-----------

القيم وتحديات العولمة

{ لبنى بو شوارب }

القيم وتحديات العولمة

تطرّق الفيلسوف المغربيّ «طه عبد الرحمن» في كتابه «روح العمل» لعدّة موضوعات مهمة للغاية، ومن الموضوعات التي ارتأيت أن أخصّص لها مقالاً مستقلاً، موضوع «القيم وتحدِّيات العولمة».

بدأ الفيلسوف المغربيّ «طه عبد الرحمن» تناوله لهذه القضيّة بتعريف كلّ من القيمة والعولمة، حيث يقول في تعريف مجمل للقيمة: «اعلم أنّ القيمة هي معنى خفيّ يجده الإنسان في قلبه، ولا يدركه بحسّه؛ لكن، مع وجود هذا الخفاء، إنّ القيم عبارة عن معانٍ فطريّة هادية وسامية»[1]. وفي تعريف مجمل للعولمة يقول: «اعلم أنّ العولمة عبارة عن التجلّي الحاضر لإرادة الإنسان في أن ينتشر في الأرض، بحيث يسعى هذا الإنسان إلى أن يحيط بجميع أطراف العالم»[2].

وهنا يطرح السؤال الآتي: هل تلتزم العولمة بالقيم، بحيث تكون عولمة مهتدية سامية، وذلك باعتبارها تجلّياً لإرادة الانتشار في العالم بأسره؟

النقد القيميّ للعولمة:

يرى الفيلسوف المغربيّ «طه عبد الرحمن» أنّ إرادة الانتشار اقترنت بما هو اقتصاديّ وتجاريّ، فلم تكتفِ بإضفاء طابع السلعة على أشياء ماديّة كانت غير مسلّعة، بحيث بات هذا الطابع مقوّماً لها، لا بحسب أثمانها الحقيقيّة، وإنّما بحسب استعداد المستهلك لدفع هذه الأثمان، بل بات لَحِقَ التسليع الخدمات والشغل والبشر. ولم يقتصر الأمر على ذلك، «بل لحق مختلف دوائر النشاط الإنسانيّ، بما فيها الشؤون الروحية، حتّى بات يتمّ الحديث عن أسواق خاصّة للسلع الدينيّة، يتبضّع فيها المرء ما يهواه من غرائب المعتقدات والطقوس»[3]. هكذا يتّضح أنّ العولمة ما هي إلا عبارة عن الانتشار التسليعيّ في العالم كلّه، هذا الانتشار في رأي طه يستند إلى سلوك أخلاقيّ مخصوص له سمات محدّدة، نذكر منها:

- الخلوّ من القيم الفطريّة: أي إنّ القيم السامية والهادية لا مكان لها داخل مجال الانتشار التسليعيّ؛ والسبب في ذلك يرجع إلى أنّ الأشياء والعلاقات فيه أصبحت تُقدَّر بمقادريها النقديّة.

- هدر كرامة الإنسان: يتجلّى ذلك في أن قيمة الإنسان تقدّر بحسب استحقاقه؛ أي إسهامه في دفع عجلة التسليع بمعنى المردوديّة، ومن ثَمّة لا مكانة للتكريم؛ باعتبار أنّه لا يجتمع مع التسليع، وهذا الأخير لا يعرف التكريم ولا القيم السامية، بل يعرف لغة الأثمان.

- إطلاق العنان للحرية الفردية: وخطورة ذلك تكمن في تغييب المصلحة العامّة، وتقديم المصلحة الخاصّة.

إذاً، العولمة «عبارة عن انتشار تسليعيّ يوصل إلى الإخلاد في هذا العالم المرئيّ عن طريق العمل بالقيم الآتية: الحرّيّة المتسيّبة، والتنافس المفترس، والربح المتوحّش، والأنانية المفرطة، والقوّة المستبدّة، والمادّيّة المنسّقة»[4].

وقد تطرّق الفيلسوف المغربيّ «طه عبد الرحمن» إلى أشكال الفساد المترتّبة على العلاقة التسليعيّة؛ إذ يرى قيم العولمة تضادُّ القيم الفطريّة، ولا تُحقّق للإنسان الهداية والارتقاء، بل تضلّله وتنزل برتبته، ويتحدّث عن بعض وجوه هذا الفساد، ومنها:

الفساد الذي يترتّب على العلاقة التسليعيّة التي تربط الإنسان بالطبيعة؛ أين يتمثّل هذا الفساد؟ يجيب طه: «يتمثّل هذا الفساد، إجمالا، في إيذاء الطبيعة بما يجعل آثار هذا الأذى تقع على غير فاعليه، فضلاً عن فاعليه. وآثار هذا الإيذاء بادية للعيان في البرّ والجوّ والبحر بين انثقاب طبقة الأوزون، وتغيّر المناخ وتزايد التلوّث»[5]. ويرى «عبد الرحمن» أنّ الدول الكبرى تتحمّل مسؤولية هذه الآثار، باعتبار أنّها هي من يقود الانتشار التسليعيّ في العالم، بل إنّها تعمد إلى ممارسة الضغوط السياسيّة والاقتصاديّة لتسريع وتيرته.

