-----------

عندما يصبح التعليم إبداعياً...

{ جهاد سعد }

عندما يصبح التعليم إبداعياً...

لا زلت أذكر دفتر التحضير الذي كان يحمله بعض الأساتذة من سنة إلى سنة، تَصْفَرُّ أوراقه ويبقى هو المرجع، حتى أنّ بعض المعلِّمين يضْفون على ذلك “المرجع” هالة من القداسة من شدّة تمسّكهم بأساليبهم المعتادة، وإذا طلبت منهم إعادة النظر في كيفيّة تحضير الدرس وفقاً لما حدث من تطوّرات سواء أكان على مستوى المنهج أو الوسائل أو الطرائق، لسردوا لك الأسماء المشهورة التي خرّجها دفتر التحضير إيّاه.

لا تقع المسؤوليّة على المعلم وحده، فعندما تهمل الإدارة عمليّة التدريب المستمرّ للمعلّمين، وتقصّر في تأمين الحوافز المادّيّة والمعنويّة، وتترك المهنة الأشرف في هذا العالم أسيرة الضغوط الحياتيّة، فإنّ المعلّم سيكون حصيلة هذه المعوقات التي تحوِّله إلى ما يشبه الآلة التي تكرّر ما تعرف؛ لأنّه لا يملك الوقت الكافي ولا “ترف” إعادة النظر فيما يعرف.

ولا شكّ أنّ ساحة العمل التربويّ لم تخلُ من نجوميّة المعلّمين “الإبداعيّين”، ولكنّها تبقى في أجواء التعليم الكمّي ظواهر فريدة، ما لم يكن الإبداع هدفاً وبرنامجاً وسياسة تربويّة توفّر لها الإدارات المعنيّة كلّ ظروف النجاح والظهور والتطوّر.

التعليم الإبداعيّ هو الحلّ:

لا فرق بين أن تكون المدرسة متواضعة أو غنيّة، فبإمكان المعلّم المخلص أن يُحدِث الفرق ويردم الهوّة إذا كان يتمتّع بالضمير الحيّ، وبالقدرة على البحث، وبالرغبة في التجديد، التي تحوّل المهنة الرتيبة لا إلى مزرعة للقدرات والمهارات عند التلامذة فحسب، بل إلى فرصة دائمة لبناء الذات... فما هي المجالات التي يتدخّل فيها المعلّم وأين؟

المناهج مستويات، فهناك “المنهج الرسميّ” المعتمد من الدولة، والذي يصدر بمراسيم ملزمة لجميع المؤسّسات التربويّة، وهناك “المنهج المكتوب” الذي تصدره دُور النشر، وهو يعبّر عن فهم المؤلِّفين للمنهج الرسميّ، وهناك “المنهج المعلّم”، وهو ما يتمكّن المعلم من نقله أو زرعه أو بعثه أو إيقاظه في التلامذة والطلاب من معارف ومفاهيم وقيم ومواقف وقدرات ومهارات وكفايات، وهذا المنهج الأخير هو ساحة إبداع المعلّم سواء أكان على مستوى المحتوى أم الطريقة والوسائل.

وهناك منهج آخر خطير نسمّيه “المنهج الخفيّ”، وهو منهج غير مقصود ينقله المدرّس بسلوكه في الصف بقوّة القدوة، ويتأثّر به الطلاب سلباً أو إيجاباً،  فكثيراً ما نجد  الطلبة أو الطالبات متأثّرين بطريقة كلام مدرّس، أو بأسلوبه في إدارة الصف، أو حتى بالألوان التي يرتديها أو بالطريقة التي يعبّر فيها عن غضبه أو ببعض الكلمات التي يستخدمها، ما يلقي عبئاً ثقيلاً على المعلّم الذي يصبح ملزماً بمراقبة نفسه، بل قد يضّطرّ إلى  تكلّف السلوك المخالف لطبعه في الصف لكي تكون قوة القدوة إيجابيّة دائماً.

ومن المنهج المعلمّ والمنهج الخفي تظهر شخصيّة المدرّس المبدع حينما يبتكر مقاربات غير مألوفة للمادة التعليميّة، بحيث يتمكّن من تحويل التلميذ إلى محور للعمليّة التعليميّة، أو كما نقول في الطرائق الناشطة: عندما يتحوّل المعلّم من سائق الباص، إلى شرطيّ السير، من نقل المعلومة إلى إقدار التلميذ على الوصول إليها، فهل يقتصر هذا الأمر على الأساتذة الموهوبين؟ لا شكّ أنّ المقوّمات الشخصيّة تقوم بدور أساس في هذه العمليّة، ولكن تطوّر الوسائل اليوم وظهور الثروة المعلوماتيّة وسهولة البحث تسمح بإبداع الإبداع أو باستعارته.

المعلّم المبدع باحثاً:

المعلّم المبدع طالب وباحث أبديّ، لا يكتفي بما يتضمّنه الكتاب المعتمد، بل يبني مكتبة ورقيّة وإلكترونيّة وينمّيها في كلّ عام، مطّلعاً على التمارين والنشاطات المستحدثة، ولا عزاء لدفتر التحضير الأصفر الذي يتحوّل في أحسن الأحوال إلى تراث مجيد.

