-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ملف العدد : بالتربية الأصيلة نواجه التحديات...

الباحث :  د. علي الحاج حسن
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  8
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2020م / 1441هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 18 / 2020
عدد زيارات البحث :  261
تبرز ضرورة التربية عند الحديث عن جدليّة العلاقة بين القيم والممارسات والمسؤوليّات، وعندما نذعن بهذه الضرورة، فإنّنا نشير إلى سلوكيّات وممارسات وأداء للمهام يختلف عن القيم المتداولة والمعترف والمسلَّم بها عند أيّ جماعة. ويتّجه بنا القول للاعتراف بوجود مبدأ مسلّم وإلى خروج عن المبدأ، فتأتي التربية لتكون العامل المساعد في الرجوع إليه، وعلى هذا الأساس تظهر إشكاليّة البحث، وهي التربية في ظلّ الخروج أو الانحراف عن المبدأ.
وللبحث جوانب واتّجاهات عديدة تتعلّق بالتربية وأنواعها؛ إذ إنّ الإطلاق فيها قد يُسهم في جعل الموضوع مبهمًا وكذلك الهدف، فهل نريد التربية الأخلاقيّة أم العلميّة أم السلوكيّة أم...؟ إذ إنّ تحديد الهدف هو المنطلق لحلّ الإشكاليّة ووضوح المعالجة. وبما أنّ التحدّيات المعاصرة تشكِّل طيفًا واسعًا من الأسئلة والإشكاليّات التي تزعزع أركان كينونة الشباب وانتسابهم إلى منظومة قيميّة محدّدة، كانت التربية المقصودة تلك التي تعالج الإشكاليّات، وبالتالي قد يكون المقصود منها عمليّة تمازجيّة من أنواع عديدة تؤدي أهدافًا واضحة.

التربية تبني الأفراد:
أشار اللغويّون إلى معانٍ للتربية، منها أنّها «إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حدّ التمام»[1]، وعندما نقول «ربّاه»، فهذا يعني أصلحه، وتولّى أمره، وساسه وقام عليه ورعاه[2]. والتربية في الاصطلاح عمليّة معرفيّة منظّمة ومستمرّة تقود الأفراد إلى المبادىء التي تشكّل القيم أساسها. وقد اعتبرها بعض العلماء نظام اجتماعيّ يُسهم في تنمية الأفراد من النواحي الجسميّة والعقليّة والأخلاقيّة ليعيشوا في بيئة سويّة[3]. وعرّفها آخرون بأنها عمليّة إراديّة لتوجيه الأفراد إلى النافع والتحذير من الضار[4].   
وإذا كانت مرحلة الشباب تشير إلى مرحلة عمريّة حدّدها التربويّون وعلماء النفس، فإنّ المقصود من التحدّيات تلك التي تشكّل المنازعة والغلبة أسسها[5]، وهي عبارة عن مجموعة القضايا الفكريّة والعمليّة التي تستحضر التنافر بين الأفكار والسلوكيّات؛ ونظرًا إلى أنّ الحياة البشريّة عمليّة استمراريّة تحكمها المعرفة والإبداع والاختراع، فقد كانت التحدّيات في كلّ عصر مرتبطة بما يفرزه هذا العصر من معارف ووسائل تُسهم في إيجاد الأسئلة والتشكيك بما هو قائم.

بناءً لما تقدّم تعالج هذه المقالة العمليّة التربويّة التي يجب أن يحظى بها الشباب في ظلّ ما يواجهونه من تحدّيات فرضها التحوّل المعرفيّ والسلوكيّ في عصر التقدّم التقنيّ والتكنولوجيّ. ونشرع بداية بالحديث عن أبرز التحدّيات لنعقّبها بالحلول التربويّة المقترحة.

الشباب والتحدّيات المعاصرة:
تشكّل التحدّيات المعاصرة طيفًا واسعًا من القضايا التي تثير الأسئلة حول صحّة العلاقة بين القيم والمبادىء وبين سلوكيّات الجيل الشاب وأفكاره، أمّا أبرز هذه التحدّيات:

1ـ تحدّيات الهويّة[6]:
لا يخفى على أحد أنّ التطوّر التقنيّ والتكنولوجيّ والمادّي بشكلٍ عامّ يحمل في طياته تحوّلًا على مستوى الأفكار والثقافة والقيم. وعند إبداع أيّ اختراع جديد يسهم في نقل الحياة البشريّة نحو اكتشاف مجهولات الطبيعة، فإنّه بشكلٍ أو بآخر يترك تأثيره على مستوى أفكارنا وثقافتنا وقيمنا، فتتركّب معارفنا على أساس فهم فلسفة ذاك الإبداع، ويزرع الشكوك في أفهامنا السابقة لما يجري من حولنا. وفي هذه النقطة تحديدًا يتجلّى فقدان الهويّة التي ينبغي أن تشير إلى مجموعة المعارف والقيم التي تشكّل حقيقة الفرد والجماعة. وإذا انتقلنا إلى عالم المصاديق وجدنا أنّ الأديان بشكلٍ عام والدين الإسلاميّ بشكلٍ خاصّ قدّم منظومة متكاملة لفهم الإنسان الفرد والجماعة، وقدّم فهمًا لمسؤوليّات الإنسان ووظائفه تّجاه نفسه وأخيه الإنسان والطبيعة، وكذلك الأمر بالنسبىة إلى وظائفه تجاه خالقه. ولكنّ التحدّيات تبرز عند سطوع الإبداعات والاختراعات والثقافات الأخرى التي تسهم في الانحياز نحو توجيه أسئلة قد لا نجد لها إجابات في المنظومة (الهويّة) التي ننتسب إليها، وإذا تعمّقنا أكثر من ذلك، فسنجد أنّ الهويّة الإسلاميّة بشكل خاصّ تعتمد على نوع من الجزميّة الاستدلاليّة، فلا يمكن الانتساب إلى الدين ما لم نؤمن على وجه اليقين والقطع بأساسيّاته وأركانه، ولكن ما هو الحال إذا كانت الشكّاكيّة والنسبيّة هي المنهج الذي تفرضه حياتنا المعاصرة، وهل تترك من مجال لليقين والقطع؟.
كما أنّ التعلّق بمظاهر الحياة الماديّة يستتبع الابتعاد عن القيم غير الماديّة، وبالتالي التشكيك في جدواها، ولعلّ تحدّي الهويّة هو أبرز الإشكاليّات التي يواجهها الشباب اليوم في ظلّ طغيان الأفكار الأخرى وسيطرتها، وعجز الثقافة الذاتيّة عن تقديم إجابات مقنعة.
2ـ تحدّي نمط الحياة: يشير نمط الحياة إلى مجموعة من السلوكيّات التي تحكي عملًا عن المنظومة القيميّة والمعرفيّة[7]، ولكن في ظلّ هذا الكمّ الهائل من الضخّ الإعلاميّ والثقافيّ والترويج لمظاهر الحياة الأخرى التي تسطع فيها قضايا المنفعة واللذّة والمادّة وكيفيّة تطويع الطبيعة المحيطة بنا إلى الرفاهيّة الخاصّة والفرديّة، بالإضافة إلى مقدار الجاذبيّة الكبير في أنماط الحياة الماديّة، لا يترك المجال للحديث عن نمط حياة مستقرّ يحكي عن المنظومة القيميّة الإسلاميّة. وتتجلّى خطورة نمط الحياة بشكل واسع عند الحديث عن أهداف الحياة وأركانها وخاصّة إذا كانت تتضمّن أبعادًا غير مادّيّة. وإذا كانت المنظومة الدينيّة قد رسمت تصوّرًا للهدف من الحياة، فإنّ تغيير نمط الحياة والتأسيس له على أساس ثقافة الآخر يتناقض مع تلك الأهداف التي رسمها الدين. ويترتّب على تغيير نمط الحياة سلسلة تغييرات ذات علاقة بالهويّة وبالمبادىء الذاتيّة، ومن ثم الاتّجاه نحو التقليد العميق للآخر.
3ـ تحدّيات الوعي والمؤامرة:  يشكّل التطوّر المعرفيّ والتقنيّ والتكنولوجيّ أحد أبرز محدّدات العصر الحالي. وقد ساهمت مجموعة هذه الأمور في الارتقاء الكيفيّ والكميّ للحياة البشريّة، فأضحى بإمكان الإنسان أن يتوافر على حياة أفضل، وأن يتحكّم في العديد من مفاصل الحياة المعقّدة، وهذه إيجابيّة لا يمكن إنكارها كونها تمسّ الوعي البشريّ. ولكن الخطير أنّ بعض الناس حاول الاستفادة من هذا التطوّر، ليمارس عملية إلغاء الآخر وتطويعه عبر ما يُعرف اليوم بالحرب الناعمة. وقد أسّس الأمريكيّ العديد من مراكز الدراسات والأبحاث وأبدعوا الكثير من الأدوات والوسائل التي تسهم في تغيير الذهنيّات، والسيطرة على الإرادات، باعتبار أنّ هذا الأسلوب هو أفضل وسيلة للسيطرة السياسيّة والاقتصاديّة[8]. وهذا هو الخطر بعينه والمؤامرة بعينها. 
4ـ تحدّي تسطيح المعرفة: على الرغم من كلّ الإيجابيّات التي تسجّل لإنجازات العصور الحاليّة، لكنّ الأدوات الكثيرة التي قدّمتها، والتي أضحت بديلًا عن مصادر المعرفة القديمة، ساهمت بشكل أو بآخر في تسطيح المعرفة وجعلها سلعة لا قيمة مضمونيّة لها، وليس بغريب أن تصبح وسائل التواصل على اختلافها والمسلسلات وبرامج الترفية هي الأكثر حضورًا وتأثيرًا.
 يضاف إلى التحدّيات المتقدّمة مجموعة أخرى ليست أقل شأنًا لا يتّسع المجال لذكرها من أبرزها: تحدّي الاستهلاك وعدم التوجّه نحو الإنتاج، تحدّي الأسرة والقيم الجمعيّة، تحدّي الأخلاق والتوجّه نحو الإباحة، تحدّي الاستهانة بالمقدّسات و....

