-----------

الأسرة والمدرسة في مواجهة الرياح العاتية

{ ممدوح عز الدين }

الأسرة والمدرسة في مواجهة الرياح العاتية

تعتبر منظمة الصحة العالمية المراهقة مرحلةً عمرية تمتد على طول العقد الثاني من دورة الحياة، وهي مرحلةٌ قائمةٌ بذاتها وفريدة من نوعها، إذ تتشّكل خلالها المُقومات الجسدية والصحية والنفسية للإنسان..

وهناك اتفاقٌ بين المُختصّين على ارتباط المراهقة بالبلوغ، وهو حدثٌ فيزيولوجيٌّ مُتميزٌ وخطيرٌ، يتمثّلُ في اكتساب القُدرة الجنسية والإنجابية، وبالتّالي فهي مرحلةُ تحولاتٍ فيزيولوجيةٍ واضحةٍ، تُصاحبها تغيُّراتٌ في السلوك والمزاجِ، والنّظرةِ إلى العالم، حيث اعتبرها «سيغموند فرويد»، مؤسّسُ علم النفس التحليلي، «فترةَ شدّةٍ ومِحَنٍ».

أهمُّ مشكلٍ يُرافق هذه المرحلة يكمنُ في علاقة الأهل بأبنائهم، عندما يتوقفون عن معاملتهم عند البلوغ كأطفال، ممّا يُفقدهم امتيازات الطفولة، وفي الوقت نفسه يتردّدون في منحهم  أدوار الشباب أو الكهول، بحيث يضعونهم في منزلةٍ بين منزلتين: فهم ليسوا أطفالاً وليسوا كهولاً؟! وبالتالي، لا يحظون بأدوارٍ واضحةٍ ضمن المؤسسات الاجتماعية التي ينتمون إليها ويعيشون فيها.. وهنا تبدأ معالم التمرد والتململ والعصيان لدى بعض المراهقين، يكون من آثارها السلبية اختلالُ العلاقة بين الآباء والأبناء، الذي قد يتطور إلى أزمةٍ غير محمودة العواقب..

من هنا، يبرزُ الإشكال المرتبط بالمُراهقة، بين آباء لا يقبلون التنازل عن سُلطاتهم المطلقة على أبنائهم، وبين أبناء يتمرَّدون من أجل بناء هويةٍ فرديةٍ مستقلةٍ، وينشدون من خلالها اعترافًا ومكانةً وجاذبيّةً، ويبحثون عن هويّةٍ جماعيّةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ، ينتظرون من خلالها إجاباتٍ عن أسئلةٍ محيّرةٍ لديهم، عن معاني الوجود وأبعاده الروحيّة والماديّة، وعن المصير والاختيارات المُستقبلية، وبالتالي، فهي فترةُ بحثٍ عن توازنٍ نفسيٍّ ووجدانيٍّ مضطربٍ..

في الواقع، تبدو المراهقة كَعالَمٍ غامضٍ ومجهولٍ ومُحيّرٍ، وكثيراً ما يُصاب الأولياء بالقلق إزاء تغيّر تصرفات أبنائهم ومواقفهم في هذه المرحلة، وينتابهم الانشغال والحيرة من المسافة التي أصبحت تفصل بينهم وبين أولئك الذين كانوا بالأمس ينامون في أحضانهم، كأنهم لا يعرفون أبنائهم..!!  لقد أصبح ذلك الطفل اليافع، المُطيع والتابع، مُنجذباً بشكلٍ كبيرٍ نحو عالمِ الأقران، بعلاقاته وتحدياته، وفضائه الماديّ والافتراضي، وثقافته الخصوصيّة، عالمٍ خاصٍّ بصدد التشكّل بقيمٍ ورموزٍ غريبةٍ، ولغةٍ وأذواقٍ وتعبيراتٍ مختلفةٍ، عالمٍ لا يتوافق دائماً مع القيم السائدة، ومعايير السلوك المعهودة، ومُحدِّدات النجاح والإخفاق.

