كانت الصحافة مواكبة دوماً للتطوّرات التكنولوجيّة، حتى أنّها ساهمت في كثير من الأحيان في تحضير الرأي العام العالميّ لثورات التطوّر التكنولوجيّ المتلاحقة منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم. وهناك خطّ دقيق يفصل بين التوقّعات القابلة للتجربة، وبين الخيال العلميّ الترفيهيّ. إنّ الحديث عن الانترنت والاحتباس الحراريّ والذكاء الصناعيّ والهندسة الجينيّة كان محور حديث الصحافة منذ عام 1956، لكن ما تمّ الحديث عنه في ذلك الوقت لا يطابق الواقع اليوم، فلا نحن نعيش في مدينة العلم الفاضلة بسبب الإنترنت، ولا انتهت الحياة البيولوجيّة بسبب الاحتباس الحراريّ، ولا استطاعت الهندسة الجينيّة أن تحوّل فكرة سوبرمان من خيال إلى حقيقة.
هل يمكن لنا توقّع المستقبل اليوم بدرجة أدقّ من السابق؟
إنّ الزمن وحده كفيل بالإجابة عن هذا السؤال. ولكن يمكننا النظر إلى ما يحصل اليوم مع الأخذ في الحسبان التسارع الذي يفرضه تراكم التطوّر لنكوّن فكرة تحمل نسبة مقبولة من الحقيقة حول العالم الذي سيعيش فيه البشر بعد بضعة عقود. مثلاً، إنّ تناقص المسافة بيننا نحن البشر وبين الآلات التي نعتمد عليها والتي تشغل جزءاً كبيراً من حياتنا تخبرنا بأنّ هذه الآلات يمكن أن تصبح جزءاً من أجسادنا في القريب العاجل. وهذا متحقّق منذ زمن في بعض المجالات الطبّيّة، مثل: الآلات التي توضع في الأذن لعلاج مشاكل السمع، أو البطاريّات الخاصّة بتنظيم عمل القلب... وإذا استمرّ التطوّر في هذا المجال، وهو مستمر ومتسارع، فإنّ الهاتف لن يبقى في اليد، بل سيصبح قطعة صغيرة تُزرع في الدماغ، وتتصل مباشرة بالإنترنت فنطّلع بشكل مباشر على أخبار اليوم ونتواصل مع من نريد. وبدلاً من أن ننظر إلى شاشة ما في يدنا أو على الحائط، ستقوم تلك القطعة الصغيرة باستثارة مناطق خاصّة من الدماغ لتتشكّل الصورة في دماغنا وتراها أعيننا دون أن تكون موجودة خارج أجسادنا. فإذا كان هذا واقع المستقبل داخل أجسامنا، فكيف سيكون العالم من حولنا عندها؟!
بالعودة إلى القاعدة التي أرسيناها، ما الذي يحصل اليوم؟ تقنية الواقع المعزّز Augmented Reality تُستعمل في مجالات التعليم والترفيه والطبّ وغيرها. ومع تسارع تطوّر هذا المجال، فلن يكون هناك داعٍ لوجود التلفاز ولا لتقنيّة الأبعاد الثلاثيّة. سيجلس مذيع الأخبار وسط غرفة الجلوس أثناء نشرة الأخبار، وسنكون نحن وسط المعركة بين الرماح والسيوف أثناء مشاهدتنا لفيلم تاريخيّ مشوّق، وسيقوم تلاميذ المدارس وطلّاب الجامعات بالتجارب الكيماويّة، وبتشريح الحيوانات دون خطر؛ لأنّ المواد التي سيتعاملون معها ستكون ملموسة، ولكن رقميّة غير حقيقيّة وكلّ ذلك بفضل تقنيّة الواقع المعزّز.
