لكنني أحبك...
وضعت أذنها على الباب، كانت يداها ترتجفان، وقلبها يخفق بسرعة شديدة.
“ما رأيك لو تدخلين بدل التجسّس من خلف الباب”؟
نظرت إلى أختها وهمست: «لا أستطيع، قدماي لا تحملانني، ثم إنّ وجهي لا يرى»!
ضحكت أختها، وجرّتها من يدها إلى غرفة النوم، أوقفتها أمام المرآة وأشارت إليها بالنظر إلى نفسها: «تبدين كالأميرة يا جنى»! !
حين حاول حسن محادثتها للمرة الأولى قبل بدء الدرس في القاعة، لمعت عيناها وارتجفت شفتاها، وأخفضت رأسها في محاولة للهروب من النظر في عينيه. كبر حضورها في قلبه، أحبَّ خجلها وتهذيبها. لم تدرِ جنى ما حلَّ بقلبها، وآمنت بحبِّ النظرة الأولى”.
في اليوم التالي تعمّدت جنى أن تصل متأخّرة إلى القاعة، كي تفوّت الفرصة على حسن، أمّا هو فقد انتظر حتى خاب أمله.
تربّى حسن وسط عائلةٍ ثريّة، كان أبوه من كبار التجّار. وكان جاهزًا للزواج على الرغم من صغر سنه.
في القاعة أغلق الدكتور كرّاسه، وختم درسه مستأذنًا. كان حسن أوّل الخارجين من القاعة، رأته جنى يسبق الجميع على غير عادته، وأنبأها قلبها أنّ لخروجه علاقة بها، ملأت رئتيها هواءً وقامت تمشي بهدوء إلى الخارج، كان يجلس تحت الشجرة التي اعتادت أن تنتظر عندها بدء المحاضرات، تسمّرت في مكانها، صار يحدِّق فيها وكلّ نظراته أملٌ ورجاء.
حاولت أن تستدير وتتجه إلى مكانٍ آخر، لكنّه رفع بيده كتابًا ولوَّح لها من بعيد.
جمد الدم في عروقها، فوجئت بكتابها في يده!
اختلطت في رأسها الأفكار والتساؤلات، لكنّها استدركت، فقد نسيت الكتاب على المقعد تحت الشجرة صباحًا. كانت تمشي متثاقلة، كأنّما يدفعها أحد من خلفها.
أوصلتها أقدامها إليه بعد عناء... “لقد نسيتِ كتابك».
أيامٌ قليلة قبل أن يُطرق بابُ بيتها، وها هي اليوم تسترق السمع من خلف باب الصالة؛ «كان الجوّ إيجابيًّا، يبدو عليه الأدب والتهذيب» حديث دار بين والديها... عَلَتْ وجهها ابتسامة خجولة، شيء ما بداخلها كان يقول لها: «نعم، هذا هو!».
كان المنزل مكتظًّا، عائلة حسن وجنى والأقارب وأصدقاء العائلتين اجتمعوا لعقد القران. كان الفرح ينضح من وجوه الحضور، والدعوات بالرفاه والبنين تتعإلى بين الفينة والأخرى... العريس يتعهّد بحفظ العروس في عينيه، وأبوه يطمئن أباها بأنّ جنى ستكون ابنته بإذن الله.
“أربعة شهورٍ مذ حدّثتكِ للمرة الأولى ولا زلتِ تخجلين من النظر في عيني”!
ابتسمت فزاد وجهها إشراقًا، بانت كالزهرة التي تتوسّط اخضرار الربى. أمّا حسن، فكان كالفراشة التي تهيم بالنور، أحبّ جنى حبًّا جمًّا، كان لا يغضبها ولا يرفض لها طلبًا.
