العدالة التربويّة:
نعني بالعدالة التربويّة عدم التمييز بين الأطفال في المعاملة؛ فلا يُعطي المربِّي مزيّة لأحد أطفاله على الآخرين بنحوٍ يجعله عنده أفضل من غيره، وهذا ما حثّ عليه المنهج التربويّ النبويّ؛ باعتبار أنّ العدالة تعدّ قيمة رئيسة في العمليّات التربويّة. ورد في الحديث الشريف: «نظر رسول الله (ص) إلى رجل له ابنان، فقبّل أحدهما وترك الآخر، فقال له النبيّ (ص): «فهّلا واسيت بينهما؟!»[1].
ومبدأ المساواة والعدالة التربويّة لا يختصّ بالبيئة الأسريّة فقط، بل إنّ كلّ مؤسّسة تربويّة مسؤولة عن تطبيق هذا المبدأ، مثل: المدارس، والأندية الرياضيّة، وقد ورد عن رسول الله أنّه قال: «أبعد الخلق من الله رجلان: رجل يُجالس الأمراء، فما قالوا من جور صدّقهم عليه، ومعلِّم الصبيان لا يواسي بينهم»[2].
وتتأكّد العدالة التربويّة في خطّ علاقة المربّي مع أطفاله من حيث الجنوسة (الذكورة والأنوثة)؛ بمعنى أن لا يُوجِد مناخًا متمايزًا إيجابًا لصالح الطفل وسلبًا ضدّ الطفلة، وعن النبيّ (ص) أنّه قال: «من كان له أنثى فلم يبدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله الجنّة»[3].
التمايز بين السلوك والعاطفة:
عندما نتحدّث عن العدالة التربويّة، لا نقصد تحقيق العدالة في الحبّ والعاطفة إلى جانب السلوك والعمل؛
وذلك لأنّه ليست كلّ أفعال القلوب واقعة تحت قدرة الإنسان واختياره وإرادته الحرّة، وأنّ المودّة القلبيّة من الأمور غير الاختياريّة، وكما يقول العلماء: إنّ الحبّ القلبيّ ممّا لا يتطرّق إليه الاختيار دائمًا[4].
فلا نقصد بعدم التمييز بين الأطفال ما يعيشه الإنسان من حالات وجدانيّة داخل قلبه تجاه أطفاله وأولاده، فإنّ المشاعر القلبيّة قد تخرج عن التحكّم والسيطرة كأحاسيس في داخل الإنسان، ولهذا قد يُحبّ المربّي طفلًا أكثر من طفل آخر؛ إمّا لسبب معلوم كأن يكون نفس الطفل متميّزًا في أخلاقه وأفعاله، أو لسبب مجهول كأن يلقى في قلبه محبّته بنحوٍ أشدّ من غيره، فلذا لن يكون مأمورًا بالعدالة القلبيّة، فيكون معنى العدالة والمساواة التربويّة عدم جعل ميزة خاصّة لطفل على آخر في المعاملة الفعليّة والسلوك الخارجيّ دون المحبّة القلبيّة. ولكن هذا يجري على قاعدة الحبّ والحبّ الأشدّ، لا بين الحبّ والكراهة أو البغض، فحتى لو صدر عن طفل ما عدّة أفعال غير مرغوب بها، ينبغي أن لا تصل الحالة الشعوريّة للأب أو الأم تجاه الطفل إلى درجة كراهته أو بغضه، بل إنّما يتمّ بغض عمل الطفل وفعله دون ذاته وشخصه.
التربية بين العدالة والمساواة:
إنَّ معنى العدالة هو إعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقّه، وإعطاء كلّ ذي استعداد ما هو مستعدّ له من الكمالات؛ فإنّ العدالة التربويّة تقتضي أن يكون ثمّة تمايز في التعامل على ضوء التمايز والفروقات الفرديّة والمراحل العمريّة بين الأطفال، وبناءً عليه لا تتحقّق العدالة التربويّة هنا بالمساواة بين الأطفال.
وبهذا يتبيّن أنّ المقايسة والمقارنة إنّما يُمكن أن تحصل بين الطفل الأول والثاني فيما يُمكن الاشتراك فيه، لا فيما هو مورد للتمايز والاختلاف، بمعنى أن لا يُظهر الأب أو الأمّ مثلًا أنّه يهتم ويرعى ويُميّز الطفل الأوّل أكثر من الطفل الثاني... وهكذا، أمّا كيفية عدم إظهار ذلك فلها تقنيّات مختلفة، والمهم أنّ الجامع المشترك هو عدم جعل طفل ما يشعر بميزة إيجابيّة أو سلبيّة له من قِبَل المربّي على الطفل الآخر، والكيفيّة تتنوّع وتختلف حسب الجنس والعمر والحاجات... إلخ.
يوجد بين الأطفال جهة اشتراك وجهة اختلاف وتمايز، والعدالة تقتضي أن يُعطى كلٌّ منهما حقّه فيما هو متمايز به عن الآخر بمقتضى الجنس أو السنّ أو الاستعداد والاحتياجات... إلخ؛ لذا فإنّه بلحاظ العناصر المشتركة يكون هناك مساواة، وبلحاظ العناصر المختلفة يكون هناك عدالة.
وبهذا يتّضح وجود فرق بين العدالة والمساواة، فإنّه ليس من الضروريّ أن تكون المساواة مرادفة للعدالة؛ بل قد تكون المساواة ظلمًا بحقّ الأطفال، فالعدالة لا تعني التساوي في نظام الحقوق والواجبات، وإنّما تعني تفاوت الحقوق بتفاوت خصائص الأطفال. فالعدالة تتقوّم بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، وعدم إعطاء غير صاحب الحقّ ما هو غير مستحقٍّ له.
--------------------------------
[1]- الصدوق، محمد بن بابويه القمي: من لا يحضره الفقيه، ط2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1404هـ، ج3، ص483.
[2]- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ط1، دار الحديث، قم، 1375هـ .ش، ج3، ص2543.
[3]- الأحسائي، ابن أبو جمهور: عوالي اللئالي، ط1، (لا د)، 1402هـ، ج1، ص181.
[4]- الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، (لا ط)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم،
(لا ت)، ج5، ص101.