الحديث عن الفكر والاعتدال يطول، لا تحصره مقالة أو ندوة، فهو من الموضوعات التي تعدّ مورد نقاش بشكلٍ دائم ومتواصل؛ لأهمّيّته في حياة البشريّة، فغياب الفكر يعني الفوضى وانعدام الاستقرار؛ لذلك نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على هذا الموضوع حسب مقاربة الفرنسيّ «شارل فاجنر».
في حديثه عن الفكر والاعتدال، اعتبر شارل فاجنر أنّه لا يكفي للإنسان أن يسعى لترتيب أموره الدنيويّة وأحوال معيشته وحياته، بل يجب أن يهتمّ أيضًا بفكره فيطهّره من كل الأدران التي تشوبه وتضلّله؛ باعتبار أنّ الفكر السخيف منبع الاختلال، كما اعتبر- أيضاً- أنه ما دامت طريق الحياة وعرةً كثيرةُ العقبات والمزالق أصبح من الواجب أن يكون الفكر سليمًا؛ وذلك من أجل أن يستطيع التمييز بين الغيّ والرشد، وطرح كل رأي سقيم، أو معتقَد باطل لا يُظهر الإنسان بمظهر الرجولة الصحيحة، ولا يَنْشَط به إلى طريق الكمال والرقيّ. يقول شارل فاجنر «الفكر أداة من الأدوات النافعة للمجموع، وليس من الكماليّات التي يمكن الاستغناء عنها، فيجب الاهتمام به اهتمامًا كليّاً وتربيته تربية كفيلة بالتثقيف والتقوية؛ ليؤدي الوظيفة التي خلق لها، وإلَّا فلا فارقة تميّزه من خواطر الحيوانات والهامات»[1].
وللتأكيد على مكانة الفكر، يعطي شارل فاجنر المثال الآتي: «أطْلِقْ قردًا في مكان أحد الرسّامين تجده يبتهج لمرأى الرسوم والصور وأدوات الرسم، فيتنقل بينها مسرورًا، ثم يعود فيعبث بها، فيحطم اللوحات البديعة؛ لينظر ما وراءها، ويمزّق الأقمشة بأنيابه الحادّة؛ ليرى ما في باطن صورها، ويذوق مواد الألوان، ثم يمتعض لطعمه، فينثرها في أرض الغرفة، ولا يترك شيئًا في مكانه ولا شكَّ في أنَّ القرد يُسرُّ بما يعمل ويلهو بهذا الإتلاف، ولكن أماكن المصورين لم تخصص للقرود، ولم تنسق ليتلفها هذا الحيوان الخبيث. فكذلك الفكر ليس مكانًا للتجارب البهلوانية، ولم يخلق للَّهو به وإجهاده فيما لا يفيد، ومن أشد الأخطار على الإنسان أن يجعل فكره لعبة يسلو بها ويلهو، فلا يكون يومًا ما فكرًا راقيًا يميز ويدرك»[2].
ويُلفت شارل فاجنر النظر إلى مسألة جنون الإنسان بمعرفة قدر نفسه، ومنزلته بالنسبة للآخرين، والذي لا يعتبره ضرراً بنفسه، وإنما الضرر في الاغترار بالنفس وحب الظهور. هذه القضية دفعت شارل إلى القول بأنّ التعقل أصبح نادراً بين الأفراد، ولعل لذلك نتائج سلبية. يقول «الفكر والتعقل والتبصرة من الدعائم الأساسية التي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، فمن تجرَّد منها ساء مصيره، ومن حازها واحتفظ بها اعتدل وأمن شرَّ العاقبة. وليس التعقل من الصفات الغريزية التي توجد عفوًا في جميع الناس، ولكنه من الصفات التي تكتسب بعد عناء طويل وكدّ متواصل. وهو كنز من أثمن الكنوز وأنفسها قدرًا، ولا يعرف قيمته إلَّا من يكون حكيمًا لا يرضيه الشطط والتطوح مع الأهواء. والعاقل من يستهين المتاعب، ويستقصر الزمن الذي يلزم للتكمل بهذه الصفة الحميدة، فيكون بصيرًا بالأمور والعواقب حكيمًا سديد الرأي. إنّ صاحب السيف يخاف عليه من التثني والتعوج ولا يتركه طعامًا للصدأ، بل يتعهده بالنظافة والعناية، فإذا كان هذا حظ قطعة الفولاذ التي لا تنفع في كل آنٍ مع تيسر وجود عوضها، فما بالك بالعقل — وهو الجوهر الذي يستحيل إصلاحه — إذا فسد، أو الاستعاضة عنه بغيره إذا اختل؟»[3].