الكتاب المعتمد عند المعلّم المبدع هو في أحسن الأحوال وجهة نظر أبداها المؤلّفون المتخصّصون في المادة من زاويتهم، أمّا المنهج المعلّم، فهو ذلك المزيج من الطالب وقدراته والمعلم ومهاراته، وما حوت الكتب المتخصّصة والمواقع الإلكترونيّة التعليميّة من أنشطة تحرّك في المتعلّم سبل التفكير وتشجّع حماسة المنافسة، وتستفزّ الحواس، وتجذب الانتباه، وتطيل فترة التركيز دون جهد يُذكر، وتراعي الفروقات الفرديّة، فهذا تمرين يخاطب الذكاء البصريّ، وآخر يخاطب الذكاء السمعيّ، وتلك مجموعة من الأسئلة تستنفر التحليل. وتتغيّر مع كلّ نشاط وضعيّات التعلم، ويتمدّد الصف إلى المختبر والملعب، بل وإلى خارج المدرسة عندما يقتضي الأمر.

أمّا الوسائل الإلكترونيّة فتُستخدم لتقديم أكبر قدر من المعلومات بأقلّ وقت ممكن، ولملء الثواني العزيزة من الحصّة التعليميّة بإدارة صارمة لوقت النشاط تكفي لمشاركة فاعلة تصل أحياناً إلى ما يشبه الفوضى المنظّمة.

إنّ المعلّم المبدع يسأل أكثر مما يجيب، ويدير الحوار أكثر مما يحاضر، ويكرّر دائماً في سلوكه التعليميّ مقولة سقراط الشهيرة: “كلّمني حتى أراك”. إنّ حركة التلميذ ومفرداته وطريقة تفاعله تجعل منه تقريراً يمشي على قدمين، يُقَوّم المدرّس من خلاله مدى تحقّق الهدف من الحصّة التعليميّة أو من الدرس أو من المحور، ويتحوّل الطالب في هذه العمليّة النشطة إلى حقل أبحاث المدرّس، ما نوع الذكاء الذي يتمتّع به؟ وكيف يمكن الاستفادة منه لتنشيط الآخرين؟ وما هي الأهداف التي لم تتحقّق بعد والتي لم تظهر في التغيير المنشود للسلوك الذهنيّ والعمليّ للمتعلِّم؟ وما هي الأنشطة المناسبة والمكمّلة لهذا النوع من الفروقات الفرديّة بالذات؟ إنّ كلّ تلميذ يتحوّل إلى أطروحة قائمة بذاتها يتعلّم منها المعلّم سبل التطوير المستمرّ لطرائق التدريس والتقويم والتواصل الفعّال والإدارة الصفّيّة... وهكذا يجد المعلّم نفسه مع كلّ صفّ جديد أمام تحدّيات مختلفة تطرحها القدرات المختلفة للمتعلّمين، فيجدّد ويتجدّد ويحرّك ويتحرك، ويذهب بقدراته وبقدرات تلامذته وقابليّاتهم إلى أقصاها. هذا هو المقصود عندما نقول إنّ الطرائق الناشطة تحوِّل التلميذ إلى محور للعمليّة التعليميّة، يعني تغيير “كوبرنيكي” يجعل المعلّم يطوف حول المتعلّم، باحثاً عن حاجاته وقدراته وقابليّاته، محبّاً له كما هو، قائداً لقلبه وعقله وسلوكه إلى ما يجب أن يكون.

متطلّبات التعليم الإبداعيّ:

 يدرك المعلّم المبدع بوعي عمليّ أنّ موقعه من العمليّة التعليميّة قد تغيّر، وأنّ دوره الأساس أصبح تعليم الولد كيف يتعلّم، فلم يعد هو مصدر العلم الأساس، بل هو شرارة الانطلاق، فلا يوجد منهج اليوم يمكنه أن يعلّم الولد كلّ ما سيحتاجه في المستقبل، وذلك في ظلّ هذا التغيّر المتسارع الذي يؤدّي إلى انقراض مهن وظهور أخرى.

ليس كلّ من يقف في الصف اليوم قد اختار هذه المهنة بإرادته الحرّة، بل الأغلب أنّ الأقدار ساقته إليها، ولكن ليس بإمكانه أن يبرع فيها إذا لم يحبّها بشغف يلامس الزهد والتصوف، والحبّ وحده هو الوصفة السحريّة لتخفيف العناء والجهد والفرح بالإنجاز. وهو الذي يحوّل المعلم إلى نحلة نشطة بين الكتب والمواقع لاختيار ما يناسب الدرس والهدف والتلامذة من عسل المعرفة.

ومهما كانت ظروف المعلّم والمدرسة قاسية، فإنّ المعلّم الباحث والمبدع والمحبّ يمتد جسراً حانياً بين المتعلّم الفقير والمستقبل الباهر، وليس من قبيل المبالغة أن نقول: كم من ثورة أصلحت أمّة بدأت تباشيرها في صف متواضع بين أحضان معلّم محب.

فثقْ بنفسك يأ أخي المعلّم وأصنع ثورتك