أمّا بالنسبة للإنترنت والآلات الذكيّة الملموسة الموجودة خارج أجسامنا ومن حولنا، فما هو مستقبلها؟
يقول الخبراء: إنّ الإنترنت سيصبح جزءاً من كلّ الآلات وستصبح كلّها ذكيّة. نحن اليوم نعرف الهاتف الذكيّ، غداً، سيصبح لدينا المنزل الذكيّ الذي يعرف متى يُضيء نور الغرفة، ومتى يُطفئه بناء على دخول الشخص أو خروجه، و يعرف متى وكيف يشغّل المكيّف بحسب الحرارة الخارجيّة لتبريد الغرفة أو تدفئتها، أو حتى يغلق النوافذ أو يفتحها بدلاً من تشغيل المكيّف لتوفير الطاقة. وفي المنزل الذكي، يمكن للبراد أن يفتح وحده بمجرّد استشعار حرارة اليد التي تمتدّ نحو بابه، فيُخرج للشخص الوجبة المناسبة له بعد أن يحتسب عدد الوحدات الحراريّة التي استهلكتها اليوم.
بعد هذه الإطلالة المختصرة على مستقبل الأشياء المحيطة بنا والموجودة داخل أجسامنا، ما هو مستقبل حياتنا الاجتماعيّة؟
تنقسم آراء المحلّلين إلى قسمين: قسمٌ يقول بتحوّل حياتنا الاجتماعيّة بشكلٍ كامل إلى حياة رقميّة مبرمجة بعيدة كلّ البعد عن فطرتنا الإنسانيّة، ومنسجمة مع الآلات التي تحكم مختلف نواحي حياتنا.
وقسمٌ آخر يقول: إنّ فطرتنا الإنسانيّة أقوى من أيّ تحوّل، وإنّ التغيّر سيطال شكل حياتنا الاجتماعيّة، لكنّنا سنبقى اجتماعيّين غير قادرين على الاستغناء عن بعضنا.
قد نستغني عن الإنسان في كثير من المجالات الطبّيّة والصناعيّة والزراعيّة وحتى التعليميّة، إن اعتبرنا أنّ التعليم هو مجرّد تلقين ونقل معلومات، ولكن يستحيل أن نستغني عن الإنسان في المجالات النفسيّة والتربويّة والتنمويّة والإرشاديّة والعاطفيّة والروحيّة. وهنا يمكن لنا الحديث عن نوعين من الناس، يتفاعل كلّ نوع مع المستقبل بطريقة مختلفة.
النوع الأول: هو الإنسان غير المتوازن الذي ينغمس في التطوّر بطريقة غير واعية، فيصبح أسير الآلة، وينسى أنّه هو من اخترعها أساساً وهو القادر على أن يخترع ما هو أكثر تطوراً منها، فيهمل الجانب النفسيّ والاجتماعيّ والروحيّ لصالح الجانب العقليّ الرقميّ المحض ويقع في دوّامة الاستهلاك التكنولوجيّ الرقميّ والمعرفيّ. فيبتعد عن الإنتاجيّة ويصبح صورة جوفاء للإنسان المتطوّر شكلاً لا مضموناً. يعرف الكثير وعاجز عن إنتاج القليل.
أمّا النوع الثاني، فهو الإنسان المتوازن الذي يعيش في عالم متطوّر يسخّر كلّ ما فيه لمصلحته، فيرتاح من كثير من الأعباء الفيزيائيّة لصالح نموّه النفسيّ والاجتماعيّ والروحيّ. وسيكون أقدر على الوصول إلى المعرفة، وسيتمتع بقدر أكبر من المهارة في استثمارها لتحقيق التكامل الذي خُلق لأجله أساساً. وسيكون صورة نموذجيّة للإنسان المتطوّر شكلاً ومضموناً. يعرف الكثير، وقادر على إنتاج المزيد. والأهمّ من ذلك كلّه، سيكون همّه الإنتاج لأجل الأهداف الإنسانيّة السامية، وليس الإنتاج للإنتاج دون أيّ هدفيّة واعية.