-----------

أربع سنوات

{ سكينة مصطفى }

أربع سنوات

(1)

  إنّها الثالثة فجرًا... استيقظ أحمد من نومه، الحلم نفسه يتكرّر؛ لعلّها المرّة الرابعة أو الخامسة التي يرى فيها والده، في الموقف عينه! نهض ليشرب الماء، ثمّ وقف أمام النافذة يتنفّس مِلء رئتيه هواءً باردًا، مطلِقًا تنهيداته المتتالية ليزفر معها بعضًا من عِبء ذلك الحلم.

مضى إلى عمله كما في كلّ صباح، ولكنّ فكره لم يهدأ، يسترجع صورة والده في الحلم، وأسئلةٌ كثيرةٌ تتردّد في ذهنه: لماذا يبقى على صمته؟ وممَّ ابتسامته حينًا وبكاؤه حينًا آخر؟ كيف أفهم مراده وهو لا ينبس ببنت شفة؟ ماذا يريدني أن أفعل؟ ثم يقول: «لم أعد أستطيع صرف النظر عن هذا الموضوع»! ويعيد حساباته: «الشقّة تلك كتبتها لأبناء عمّي كما أوصاني، وقطعة الأرض لم نهملها، قرأت له بعض القرآن ليلة الجمعة، أهديه الفاتحة من وقتِ لآخر.. أنا لم أخالف وصيّته، لماذا يبكي؟ لماذا؟»... تضجّ تلك الأسئلة كلّها في خاطر أحمد، أمضى يومه غارقاّ في التفكير وضرب الاحتمالات واسترجاع صور الماضي ودموع والده تلك!

في المساء، قُرع باب الشقّة الصغيرة _التي استأجرها أحمد منذ أن التحق بوظيفته الحاليّة _ كان صديقه يونس قادمًا لزيارته، تناولا عشاءهما معًا، تجاذبا أطراف الحديث، وحينما كان أحمد لا يزال منهمكَ الفكر بحلمه، قرّر أن يخبر صديقه بذلك.

«زره يا أحمد، زر قبره، الميّت يحب أن يُزار». تفطّن أحمد إلى أنّه- وبسبب عمله البعيد عن بلدته- لم يزر قبر والده منذ مدّة، لذا وجد في كلام صديقه وجهًا من الصحّة والصواب.

(2)

يصادف اليوم يوم عطلةٍ رسميّةٍ في البلاد، يستيقظ أحمد باكرًا يوضّب حاجيّاته، ويقصد موقف الباصات، ووجهته بلدته. في الطريق، عاود أحمد التفكير وكلمات يونس تتردّد في أذنه: «زره يا أحمد»، فيتساءل: هل يكون بكاء أبيه في الحلم لعدم زيارته له؟ يلوم نفسه حينًا، ويُبرّر لها ظروف عمله حينًا آخر...

أوّل ما فعله بعد أن سلّم على والدته وإخوته واطمأن لأحوالهم، هو أنّه قصد مدفن البلدة، يريد أن ينهي هذا الوجع ويصحّح خطأه، ويشرح لأبيه عن عمله البعيد... غسل القبر ببعض الماء، ووضع باقة الورود، قرأ الفاتحة لروحه، تفكّر بعض الشيء، ثمّ أخذ يحدّث أباه:

«ليتك تخبرني ما سبب دموعك تلك، دموعك المتكرّرة، يونس يقول يجب أن أزورك... لقد أتيت يا أبي، لعلّ ذلك الحزن الذي أراه في عينيك ينتهي، سامحني... سأظلّ أزورك على الرغم من ظروف عملي، سآتيك على الدوام يا حبيبي...».

رفع رأسه عن القبر وأجال بنظره في المكان، كلّهم صامتون، على اختلافهم، على اختلاف أعمارهم وأسمائهم... منهم الشاب، ومنهم الشيخ، ومنهم الطفل الصغير... وعلى بعد أمتار من قبر أبيه، قبرٌ يبدو عليه الاهتمام أكثر من غيره، وباقات الورد عليه تبدو كأنّها منذ أيام قليلة، ينظر أحمد إلى القبر فتتراءى له الجملة الآتية: «أربع سنواتِ فقط» لم يُعر ذلك اهتمامًا، ظنًّا منه أنّ ذلك يعني عمر هذا المتوفى.

(3)

ارتاح  أحمد لزيارة أبيه، ينتظر أن يأتيه باسمًا في الحلم هذه المرة، فقد عاهده على معاودة الزيارة دائمًا وصار يغتنم الفرص لأجل ذلك.

