-----------

الشبكات الاجتماعية والقيم، أيهما يؤثر في الآخر؟

{ زهراء جعفر }

الشبكات الاجتماعية والقيم، أيهما يؤثر في الآخر؟

تؤدّي القيم دوراً جوهريّاً وأساسيّاً في بناء السلوك وتوجيهه على مستوى الفرد والجماعة، ما ينعكس إيجاباً على شخصيّة الإنسان بوصفه فرداً، ومن ثم على أفراد المجتمع من خلال تفاعله وتعامله معهم. وإنّ منظومة القيم إذا استقرّت وتجسّدت في شخصيّة الفرد تصبح  معياراً ومحرِّكاً وموجّهاً لسلوكه وسلوك مجتمعه، وخاصة أنّ القيم هي موضوع العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة على السواء؛ إذ تقف وراء كلّ عمل إنسانيّ، وكلّ تنظيم اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ؛ لأنّ موضوعها هو علاقة الإنسان مع الكون الذي يعيش فيه، ونظرته إلى ذاته وإلى الآخرين، وإلى سلوكه وأنواع ضبطه، وإلى مكانه في المجتمع بأنظمته وعلاقاته؛ وبماضيه وحاضره ومستقبله.

وعلى الرغم من أنّ القيم ذات ثبات واستمرار نسبيّ، لكنّها قابلة للتغيير نتيجة التفاعل المستمر بين الفرد وبيئته التي لم تعد محصورة ببلده أو مدينته أو مكان سكنه، بل توسّعت لتشمل العالم بكلّ ما يحمله من أفكار ومعتقدات وقيم جارفة؛ ولهذا فقد أثّرت الثورة التكنولوجيّة وتطبيقاتها المختلفة على منظومة القيم بجميع أنماطها مثل: منظومة القيم الاجتماعيّة، والدينية والذاتيّة للفرد، أي ما يتعّلق برؤية الفرد لذاته ومجتمعه ونظرته إلى الله والدين، وهذا سيؤدّي  في كثير من الحالات إلى  القطيعة الثقافيّة بين الإنسان وثقافة مجتمعه وأهله وقيمهم، وسيعزّز حالة الانعزال والغربة الثقافيّة وتدهور القيم المحليّة وتراجعها في مقابل إدخال أنماط جديدة لا تعمل على استقرار المجتمع، بل على تفكّكه بنيويّاً وقيميّاً. 

وباتت الشبكات الاجتماعيّة تلعب  دوراً في التأثير على القيم والسلوك لدى جميع فئات المستخدمين في المجتمع، وخاصّة الشباب، وذلك  لما تتميّز به من عناصر جذب ذاتيّة،  منها ما يرجع إلى طبيعة التحوّلات التي يمرّ بها المجتمع، ومنها ما تعكسه العلاقة الجدليّة القائمة بين الإعلام وبين القيم بشكل عام، وتأثير أحدهما في الآخر[1].

تهميش الخصوصيات:

ترتكز عولمة القيم - اليوم - على ما يمكن أن نسمّيه توحيد القيم وتهميش الخصوصيّات، وتلعب وسائل التواصل المختلفة، والسينما، والقنوات الفضائيّة، والإنترنت، دوراً مهمّاً ومباشراً في هذا التهميش. ومن المعلوم أنّ هذه الوسائل باتت في متناول الجميع، بعدما انخفضت تكلفة الحصول عليها - ولم تعد حكراً على أوساط اجتماعيّة معيّنة، ولا على مراحل عمريّة محدّدة، ولا على بيئات مغلقة أو خاصّة - ومن هنا، تكمن أهمّيّتها وخطورتها؛ لأنّها باتت مثل الهواء الذي يتنشّقه الجميع - بغضّ النظر عن مستويات التلوّث فيه - ويعتقدون أنّهم بحاجة إليه، بل يرون أنّهم غير قادرين على العيش من دونه.

 وهذا يفسّر سرعة انتشار هذه الوسائل التي بتنا نراها في أيدي الجميع...، وقد ساهمت هذه الوسائل مساهمة فاعلة في ما نسمّيه «تنميط القيم»، ومحاولة جعلها واحدة لدى البشر؛ في المأكل والملبس، وفي العلاقات الأسريّة، وبين الجنسين، وفي كلّ ما يتّصل بحياة الإنسان الفرديّة والجماعيّة... وخصوصاً قيم الاستهلاك[2].

وما لا يقلّ أهمّيّة عن هذا الأمر، أنّ العولمة تنشر قيم الاستهلاك الساعية إلى توحيد الأذواق وأنماط السلوك والحياة، وذلك خدمة لأصحاب المؤسّسات الكبرى والشركات العالميّة التي تريد أن تجعل الناس جميعاً مستهلكين للسلع المنتجة في هذه الشركات والمؤسّسات. مع ما يعني ذلك من تغيير في العادات والتقاليد والمفاهيم المرتبطة بنظرة الإنسان إلى ذاته، وإلى الآخر، وإلى قيم الجمال والبساطة، ونمط الحياة، وسوى ذلك؛ مّا يشكّل جوهر القيم الإنسانيّة في أيّ ثقافة من الثقافات.  