وما يُثير خوفَ الأولياء أكثرَ، هو نوازع المغامرة والتحدّي لدى أبنائهم المراهقين، وعدم تقديرهم للمخاطر، كما يضيقون بسلوك الإهمال، وعدم المبالاة التي تسود حياتهم في هذه المرحلة، والفوضى وعدم التركيز، بالإضافة إلى طلباتهم المُرهقة التي لا تنتهي، ومصاريفهم المشطّة، في الوقت الذي تتراجع فيه نتائجهم الدراسيّة، كما تقضُّ مضاجعَ الآباء، قصصُ الحُب الصغيرة.. حيث يقفون في النهاية عاجزين عن فهم ما يحدث ومايجري لأبنائهم..؟!

ومن مخاطر هذه المرحلة ما كشفت عنه إحصائيات منظمة الصحة العالمية من أرقامٍ مرعبةٍ: الانتحار يحتل المرتبة الثالثة من أسباب وفاة المراهقين، الاكتئاب هو السبب الأول في الأمراض والعجز، تليه الإصابات على الطرقات، كما أنّ نصف اضطرابات الصحة النفسية يبدأ في سنّ الرابعة عشر عاماً، وتبقى مُعظمُ الاضطرابات غيرَ مكتشفةٍ ودونَ علاجٍ..؟!

وفي تونس - على سبيل المثال - تُشير أغلب المؤشرات المتعلقة بالشأن التربوي، إلى بروز ظواهرَ جديدةٍ في المدارس والمعاهد التونسية، مثل تفشيِّ العُنف، واستهلاك المُخدرات، وتنامي ظاهرة الانتحار لدى التلاميذ، حيث بلغت 170 محاولة انتحار، وأكثر من 17000 حالة عنف في سنة 2017، وقد أثّرت هذه المشاكل بشكلٍ كبيرٍ على النتائج المدرسية، ونجاعة المنظومة التربويّة من حيث الجودةُ والاستمراريةُ، والأخطر من ذلك انقطاع قرابة 100 ألف تلميذ عن الدراسة سنويّاً، أي ما يُعادل 300 منقطعٍ يوميّاً.. إلخ. كُلُّ ذلك، يدخل في حالات التّمرد والضياع التي تُميّز هذه المرحلة الخطيرة من عُمْرِ الشباب..

ولكن، لنسألْ أنفسنا بصراحة: من يتحمَّل فعليّاً مسؤولية الأزمة الحادة التي يعيشها ويُعاني منها المراهقون في أوطاننا اليوم؟

إنّها أزمةُ قِيَمٍ في زمنٍ مُتغيِّرٍ

يبدو أنّ الأزمةَ في الأساس هي أزمةُ منظومةٍ قيميّةٍ، فمن أسَّسَ - مثلاً - لِسلوك الاتِّكال على الوالدين في كلّ شؤون الحياة؟ ومن رسَّخ ثقافة اعتماد الطُّرق المُختصرة، وقيم التحايل على الصعوبات، وشراء النجاح، وأولوية الربح السريع على الجهد والمثابرة؟ من كرّس ثقافة الكبت والنفاق الاجتماعي؟ من أشاع طباع التبجّح والاستعراض؟ من طبّع مع النميمة والحسد، والحقد والقذف العلني، والشتيمة ونشر أدران وأسرار المجتمع على شاشات الفضائيات وفي أوقات الذروة؟ من الذي كفّر عن غيابه وانشغاله عن أبنائه بمصروفِ جيبٍ سخيٍّ، وهاتف ذكيٍّ، وشاشةٍ تُشغل الأولاد وتملأ فراغهم؟

ماذا ننتظر من أبنائنا، وماذا قدّمنا لهم؟ وهم يُواجهون هذه المرحلة الخطيرة من حياتهم؟ وهل كنّا لهم فعلاً القدوة الحسنة؟ وهل قُمنا فعلاً بتدريبهم على كيفية مواجهة تحديات هذه المرحلة؟ 