لكنّ آماله لم تتحقّق، والمشكلة التي ظن أنّها في طريقها للحلّ زادت لغزًا وتعقيدًا... حلم الليلة كان أشدّ وقعًا عليه، وزاد من حيرته وتفكيره... ولكنّه في الوقت عينه أدرك أنّ القصة أكبر من زيارة قبر، وأنّ الواجب أكثر من قراءة قرآن... صحيح أنّ والده لم يبكِ الليلة، لكنّه شاهد ما هو أغرب من الدموع، رأى أباه جالسًا، ووجهه أقرب للتجهّم منه للرضى، وعلى الحائط خلفه ظلّ إنسان واقف! ظلٌ ّلا يشبه شخص أبيه ولا يماثل جِلسته! لمن يعود هذا الظل؟ وماذا يعني هذا الحلم الجديد؟ دورة جديدة من التفكير يدخل فيها أحمد.. دون أن يهمل زيارة أبيه؛ بل كثّفها شاكيًا له ومتأوّهًا قرب ضريحه... أراد أن يتابع هذه القصة، حتى فصلها الأخير، فهذا الحلم صار يتكرّر أيضًا!

(4)

مجدّدًا وصل أحمد إلى المقبرة، حاملًا أزهارًا ومصحفًا، مرّ بجانب ذلك القبر الذي لفت نظره المرة الفائتة، قبر الطفل ذو السنوات الأربع، لكنّ شيئًا ما لاحظه هذه المرة، تاريخ ولادة الطفل كما هو مكتوب كان عام 1967م ووفاته عام 2015م، فكيف يكون طفلًا، وعمره أربع سنوات كما تفيد تلك الجملة؟؟ حيّره ذلك! «هل حصل خطأ ما عند حفر السنة على حجر القبر؟ ألم ينتبه ذووه وأقاربه لذلك؟» حدّث أحمد نَفْسَه في عجب!!!

أتمّ أعماله عند قبر أبيه، وما انفكّت دهشته لقصة ذلك القبر، قبل أن يهمّ بالمغادرة ألقى نظره عليه مجدّدًا ليتأكّد مما رآه، يرى السنوات التي تدلّ على أنّ عمره كان 48 سنة، ويرى تلك الجملة أيضاّ :«أربع سنوات فقط»!

(5)

قدم الربيع، وأطلّت معه فصول الحياة، أحمد مسرور جدًا لأنّه سيقضي العطلة في بلدته مع أمّه وأخوته، وطبعًا لن ينسى تردّده لزيارة قبر أبيه.

ذات يوم كان هو ووالدته في زيارة القبر، بعد أن قرآ عن روحه القرآن وغسلا قبره وعطّراه، خطر لأحمد أن يدلّ والدته على ذلك القبر لترى المفارقة التي رآها، ويسألها كيف يكون هذا الخطأ قد حصل.

ـ انظري يا أمي واقرئي: وُلد عام 1967م، وتوفي عام 2015م أي أنّ عمره كان 48 عامًا.

ـ صحيح يا بنيّ، ما المشكلة؟

ـ انظري أمي، لكنّهم كتبوا في الأسفل: أربع سنواتِ فقط!

ـ أين قرأت ذلك؟

ـ هنا أمي انظري هنا!

ـ بني لا أرى شئيًا! من أين أتيت بهذه العبارة؟؟

بعد أن تأكّد أحمد أنه وحده يرى تلك العبارة دخل دوامةً كبرى من التفكير، والضياع، والتصديق والتكذيب لعينيه! حتى صرخ: «لكنّني رأيتها وحقّ السماء رأيتها!»...

(6)

الليلة ليلة الجمعة، ليلة زيارة القبور. أحمد جالسٌ عند قبر أبيه يسوّي باقات الورد التي تكاثرت عليه، يرشّ الماء، ثم يمسك المصحف ليتلو القرآن ثم يفتحه، ويشرع بالتلاوة :

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

بسم الله الرحمن الرحيم» 

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ 88 وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ 89 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 90 وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ 91). (سورة النحل، الآية88).

بينما هو كذلك، يلتفت إلى أحدهم جاء ليزور صاحب ذلك القبر الذي شغلته قصّته، ولا سيّما تلك العبارة التي أثارت في ذهنه ألف سؤال وسؤال،كان القادم صبيّةً جلست إلى جانب ذلك القبر تمسحه، وتعتني بزهورٍ جلبتها معها... وأحمد يفكّر: «لا بدّ أنها من ذويه، لعلّها أخته أو ابنته! هل يمكنني سؤالها عنه؟ ماذا سأقول لها ؟ هل سأقول لماذا أنا أرى تلك الجملة؟ وهي غير موجودة؟ هل يبدو الأمر منطقيًّا؟».