كانت رغبة الأهل بأن ينتقلا إلى بيت الزوجيّة بعد انتهاء العام الدراسيّ... وبما أنّ حسن كان ابن عائلةٍ ثريّة، فقد اختار وجنى شقّةً فخمةً في حيٍّ راقٍ في المدينة، وقصد مع خطيبته أشهر المتاجر ليختارا أثاثًا باهظ الثمن.
«أنا سعيدة جدًّا يا حسن، بل أكاد أطير من الفرح! أشعر أنّ الدنيا لا تتسع لفرحتي»!
التفت إليها حسن وهو يقود السيارة «الحمد لله، أتمنّى أن أسعدك طوال العمر، لأرى الفرحة كيف تلمع نجومًا في عينيكِ السوداوين».
ثمّ عقّب بالقول: أظنّ أنّنا أنهينا كلّ تحضيرات الزواج أليس كذلك؟
اتسعت حدقات عيونها واستدارت إليه: «هل نسيت حفل الزفاف»؟
«لم أنسه بالطبع! ولكنّه لا يحتاج إلى كثير من التحضير، «قاطعته بانفعال: ماذا! أنت مخطئ يا عزيزي! إلّا إذا كنت تريد أن تقتصر على حفل بسيط، هل تنوي ذلك حقًّا»؟
خفّف سرعة قيادته وأوقف السيّارة جانبًا. أمسك بيديها وخاطبها بهدوء: «جنى، تعلمين أنّني لا أبخل عليكِ بشيء، إنّ روحي ترخص لك! ألا توافقينني أنّ الشقّة والأثاث أولويّة تستحقّ أن نبذل لها المال الكثير، أمّا حفل الزفاف فلا ضرورة لأن يكلّفنا أموالًا طائلة»؟
ردّت قائلة: لكن يا حسن، يحقّ لي أن أجعل من يوم زفافي محطّة لتحقيق أحلامي، هذا يوم لن ننساه ما حيينا يا حبيبي، ثم إنّ بعض الأموال لن تؤثّر عليكم؛ فوالدك من كبار تجار المدينة...
«لن أتراجع عن موقفي هذا»! استدارت وأشاحت بوجهها عنه».
«المشكلة أنّني أحبّكِ ولا أضحّي بابتسامتك لحظة واحدة».
لمعت عيناها ونظرت إليه بغنج ودلال: «كنت أعرف أنّك لن تكسر خاطري”.
استيقظت جنى على صوت والدها، فتحت عينيها بتثاقل
“عليكِ أن تكوني في بيت عمك، لقد توفّي عمّك يا جنى».
أطرق والدها رأسه، وأجهشت هي بالبكاء.
“ما الذي تقوله يا أبي؟ بالأمس رأيته ولم يكن يشكو من شيء”!
“لقد أصيب بذبحة صدريّة فجر هذا اليوم، وتوفّي قبل وصوله إلى المستشفى، هيّا قومي حتى نذهب معًا إلى بيتهم”.
وضعت جنى سماعة الهاتف، بعد أن ألغت كلّ الحجوزات المتعلّقة بزفافها. «يا لسوء حظّي»!! خاطبت نفسها والهمّ قد استولى عليها.
جنّ جنونها، عيناها جاحظتان متسمّرتان على حسن، لم تعد تفقه ما يقول: «ماذا تقصد بأن على عمّي ديونًا طائلة»! حاولت والدته أن تهدِّئ من روعها، لكن محاولاتها باءت بالفشل. «لن ينفعنا الغضب الآن، لقد فات الأوان. علينا أن نسدّد ديون والدي ولو اضطررنا لبيع كلّ أملاكنا»!
«أنا لا أصدق، هل أنا في حلم؟ لا إنّه كابوس... يا إلهي». ثمّ خارت قواها وأخفت عيونها خلف كفّيها وهي تبكي بشدّة. لفّ حسن ذراعه حولها: «لا ترهقي نفسك يا جنى، هذه الدنيا غدرت بنا، هذا نصيبنا»!