مخاطر التواصل الاجتماعيّ على القيم والشباب

بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي  (الإعلام الجديد) بتقنياتها المتنوّعة والجذّابة، والمنتديات والمواقع المختلفة...، ظهر جيل الشبكات الاجتماعيّة، والهواتف الذكية التي تميّزت بجاذبيّة التأثير والانتشار وارتفاع حالة الآنيّة والتفاعليّة، وتنوّع الوسائط والتحديث المستمر، ما يؤدّي إلى زيادة ساعات الاستخدام من قبل الشباب. وتنعكس خطورة هذا الأمر في عنصرين مهمّين في البناء الاجتماعيّ، هما: عنصرا الشباب، والنسق القيميّ للمجتمع؛ وذلك لأنّ الشباب هم القاعدة العريضة من المجتمع السكانيّ، وهم أكثر المستخدمين للشبكات الاجتماعيّة، إلى جانب الانتشار والدخول الكثيف لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات.

 وهذا يكشف أنّ الانتشار الكثيف والسريع للتطبيقات التكنولوجيّة كان أسرع من نموّ البيئة الثقافية الملائمة لاستيعاب ذلك التطوّر،  فالمجتمعات التي تشهد حالة من التدرّج في نموّها التكنولوجيّ يكون على مستوى الإنتاج والاستهلاك عادة، بينما نلحظ أنّ مجتمعاتنا كانت مستهلِكة فقط؛ ليس للتكنولوجيا وحدها، بل للسلع والخدمات... وغير ذلك. وإنّ ما نشهده من تجاذبات عبر الشبكات الاجتماعيّة هو في الحقيقة انعكاس لحالة التردّي الراهن في منظومة القيم، ونتيجة لتراكمات عهود سابقة من سياسات تعليميّة وثقافيّة ماضية، وخاصة مع فقد الشبكات الاجتماعيّة لعنصر المركزيّة في التوجيه، وطغيان الفرديّة والعشوائيّة في نقل المعلومات والأفكار والقيم والرموز الثقافيّة.

ويجب أن لا يغيب عن بالنا أنّه إذا تمّ استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في مجتمع صحيّ ووفق رؤية واضحة، فإنّها  ستساهم في الحوار البنّاء والتعاضد الاجتماعيّ، وتعزيز ثقافة التسامح إلى جانب تنمية رأس المال الاجتماعيّ، الذي من شأنه أن يحوّل تلك العلاقات المتكوّنة عبر الشبكات الاجتماعيّة إلى حالة إيجابيّة يتمّ توظيفها في المجال الاقتصاديّ، وتنمية الإبداع والابتكار، ونبذ القيم السلبيّة الوافدة إلى المجتمع، والتي من أهم مفرداتها الكراهية والعنف المجتمعيّ والميوعة والتحلّل... وغيرها.

التربية الأصيلة والقيم الأخلاقيّة هما الحل:

اهتمّ الإسلام اهتماماً كبيراً بالقيم الأخلاقيّة؛ إذ جعل العناية بخلق الإنسان وتنميته ليصبح جزءاً من شخصيّة الأمّة واحداً من أهدافه الرئيسة، وهذا الهدف من أهمّ العوامل التي حفظت الأمّة الإسلاميّة والعربيّة من التدهور والانحلال الخلقيّ الذي تعاني منه المجتمعات والحضارات الغربية  المعاصرة، إذ يسودها ضياع القيم الأخلاقيّة؛ والتي تتجسّد في فقدان الأسرة لشكلها الطبيعيّ، والانتحار وغيرها من مظاهر التأزّم الخلقيّ والنفسيّ.

ولا يمكننا التخلّص من هذا المرض الخبيث - الذي فتك بمختلف الشرائح الاجتماعيّة ولا سيما الشباب - وإعادة توجيهه إلا  من خلال العودة إلى التربية الأخلاقيّة القيميّة الأصيلة المستوحاة من رسالة السماء، كون هذه التربية هي النشاط الاجتماعيّ الشامل في مهمة إعداد الإنسان الصالح المتناسق جسميّاً وخلقيّاً وروحيّاً، واجتماعيّاً. وتكتسب التربية معانيها الحقيقيّة من خلال الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، باعتبارها وسيلة المجتمع لتأمين استمراره وتطوّره، وبهذا تعكس التغيّرات والتطوّرات التي يمرّ بها المجتمعَ وفلسفتَه، وهي تفاعل بين الماضي والحاضر[3].

والتربية في جوهرها عملية قيميّة سواء أعبّرت عن نفسها في صورة واضحة أم في صورة ضمنيّة، فالمؤسسة التعليميّة بحكم ماضيها وحاضرها ووظائفها وعلاقاتها بالإطار الثقافيّ الذي تعيشه مؤسسة تسعى إلى بناء القيم في كل مجالاتها الخلقيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والفكريّة السلوكيّة[4]، وهي بذلك تهدف إلى غرس غايات وتهذيب عواطف وتنمية إرادات لتجريد الإنسان من أهوائه الدنيويّة، وتحسين كيانه الإنسانيّ في نظرته ونظرة الآخرين[5].

-------------------------------

[1]- مجلة الأهرام للكومبيوتر والإنترنت، مصر، تاريخ 8/ 4/ 2018.

[2]- يراجع: عتريسي، طلال، بروفسور في علم الاجتماع، لبنان، من دراسة بعنوان عولمة القيم الثقافيّة للشعوب - تحدّ واقعيّ راهن -، مجلة الحياة الطيّبة التخصّصيّة، العدد: 24.

[3]- جويلد، نورمان، الأهداف التعليميّة وتحديدها السلوكي وتطبيقاتها، ترجمة أحمد خيري كاظم، دار النهضة العربيّة، القاهرة 1982، ص: 318.

[4]- عبد الملك، أنور، الفكر العربيّ في معركة النهضة، ط8، دار الآداب، بيروت 1987، ص32.

[5]- العوّا، عادل، قضايا القيم في الفكر التربويّ الإسلاميّ، الأصول والمبادىء، المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1987،ص 268.