-----------

عندما يصبح «التصوير السيلفي» هوساً؟!

{ د. سعيد عبيدي }

عندما يصبح «التصوير السيلفي» هوساً؟!

لقد كان لدخول الهواتف الذكيّة والألواح الإلكترونيّة وغيرها من التقنيّات الرقميّة إلى عالمنا المعاصر، مضافًا إلى تطوّر وسائل التواصل الاجتماعيّ بكلّ أشكالها، أثرًا كبيرًا في ظهور مجموعة من الممارسات غير المسبوقة، أبرزها ما صار يُعرف بظاهرة «السيلفي» (SELFIE)، أو الصورة الذاتيّة، أو الصورة الملتقطة ذاتيًّا.

فما هي هذه الظاهرة التي شغلت بال الشباب إلى حدّ الهوس؟

وما هي آثارها وتداعياتها؟

مفهوم السيلفي:

السيلفي عبارة عن صورة شخصيّة يقوم صاحبها بالتقاطها لنفسه من خلال استخدام آلة تصوير أو  هاتف ذكيّ مجهّز بكاميرا رقميّة؛ ليقوم بنشرها على شبكات التواصل الاجتماعيّ عادةً، وقد يقوم باعتمادها صورةً رئيسة في ملفّه الشخصيّ، أو يستفيد منها لتسجيل حضوره في مكان معيّن، أو للتعبير عن حالة نفسيّة معيّنة في وقت معيّن. وتكون هذه الصورة عبارة عن صور عفويّة لا تتّسم بأيّ صفة رسميّة عادةً، ويقوم صاحبها بالتقاطها عبن طريق الإمساك بآلة التصوير بيده، وتوجيه الكاميرا إليه، أو عبر توجيهها إلى مرآة عاكسة في حال لم يتوافر في الهاتف كاميرا أماميّة[1].

بين السيلفي والبورتريه:

على الرغم من شيوع السيلفي في السنوات الأخيرة، إلّا أنّه ليس ظاهرة غير مسبوقة، إنَّما يمكن النظر إليه بوصفه نسخة حديثة مرتبطة بالتطوّر التكنولوجيّ وباختراع الهواتف الذكيّة وشبكات التواصل الاجتماعيّ لظاهرة «البورتريه» القديمة التي نشأت خلال القرون السابقة؛ فالسيلفي بمثابة مرآة ينظر فيها الإنسان ليعرف ما هو عليه بالفعل، وهو الدور نفسه الذي لعبه البورتريه، لكنّ الفرق هو أنّ الأخير كان حكرًا على الفنّانين أو على الأثرياء، بخلاف السيلفي الذي صار متاحًا للجميع، وبالتالي يمكن القول إنّ السيلفي كالبورتريه تمامًا؛ تدور وظيفته حول ثلاثة أشياء هي: التعبير عن الذات، والتوثيق، والأداء؛ فالبشر بحاجة لتوثيق حياتهم وشخصيّاتهم ومظاهرهم، وأوضاعهم الراهنة، ومزاجهم، ومشاعرهم، وما يفكّرون فيه وأحيانًا، وهو يمثّل تعبيرًا عن الطبيعة الاجتماعيّة للبشر أيضًا، وهي الرغبة في أن يشاركنا الآخرون خبراتنا وتجاربنا[2].

ظاهرة السيلفي في الدراسات النفسيّة:

من المعلوم أنّ السيلفي بطبيعته موجّه للخارج؛ لأنّ الناس لا يلتقطون الصور الذاتيّة ليحتفظوا بها لأنفسهم أو ليتأمّلوها بحثًا عن ذواتهم وهويّاتهم الضائعة، وإنَّما يأخذونها لنشرها على الملأ، وبالتالي فإنّ المقصود من السيلفي هم الآخرون، أو المشاهدون، أو الجمهور.