الأسرةُ والمدرسةُ في خطرٍ؟

من هذه الوجهة، تبدو التغيّرات التي طالت مؤسّسة الأسرة، عاملا مفسِّراً وأساسيًّا لتراجع القيم، فهذه المؤسسة التربوية المهمة تُواجه رياح التغيير العاتية، وتتضاءل باطِّراد قُدرتها على الضبط الاجتماعي، كمــــا يـــــَنزاحُ موقعها في نسق التنشئة الاجتماعية والثقافية بوتيرةٍ سريعةٍ، لتحلّ محلّها مؤسساتٌ أخرَى، تُنازعها مكانتها في انتقال وتناقل المعارف والقيم، والعادات والتقاليد، وتوجيه الناشئة واحتضانهم. فجماعاتُ الأقران والأصدقاء المباشرين والافتراضيين، أصبحت تكتسب قوّةَ تأثيرٍ متعاظمةً بين الأطفال والمراهقين، وهي تُنتج ثقافةً فرعيةً خصوصيّةً، تتعارض مع القيم السائدة، وتفرض قيمًا جديدةً قد ترسّخ سلوكياتٍ غيرَ سويّةٍ..

من هنا تضاعفت المخاطر التي تُواجه المراهقين في هذه المرحلة، أمام تهاوي أسوار مؤسسة الأسرة، الـــــتي كانت تشكل الحماية والحصن لهم أمام الرياح العاصفة للمراهقة..؟؟

من جهة أخرى، تعيش المؤسسة التعليمية أزمةً عميقةً، من خلال تراجع مستوى التلاميذ والقائمين على تدريسهم، ونوعية المناهج المعتمدة، والضرر الذي أصاب مكانة المدرسين وصورتهم، وافتقادهم لرمزيّتهم وسلطتهم المعنوية، وضُمور وظيفتهم التربوية.

يُضاف لما سبق، شبكة الإنترنت، التي بدأت تختطف فيها مواقع الإنحراف والشذوذ الفكري والتطرّف الديني مراهقينا، كما تُفسد مواقع الجنس الرخيص توازنهم النفسي، وتزرع في شخصياتهم خيالاً مريضًا وتمثّلاتٍ جنسيّةً مشوّهةً..!!

إنّ مجتمعاتنا بحاجة إلى حركةٍ إصلاحيةٍ، تُعيد أولا تفعيل دور الأسرة المهم والخطير على الصعيد التربوي والتوجيهي، كي نُؤسّس لمشروعٍ مجتمعيٍّ جديدٍ، وهي مسؤولية الجميع وواجب النُّخب والمُربّين بدرجةٍ أولى، إنّنا بحاجة إلى إيجاد منظومةٍ قيميّةٍ وأخلاقيّةٍ فاعلةٍ وحيويةٍ، تقطع مع أخلاقيات الرداءة والنفاق، وسلوكيات الابتذال والتعصّب، وتؤسّس للتفكير السليم وللإبداع، والتدريب على سلوكٍ قائمٍ على التّلازُم بين الحق والواجب، والحريّة والمسؤولية، ونقد الآخر ونقد الذات في  الوقت نفسه، وخاصّةً التلازم بين الصدق في القول والإخلاص في العمل، وهذه المنظومة الأخلاقية لن تعرف طريقها الى الواقع العملي إلا بحرصنا  على أن نكون قُدوةً حسنةً لأبنائنا، ونُحسن التعامل معهم، فمن أراد أن يكون سيّداً متسلطًّا في بيته سيربِّي عبيدًا للآخرين..

وأخيراُ، إنّها مسؤولية الآباء والمُربِّين، ففي فضاء الأسرة والمدرسة سيجدُ المُراهقون الحبل الممدود الذي سيُعيدهم إلى شاطىء الأمان، بعد مُواجهة أمواج المراهقة العاتية..