إذاً، فالوجود الإنساني لا يفترض وجود التعقل، فهناك الجنون كما أشرنا؛ الوجود هو وجود حيواني - حسب شارل- لا مزية له إلا بعد التهذيب والتثقيف، يقول «وقد خُلق الإنسان قبل أن يفكر وفكر بعد أن خُلق ووُجِد، فكان وحشًا قبل رقيّ مداركه، وصار إنسانًا بالمعنى الصحيح بعد أن تحلَّى بحلية العقل المهذَّب والتمييز عن معرفة، فمهَّد السلفُ سبيل الحياة للخلف، وأوجدوا أضواء الحقائق التي تنير ظلام الحياة وتكشف سبلها المتشعّبة، فلم يبقَ على الإنسان إلَّا أن يتعرّف ما أمامه، فيعيش آمنًا ميسورًا بدلًا من أن يقضي كلّ حياته عبثًا دون الانتهاء إلى نتيجة من البحث والتنقيب»[4].
إن اعتدال الحياة لم يكن وليد الصدفة، وإنّما يرجع إلى دور السلف، يقول شارل فاجنر: «ولولا الحقائق والخطط القويمة التي اهتدى إليها السلف ودوّنوها لتوقفت حركة التقدّم، ولما خطا العالَم خطوة واحدة في سبيل الرقيّ والكمال؛ لأنّه إذا كان كلّ فرد يبدأ بالعمل لنفسه، فإنَّه لا ينتهي من البحث والاهتداء إلى الحقائق إلَّا وهو في آخر مرحلة من العمر، وقَدَمُه على حافّة القبر، فتنطفئ حياته قبل أن يستفيد مما قضى عمره في سبيل الحصول عليه، ويترك المجال لمخلوق جديد يعيد الكرَّة لينتهي إلى مثل هذه النهاية، فلا يكون ثمّة مجال للتمتع بلذائذ الحياة، ونعيم العيش، وتكون الدنيا دار شقاءٍ ونَصَبٍ لا دار نعيم وسعادة، وهذا ضلال مبين»[5].
طرح شارل فاجنر فكرة مهمّة لها رسالة للإنسانيةّ، وهي أنّه على الرغم ممّا وصل إليه العالم من العلم والتنوير واكتشاف بعض الحقائق التي لا يمكن لأحد إنكارها، لكن لم يكشف طريق المجهول، وكذلك لم يصل لحلّ مشاكل الاجتماع وغيرها، يقول فاجنر: «ولا يزال العقل يصادف طلاسم يتخبّط فيها دون أن يهتدي، ولا تزال الحكمة والفلسفة تشتطّ في مجاهل لا حدَّ لها ولا غاية، ولكن مَن يعرف أنَّ الظمآن يرتوي بقليل من ماء البئر يجد الحياة ممكنة باليسير الذي توفق إليه الإنسان، كما كانت ممكنة من قبل لمن جهل كلّ الحقائق، وكتمت عنه أسرار الوجود ونظام العالم، فالحياة ممكنة، والاعتدال في الحياة غير المحال، ولا يستدعي ما لا طاقة به للإنسان، ومَن اعتدل فكره اعتدل قوله وانتظم عمله»[6].
وقد أثار شارل فاجنر قضية مهمّة لبيان أهمّيّة الفكر والتعقل، وهي: «ما أحسن الأديان؟» يقول في ذلك: «فخير ما يفعله العاقل أن يضع السؤال على صورة أخرى، ويسأل عن ماهيّة الدين القويم الصالح للدّنيا وللآخرة، فيكون الجواب أنَّ الدين القويم هو الذي ينير البصائر، ويرفع قدر الحياة، ويحضّ على العمل مع التوكّل والأمل والطيبة. الدين القويم هو الذي ينتصر للخير والفضيلة، ويخذل الشر والرذيلة، وينشط الإنسان، ويدفعهُ إلى التحلّي بالفضائل [والقيم] والصفات الحميدة، وإلى اكتساب كلّ خِلال الرجولة الحقّة. الدين القويم هو الذي يعين على احتمال الآلام بصبر وقبول، ويدعو إلى احترام الغير ومراعاة حقوقهم، ويساعد على التسامح، ويقلّل من الكبرياء والعتوِّ، ويحثُّ على عمل الواجب»[7].
إن الإنسان الحكيم المتعقل هو الذي يستطيع تقديم الإجابة التي تحترم الجميع، وهو ما ينسجم مع أصالة القيم السماوية، التي تحفظ الدور الفردي والاجتماعي للإنسان في إطار المجتمع والأمة.
جملة القول:
إنّ رُقي الحياة رهين بالفكر السليم والتعقّل الرزين، فلا يمكن أن تستنير الحياة بدون فكر معتدل يؤمن بالاحترام والاختلاف.
------------------------------