ولا شكّ أنّ شبكات التواصل الاجتماعيّ قد وفّرت منصّة عريضة لمزاولة هذا الأمر من خلال (بروفايل) المرء ومدوّناته وصوره الذاتيّة؛ فالأصدقاء والمتابعون على الفايسبوك أو تويتر أو الانستغرام مثلًا هم بمثابة الجمهور الذي يعرض المرء أمامه جزءًا من ذاته، إمّا بغرض معرفة انطباعهم عنه، أو بغرض إقناع هذا الجمهور، وإقناع نفسه أنّه على الصورة التي يودّ أن يكون عليها بالفعل.

وقد ازدادت وتيرة استعمال السيلفي في السنوات القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعيّ بشكل كبير، حتى أصبح بعض الشباب مدمنًا عليها، بل صار بعضهم يُعرّض حياته للخطر، فيذهب إلى مواقع خطيرة لالتقاط صورة ذاتيّة، ما دفع العلماء إلى تسميته بالهوس أو الاضطراب النفسيّ، والعمل على تفسير هذه الظاهرة ومعرفة تأثيراتها على المستخدمين.

كشفت كثير مـن الدراسات ارتباط كثرة صور السيلفي بالشخصيّات النرجسيّة؛ حيث أوضحت أنّ الأشخاص الذين يهتمّون بصور السيلفي ويقضون وقتًا طويلًا في تعديلها ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ يُركّزون اهتمامهم على ذاتهم بشكل أكبر، ويعتقدون أنّهم أكثر ذكاءً وجاذبيّة، فهم يميلون إلى تضخيم الذات وتفضيلها على الآخرين. وهذا يعني أنّهم يعانون من مرض النرجسيّة الذي يدفع صاحبه إلى التعالي والغرور وعدم الاهتمام بالآخرين.

 وذهبت دراسات أخرى إلى أنّ  المداومة على التقاط صور السيلفي يؤدّي أحيانًا إلى الإدمان الذي يصعب التخلّص منه، خصوصًا مع زيادة التفاعل من قبل الأصدقاء والمقرّبين على الصور الملتقطة، وقد تدفع صاحبها إلى درجة الهوس، بحي يقوم بتصوير نفسه في كلّ المواقف. لكنّ الخطير أنّ عدم  تفاعل الأصدقاء أو قلّة تفاعلهم مع صور الشخص، قد يُشعر الشخص بالاكتئاب،  وقد يؤدّي إلى ظهور سلوكيّات مرَضيّة من بينها الانتحار[3].

والجدير ذكره أنّ منظّمة الصحّة العالميّة صنّفت الإدمان الإلكترونيّ بكلّ أشكاله، ومنها التقاط صور السيلفي، ضمن الأمراض النفسيّة، ولم يكن هذا التصنيف نابعًا من فراغ، حيث إنّ جميع الدراسات التي أُنجزت في هذا المجال تشير إلى الآثار السلبيّة المترتّبة على ذلك، فقد بات هوس السيلفي أشبه بالفيروس الذي يتغلغل في تفاصيل حياة العديد من أطياف المجتمع، ولعلّ فئة الشباب هي الأكثر اندفاعاً إلى التقاط هذه الصور في كلّ المناسبات، وخاصة الإناث، وهو الأمر الذي أكّده الانجليزي ريتشارد واطسون، حيث ذهب إلى أنّ الإناث مهووسات بالتصوير بشكٍل عامّ وبالسيلفي بشكل خاصّ، وذلك مقارنةً بالذكور، حيث يقضين نحو خمس ساعات أسبوعيًّا في أخذ صور السيلفي، وذلك من أجل إبراز جمالهنّ[4].