«نصيبنا»!! صرخت في وجهه، «أَمِنَ العدل أن يفعل والدك بنا هذا»؟؟
وللمرّة الأولى نظر حسن إليها والغضب يقدح من عينيه.
وصلت إلى بيت أهلها منهارة، صارت تبكي وتلطم وجهها. «أنا لا ذنب لي، كيف تطلبون مني أن أهدأ وقد قال لي إنّه سيبيع الشقّة والأثاث، ويقول سوف نجد حلًّا بديلًا... فلتبع أخته ممتلكاتها»!
«لكنّه مضطر يا عزيزتي، لا تعظّمي الأمور، كُفّي عن النحيب بهذه الطريقة، ثم إنّ واجبه تحمّل الموضوع بأكمله»...
لم تستمع جنى إلى أمّها... دخلت إلى غرفتها مسرعة، أغلقت الباب، حملت هاتفها وكتبت رسالة لحسن: «لقد ضحّيت بحفل زفافي، وضحيت اليوم ببيت أحلامي، فاعلم أنها ستكون تضحيتي الأخيرة».
وضع حسن هاتفه جانب صورة تجمعه بجنى، صورتهما حين خرجا معًا أوّل مرة بعد عقد القران. أحبّ هذه الصورة كثيرًا، وجه جنى قرمزيّ من شدة الحياء، تبتسم ابتسامةً ساحرة. يمسك بيدها ويضحك ضحكة المنتصر، ومن خلفهما يظهر البحر بلون السماء. حمل الصورة وأدناها من قلبه وتمتم: «خذلتني الحياة، لا تخذليني أنت أيضًا، أرجوكِ».
«جئتك بخبر سيفرحك كثيرًا يا جميلتي».... ضحك حسن وانتظر أن تحزر بنفسها.
«ما رأيك لو نتزوّج الشهر المقبل”؟
«أرجو أن لا تكون مزحة يا حبيبي»، ضحك وقال: «بالطبع ليست مزحة، لسنا مضطرّين لانتظار مرور سنة على وفاة والدي، هذا رأي أمّي».
كانت الفرحة تلمع في عينيها، لكنّ ملامحها تبدّلت فجأة: «ولكننا لم نجد بيتًا مناسبًا حتى الآن! ولم نختر الأثاث وو».. قاطعها قائلاً: «لا عليكِ، هذه تفاصيل بسيطة سنحسمها غدًا إن شاء الله، أما الآن فقد تأخّر الوقت واستبدّ بي النعاس».
وصل حسن، وجد أمّه متعبة جدًا، نقلها بسرعة إلى أقرب مشفى. «طمئنّي دكتور»؟؟
«في الحقيقة لقد ارتفع ضغطها كثيرًا، لا ينبغي أن تتكرّر هذه الحالة، من لطف الله أنّك أحضرتها قبل فوات الأوان، احرصوا على أن لا تبقى وحدها أبدًا، أرجوك فالأمر جدّيّ وخطير».
جلست جنى على الكرسيّ المقابل للبحر تمامًا، كما اعتادت أن تفعل دائمًا. «كم مضى من الوقت ولم تصطحبني إلى هنا! هذا المكان جنّتي يا حسن».
«ما باليد حيلة».
«حسنًا، دعنا من هذا الكلام، قلت لي على الهاتف أنّنا سنتكلّم في مواضيع جدّيّة جدًّا، هيّا تفضّل، كلّي آذانٌ صاغية، لعلّك وجدت بيتًا مناسبًا لنا»؟
«نعم، لقد وجدته فعلًا يا حبيبتي، جنى أنت تعلمين وضع أمّي الصحّيّ، لقد تكرّرت حالة ارتفاع الضغط، وأخاف أن تقضي عليها الوحدة، أمّي ليس لها أحد في هذه الدنيا سوانا، فأختي «ملاك» تعيش في كندا مع زوجها منذ زمن، ولا ينوون العودة إلى هنا، لا يمكنّني تركها وحدها...