الفساد الذي يترتّب على العلاقة التسليعيّة التي تربط الإنسان بالآخرين: ومثال ذلك انتهاك حقوق الإنسان، وتدمير الخدمات العامة، وتزايد التفاوت الاقتصاديّ بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وتراكم الديون على بلدان الجنوب، وهذا ما أدى إلى كثرة البطالة والتهميش وغيرها من الظواهر السلبيّة.

الفساد الذي يترتب على العلاقة التسليعيّة التي تربط الإنسان بنفسه: وآثار هذا الأذى يجمعها عنوان «الانحلال الخلقيّ»، ومنها: تعاطي المخدِّرات، والإدمان على المسكرات، والانغماس في الشهوات، وتطبيع الشذوذ الجنسيّ، وتجويز الزنا، وتشريع البغاء. أي إنّ الإنسان يفكّر في تحقيق رغبات دنيويّة مبنية على المتعة دون مراعاة المصالح العامّة، وقانون الفطرة، أي الالتزام بالأخلاق احتراماً للآخرين.

بعد ذكر الآثار السلبيّة للعولمة ينتقل إلى الحديث عن العلاج القيميّ للعولمة، فيقول: «إنّ الانتشار التسليعيّ الذي امتدّ امتداد العالم، وأصبح يتهدّده بأسوأ المفاسد والأخطار والأهوال، لا بدّ أن يجعل الهمم الواعية، أفراداً وجماعات، منظّمات ومؤسّسات تتنادى إلى تدارك شتّى المنتديات والملتقيات عسى أن تثني أرباب هذا الانتشار عن مزيد التسليع للعالم»[6]. ولا يتأتّى ذلك إلا بالاهتمام المباشر بالإنسان، أي إنسان، وتقديم المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة، وأن يكون الدين والإيمان حاضراً في أخلاقيّات العولمة.

يقول «يتبيّن أنّ الأخلاقيّات الكفيلة بدفع مفاسد الانتشار التسليعيّ تحتاج إلى أن تأخذ بقيم توفي بالشروط الآتية: أوّلها، أن تكون قادرة على التزكية، بحيث تحوّل الشعور وترتقي بالسلوك، وهذا يعني أن تنتقل من رتبة تقييد الاقتصاديّ بالسياسيّ- وهي رتبة التهذيب – إلى رتبة تقييده المباشر بالأخلاقيّ، مقابل التنمية الاقتصاديّة بتنمية روحيّة أقوى منها تصرف عن الإنسان وهمَ الجبريّة الاقتصاديّة، وتحرّك فيه داعية التغيير لواقع الانتشار التسليعيّ، قاطعاً لأسبابه وماحياً لآثاره؛ والثاني، أن تكون قيماً مستقلة بمنطقها، بحيث تقصر عن استيعابها المقولات التسليعيّة، ولا يتأتّى لها ذلك إلّا إذا كانت تشكّل نسقاً متكاملاً يشدّ بعضه بعضاً، أو متى ازدوجت بالقيم التسليعيّة، أشاعت فيها الروح التي تحملها، أو أخضعتها للعقل الذي يميّزها. والثالث، أن تكون قيماً مغايرة في عقيدتها، بحيث لا تندرج في الجنس الاعتقاديّ الذي تندرج فيه القيم التي انبنى عليها الانتشار التسليعيّ؛ فمعلوم أنّ القيم التسليعيّة علمانيّةُ التوجّه، ماديّةُ التحقّق تؤدّي إلى إخلاد الإنسان إلى الأرض، فيلزم أن تكون القيم الدافعة للمفاسد التسليعيّة، على العكس من ذلك، قيماً إيمانيّة التوجّه، روحيةُ التحقّق تؤدّي إلى سير الإنسان في الأرض، معتبراً بالأشياء، ناظراً في عواقبها»[7].

وجملة القول في علاج العولمة، أنّه لا سبيل لدفع مفاسدها إلا بوضع أخلاقيّات قادرة على نقل انتشارها التسليعيّ الذي يخلد بالناس إلى الأرض، إلى إنتشار تقويميّ يرقى بهم  للسير فيها. وتحقّق ذلك ليس بالأمر السهل؛ إذ لا بدّ من تكاتف الجهود أفراداً وجماعات ودولاً.

-------------------------------

[1]- طه عبد الرحمن، سؤال العمل بحث عن الأصول العمليّة في الفكر والعلم، المركز الثقافيّ العربيّ، ط 1، 2012، ص: 209.

[2]- (م.ن)، ص: 210.

[3]- (م.ن)، ص: 213. 

[4]- (م.ن)، ص: 214.

[5]- (م.ن)، (ص.ن).

[6]- (م.ن)، ص: 217.

[7]- طه عبد الرحمن، سؤال العمل بحث عن الأصول العمليّة في الفكر والعلم، (م.س)، ص: 219-220.