لم يعد السيلفي مجرّد صورة ذاتيّة يخلّد بها المرء ذكرى من ذكرياته، بل تعدّاها ليصبح هوسًا لدى كثير من الناس من مختلف الأعمار؛ فلا يكاد يخلو أيّ هاتف ذكيٍّ من الصور التي يلتقطها الشخص لنفسه أو بصحبة أصدقائه، وهو هوس ينمّ في الغالب الأعمّ عن عدم ثقة المرء بذاته. وقد حدّد علماء النفس ثلاثة مستويات لهذا الهوس أو الاضطراب، وهي:

أوّلًا: الاضطراب الخفيف: وهو مرتبط بالأشخاص الذين يلتقطون صور السيلفي ثلاث مرّاث أو أكثر في اليوم، ولا يقومون بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ.

ثانيًا: الاضطراب الحادّ: ويتمّ تشخيصه عند المرء الذي يلتقط صور السيلفي أكثر من ثلاث مرات، ويقوم بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ.

ثالثًا: الاضطراب المزمن: ويحصل عندما يفقد الإنسان السيطرة على نفسه في التقاط الصور الذاتيّة على مدار الساعة، ويقوم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ[5] .

تأثيرات السيلفي «المرَضيّ» على علاقات الأفراد:

أجمعت أغلب الدراسات أنّ هذه الظاهرة تؤثّر سلبيًّا على علاقة المرء بمحيطه الاجتماعيّ؛ فقد يخسر الإنسان العديد من أصدقائه بسبب عدم إبدائهم الإعجاب بصوره، ومن المعلوم أنّ الدافع وراء التقاط صور السيلفي هو نشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ للتباهي بها، فإذا لم تنل تلك الصور تفاعلًا على مستوى عالٍ، أو إذا حصلت على تعليقات غير مرضية من أحد الأصدقاء، فإنّ النتيجة ستكون سلبيّة على علاقاته، وقد تصل إلى القطيعة، كما أنّ صور السيلفي تزيد من مشاعر الغيرة، والحقد، والحسد بين الأصدقاء في إطار المنافسة غير الحميدة، الأمر الذي يُحدِث اضطرابًا في العلاقات الاجتماعيّة، بالإضافة إلى أنّ صور السيلفي والإدمان على التقاطها والانشغال بها قد يعزل المرء اجتماعيًّا عن عالمه الواقعيّ بسبب انشغاله الدائم بنفسه.

ختامًا

على الرغم من أنّه يمكن اعتبار التقاط صور السيلفي واستخدامها دليلاً على مواكبة عصر التكنولوجيا ومتطلّبات مواقع التواصل الاجتماعيّ، وقد يشكّل محاولة لتقديم الوجه الإيجابيّ للمرء،  لكنّ هذا الأمر إن زاد عن حدّه، ووصل إلى درجة يصبح فيها التقاط صور السيلفي جزءاً من الممارسات اليوميّة، فإنّ الحاجة تصبح ماسّة إلى محاصرة هذه الظاهرة، ومعالجتها حتى لا تتطوّر إلى جنون أو هوس يصعب السيطرة عليه.

-----------------------------

[1] يراجع:  مصطفى، أسامة: مدخل إلى الاضطرابات السلوكيّة والانفعاليّة (الأسباب، التشخيص، العلاج)، ط1،  دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، 2011م، ص 85.

[2]- Gackenback Jayne; Psychology and The internet, Intrapersonal, interpersonal, and transper-.sonal implications ; San Diego; CA; Academic Press; Elsevier; 2nd Edition; 1998; P111 -112.

[3] يُراجع: إسماعيل، أرنوط بشرى: إدمان الإنترنت وعلاقته بكلٍّ من أبعاد الشخصيّة والاضطرابات النفسيّة لدى المراهقين، مجلّة كلّيّة التربية، جامعة الزقازيق، العدد 55، 2007، ص 45.

[4]  يراجع: واطسون، ريتشارد: عقول المستقبل: كيف يغيّر العصر الرقميّ عقولنا؟، ترجمة: عبد الحميد محمد دابوه، المركز القوميّ للترجمة، الطبعة الأولى، 2016، ص: 112.

[5] يراجع: الحفني، عبد المنعم: موسوعة الطبّ النفسيّ،  (لا ط)، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2015م، ج1، ص 223.