صار يصرف النظر عن السؤال تارةً، ويتحمّس له طورًا، قد تكون هذه  فرصته الوحيدة إذا ما أراد أن يفهم سرّ ذلك الرجل، إن كان ثمة سرٌ أصلًا!! فالبلدة كبيرة، وعطلته شارفت على الانقضاء، والأمر يبدو غريبًا، ما العمل؟ قرّر حسم معركة الأفكار تلك، ونهض باتجاه ذلك القبر...

(7)

ـ السلام عليكم؛ حيّاها بهدوء ووقار

ـ وعليكم السلام

ـ عفوًا هل أنت من أقاربه؟  يسألها مشيرًا بيده نحو القبر

ـ إنّه أبي

ـ ليرحمه الله

ـ وأمواتكم إن شاء الله»

سكت برهةً وحينما عاد للكلام تلعثم:  في الحقيقة، كان لديّ سؤال ما، وكنت أنتظر أن أرى أحد أقاربه حتى أسأله إياه..

تفضّل

هل سنوات الولادة والوفاة صحيحتان كما دوّنتا هنا؟

نعم بالتأكيد هي صحيحة، لقد توفي وله من العمر 48 سنة.

هل كان مريضًا؟

لا لم يكن كذلك، لقد كان موته مفاجئًا لنا

عفوًا هل كان في حياته سرٌ ما؟ شيء مختلفٌ؟

مع أنّني لم أفهم ما ترمي إليه بالضبط، لكن لا أظن ذلك

حسنًا.

تتابع: لقد كان أبي رجلًا عاديًّا طيّبًا، لم يكن في حياته كثير من التعقيدات، كان عاملًا نشيطًا يكدّ على عياله، ولولا مشكلته مع عمّتي لقلت لك أنّ حياته كانت خالية من المشاكل...حتى في موته مات بهدوء! لكن عفوًا أنا لم أفهم بعد ما الذي جعلك تسأل عن حياته؟

أعتذر منك أيّتها السيّدة؛ يتابع أحمد متجاهلًا سؤالها: قلتِ مشكلة مع عمّتك؟ أي أخته؟

نعم لقد نشب خلافٌ بينهما نتيجة طباع زوجها الفظّة، وتدخّله مرارًا في شؤونهما؛ ماجعل الهوّة تكبر مع الأيّام وتصل إلى القطيعة بينهما..

تذكّر أحمد شيئًا ما عندما سمع هذا الكلام، أحسّ بغصّة، ولكنّه في الوقت عينه شعر أنّ ما تقوله الصبيّة قد يوصله إلى ما يخدم أسئلته..  وهل استمرت هذه القطيعة؟؛ سألها.

لقد كان خلافهما في الحقيقة قديمًا لكنّ قبل أربع سنواتٍ من وفاة والدي حُلّت المسألة..

عندما سمع أحمد بالسنوات الأربع، صُمّت أذناه، مع أنّ الفتاة كانت تتابع كلامها...

(8)

أربع سنوات فقط، السنوات الأربع، الحلم الذي تكرّر أربع مرات!!! كلّ ذلك جعل يدور في فكر أحمد..

وهناك شيء آخر ..تذكّره ..

تذكّر خاله... خاله الذي مضى على خلافه معه ستّ سنوات، من تاريخ وفاة والده...

الآن شعر أحمد أنّه فهم شيئًا ما، عمر ذلك الرجل بعمر وصله لرحمه...

عزم أحمد على مصالحة خاله مهما كلّفت الأثمان... حتى لا يضيع عمره ويقصر؛ فقطيعة الرحم تقصّر العمر..

(9)

أحمد عند باب خاله، قرعه، أحد ٌما فتح له الباب... رأى خاله داخل البيت واقفًا ينتظر ضيفًا ..أشعة شمسٍ خفيفة ضربت المكان... وخلّقت على الحائط ظلًّا واقفًا... تعلو وجه صاحبه ابتسامة الرضى..

ورد في الحديث الشريف:

«إنّ الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيجعلها الله ثلاث سنين، إنّ الله يفعل ما يشاء»[1].

--------------------------------

[1]  الأربليّ، أبو الحسن: كشف الغمّة، (لا ط)، دار الأضواء، بيروت، (لا ت)، ج2، ص 165.