيات أثريّة تخصّ العراق والنجف، والثاني يختصّ بالوثائق المهمّة لثورة العشرين.
كما تضمّ النجف كثيرًا من المساجد، منها: مسجد الحنّانة، مسجد الشيخ الطوسيّ، مسجد الخضراء، بالإضافة إلى بعض الأديرة القديمة من عصور ما قبل الإسلام.
الحركة العلميّة للنجف الأشرف:
كانت النجف وما زالت حاضرةً علميّة رائدة، وكيف لا تكون كذلك وقد تشرّفت بمرقد مثال العلم والمعرفة عليّ بن أبي طالب؟!
برزت النجف صرحًا علميًّا في شتّى المجالات، تضمّ عددًا كبيرًا من الحوزات الدينيّة والمدارس الأكاديميّة والمكتبات والمطبعات، تحتوي مكتباتها وخزائنهاـ على الرغم من الخطوب التي أصابت الكتب على أيدي التتر وغيرهم ـ كتبًا ثمينةً نادرة غير موجودة في أيّ مكان آخر، وكثيرٌ منها كُتب بخطّ مصنّفيها أو عليها خطوطهم بخطٍّ جيّدٍ متقن على ورقٍ ثمين مخطوطةً في العصور القديمة، وأغلبها قبل القرن العاشر الهجريّ.كما تحتوي على مصاحف ثمينةٍ لأشهر الخطّاطين من مختلف العصور، وبينها قطعٌ ثمينة نفيسة يُذكر منها قطعةٌ من مصحفٍ مكتوبٍ على رقٍّ بخطٍ كوفيٍّ، وفي آخره: «تمّ سنة أربعين من الهجرة، كتبه عليّ بن أبي طالب». وبحسب بعض الأعلام الخبيرين أنّه خط الأمير (ع).[8]
تمّ اختيار النجف في العام 2012م عاصمة للثقافة الإسلاميّة من قبل منظمة التعاون الإسلاميّ، ولا يخفى ما للنجف من باعٍ قديم في الأدب والشعر العربيّ، حيث يعود تاريخه إلى العصر الجاهليّ.
يا ابن أبي طالب...
يا من اكتفيتَ من دنياك بطِمْرَيك ومن طُعْمِك بقُرْصَيك...
لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع...
فكنت فيها من الزاهدين وإلى ربّك من الراغبين...
فاختار لك العليّ الأعلى أرض النجف مثوىً....
ورفع لك ذكرك...
وكذلك يجزي المحسنين...
فسلامٌ عليك يوم ولدت في بيت الله الحرام ويوم دُفنت في أرض الغريّ ويوم تبعث حيّ...
----------------------------------
[1]- يراجع: جعفر آل محبوبة: ماضي النجف وحاضرها، ط2، دار الأضواء، بيروت، 1986م، ص8.
[2]- لا يخفى على القارئ الكريم اختلاف الأقوال في موقع جبل الجوديّ ، ولكنّ القول المذكور من الأقوال المعتدّ بها وله أدلّته.
[3]- يراجع جعفر آل محبوبة، (م.س)، ص16.
[4]- المجلسيّ، محمد باقر: بحار الأنوار، (لاط)، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، (لات)، ج27، ص281.
[5]- الكلينيّ، محمد بن يعقوب: الكافي، ط4، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1362هـ.ش، ج8، ص281.
[6]- (م.ن)، ج3، ص491.
[7]- (م.ن)، ج3، ص494.
[8]- يراجع: جعفر آل محبوبة، (م.س)، ص148.