التربية ضرورة وحلّ:
انطلاقًا ممّا تقدّم تبدو التربية بمعناها الأوسع هي الخطوة الأساسيّة نحو إيجاد الإجابات والحلول التي تأخذ الشباب نحو الهويّة والالتزام بنمط الحياة الخاص والفعاليّة المعرفيّة... وهي تتركّب من مزيج يعتمد على الآتي:
1ـ  لا بدّ من إعادة بناء المنظومة المعرفيّة والقيميّة بما يتلاءم مع التحدّيات التي فرضتها الحداثة، فتقدّم إجابات لما زرعته من تساؤلات. وهنا لا بد من إعادة رسم المبادىء والأصول للمنظومة المعرفيّة والقيميّة واكتشاف الأهداف والأدوات، باعتبار أنّه لم يعد مقنعًا اللجوء إلى أدوات ووسائل (قديمة) للوصول إلى أهدافٍ بعضها لم يعد  منشودًا اليوم.
2ـ تصبح التربية ذات فعاليّة إذا اعتمدت على أساس صناعة القدوة، وهذا يعني إخراج القيم والمبادىء من إطارها النظريّ المثاليّ، وجعلها تتجسّد في أرض الواقع. وهنا أُلفت الانتباه إلى أنّ القدوة مطلوبة عند الإنسان باعتبار أنّها تشكّل الكمال المنشود.
3ـ تلعب المناهج الدراسيّة وبرامج التنشئة الاجتماعيّة الدور الأساس في صناعة الفرد؛ وذلك لأنّ التربية بمفهومها الدقيق أمرٌ تدريجيّ تكامليّ ومستمرّ يسهم على المدى الطويل والمخطّط والمنظّم في الوصول إلى الأهداف المرجوّة.
ختامًا، إن بحث التربية وضرورتها يبدو اليوم أكثر تعقيدًا ممّا نتصوّر، فهذا البحث بحاجة إلى جهود جمعيّة تحدّد المبادىء وترسم الأهداف على أساس مدى خطورة التحدّي. ولعلّ هذا المقال هو نافذة بسيطة في الإضاءة على الموضوع.

------------------------------------
[1]- الأصفهاني، الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، ط2، طليعة النور، قم، 1427هـ، ص336.
[2]- يراجع: النحلاوي، أحمد زكي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (لا ط)، دار الفكر، دمشق، 2004م، ص16.
[3]- يراجع: بدوي، أحمد زكي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (لا ط)، مكتبة لبنان، 1982م، ص127.
[4]- يراجع: الحارثي، صلاح: دور التربية الإسلامية في مواجهة التحديات الثقافية للعولمة (رسالة ماجستير)، كلية التربية، مكة المكرمة، 1422هـ، ص12.
[5]- يراجع: الرازي، محمد: مختار الصحاح، (لا ط)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م، ص127.
[6]- يراجع: الحارثي، دور التربية الإسلامية في مواجهة التحدّيات الثقافية للعولمة، (م.س)، ص82.
[7]- يراجع : فصليّة «دراسات نمط الحياة»، إصدار مركز أبحاث مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون في الجمهوريّة الإسلاميّة، العدد3، 1392 هـش. (2013)، ص 14.
[8]- يراجع في هذا الخصوص ما كتبه بعض الأمريكيّين أمثال جوزيف ناي [كتاب القوّة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة] وما نشرته بعض مراكز الدراسات وخاصّة تلك التي تناولت الترفيه والتسلية والجنس والموضة... باعتبارها تكتيكات لتغيير الأفكار [كتاب الإمبراطوريّة الأمريكيّة وترسانة الترفيه -القوّة الناعمة والتسليح الثقافيّ، كذلك كتاب الترفيه السياسيّ أداة المخابرات الأمريكيّة للتلاعب بعقول الشعوب].