وإذ بجنى قد وقفت ولملمت أغراضها، «إلى أين»؟
«إلى بيت أهلي حيث الدلال الذي يليق بي يا حسن»
«اجلسي قليلًا من فضلك»
“لن أفعل، وتتمة الحديث هناك”.
طوال الطريق لم ينطقا بكلمة واحدة. وأمام باب بيتها، خلعت جنى خاتم زواجها، وناولته لحسن. «حين لبستُه ظننت أنّه سيكون سبب سعادتي الأبديّة، أمّا وقد صار مصدر شقائي، فلا حاجة لي به».
كان حسن يقود السيّارة بسرعة جنونيّة، يضغط بيدٍ على المقود، وبيده الأخرى على الخاتم. لم يصدّق ما سمع من جنى! كاد يصاب بالجنون، وصل إلى البيت وكانت أمّه بانتظاره. «ماذا حصل لك؟ لمَ تبدو مستاءً إلى هذا الحدّ يا ولدي”؟
«لا شيء يا أمّي».
“أرجو أن لا تكون قد كلّمت جنى بالموضوع الذي حدّثتني به صباحًا، فأنا قد قلت لك رأيي، لا أقبل مهما حصل».
“أرجوك يا أمّي، أنا متعب جدًّا وبحاجة لأن أجلس وحدي”.
دخل حسن غرفته، طالعته صورته مع جنى، صار ينظر إليها والمشاعر تتخبّط في داخله. لم يكن يظنّ يومًا أنّ بإمكانها أن تتخلّى عنه بهذه البساطة!
مرّ أسبوع لم تر فيه حسن، أظلمت الدنيا في وجهها، جافاها النوم. كلّما وضعت رأسها على الوسادة سمعت كلمات والدها حين دخلت المنزل بلا خاتم الزواج: «اسمعي يا جنى، أنا اليوم أحترم حسن أكثر من أي وقت مضى. لقد أثبت لي أنّه أهلٌ لأن يحفظ ابنتي طوال عمرها، فالذي يحمل أمّه في عينيه لن يقصّر في حقّ زوجته أبدًا.
أمّا وقد فات الأوان، فيؤسفني أنّك خسرتِ رجلًا... رجلٌ أحبّكِ بكلّ كيانه وسعى ليرسم الضحكة على وجهك دائمًا».
كانت جنى تحترق بنار الندم، تسقي الوسادة ماء عينيها، وتتمنّى لو أنّها تُرجع الزمن إلى الوراء، لكن هيهات.. نظرت إلى الطاولة قرب السرير، وجدت الكتاب الذي جعلها تمشي إلى حسن مرغمة وتستمع إلى حديثه الجميل تحت الشجرة في الجامعة. تذكّرت كيف أحبّته من النظرة الأولى، صارت الذكريات تمرّ في بالها.
تذكّرت يوم أعجبتها الشقّة، وكانت تفوق المبلغ الذي نوى حسن دفعه، تذكّرت كيف أنّ أمّه اتصلت بها مساءً قائلة: «ليست عروستي الجميلة من تتمنّى شيئًا ولا أحقّقه لها»!
يومها علمت من حسن أنّ والدته دفعت له ما نقص من ثمن الشقّة، تذكرت كيف أنّ حسن لم يرفض لها طلبًا يومًا «لا أضحّي بابتسامتك هذه لحظة واحدة». صارت الذكريات تتوإلى ونيران الندم تحرق كيانها، حدّثت نفسها: «لا! ليس هذا هو الحبّ، هذه أنانية»!
استيقظ حسن على صوت هاتفه، إنّها رسالة نصّيّة من جنى. لمعت عيناه وعدّل جلسته وفتح الرسالة بينما قلبه يخفق شوقًا: «كثيرةُ هي الأخطاء والعلل، لكنّني أحبكَ.. هلّا رضيت بشفاعة الحبّ»؟!!