-----------

المراهقة مسؤولية لا أزمة

{ د. طلال عتريسي }

المراهقة مسؤولية لا أزمة

تعتبر الدراساتُ في مجال التربية وعلم النّفس وفي علم النّفس التربويّ بشكلٍ خاصٍّ، المراهقةَ مرحلةً من مراحل العمر التي تعقب الطفولة وتسبق سنّ الرّشد, بحسب تقسيم هذه الدّراسات لعمر الإنسان.

وتربط هذه الدراسات النفسيّة والتربويّة بين المراهقة وبين “الأزمة” التي يتمّ التعبير عنها بالتمرّد، والرّفض، والضّياع، وعدم المسؤولية، والبحث عن الذّات، ورفض السّلطة العائليّة، وغير ذلك ممّا يعني أنّ هذه المرحلة هي مرحلةٌ غيرُ عاديّةٍ من حيث رفضُ المجتمع، ورفضُ القيم، والتمرّدُ، والاستغراقُ في قضايا اللهو والعبث...

وتؤكد هذه الدّراساتُ من ناحيةٍ ثانيةٍ على التّلازم بين التحوّلات الفيزيولوجيّة التي  تتّصف بها هذه المرحلةُ وبين مؤشِّرات «الأزمة» التي أشرنا إليها. وبما أن التحوّلَ الفيزيولوجيَّ هو أمرٌ حتميٌّ وطبيعيٌّ يمرّ به كلُّ إنسانٍ، تصبح المراهقةُ ومواصفاتُها أيضاً أمراً حتميّاً لا بدّ وأن يمرّ به كلُّ إنسانٍ منذ بداية الخليقة إلى اليوم. ولا بدّ أن يكون الإنسانُ في كلّ الشعوب وكلّ الحضارات قد عرف هذه المرحلة من الأزمة ومواصفاتها السلوكيّة التي تؤكّد عليها الدراسات الغربية في التّربية وعلم والنّفس..

لكنّ التدقيقَ الثقافيَّ والمنهجيَّ في هذا التقسيم لمراحل العمر من جهةٍ وللمواصفات السلوكيّة «للمراهقة» من جهةٍ ثانيةٍ، يسمح لنا برفض مثل هذه الأطروحة الشائعة في الدراسات النفسيّة والتربويّة، للأسباب التالية:

لأنّ المجتمعَ الأوروبيَّ نفسَه لم يعرف هذه  الظاهرة في القرون السابقة على التصنيع والتحديث. فقد كان المجتمع يحتضن الشابِّ عند البلوغِ، ويتيح له أن يلتحقَ بالفرسان والخيّالة، ويمارسَ دورَه الاجتماعيَّ، فلا يعيش حالة انفصالٍ أو تمرُّد على المجتمع. ما يعني أن ظاهرة «المراهقة» والأزمة التي رافقتها، هي ظاهرةٌ حديثةٌ نتجت عن تحوّلاتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ واستهلاكيّة في أوروبا، ولا يمكن اعتبارها ظاهرةً إنسانيّةً كما تريدنا تلك الدّراسات أن نتعامل معها.

لأن التغيّرات الفيزيولوجيّة مثل نموّ شعر الوجه، أو تغيّر الصوت، أو اضطراب الهرمونات وتبدّل وظائفها.. هي تغيّراتٌ حتميّةٌ، وهي بهذا المعنى سنّةٌ من سنن الله في خلقه... فحتمية التغير الفيزيولوجيّ والجسديّ لا تتأثر بلون الشخص ولا بمعتقده، ولا بالمجتمع الذي يعيش فيه إذا كان متقدّماً، أو صناعيّاً، أو زراعيّاً....

لأنّ المواصفاتِ النفسيّةَ والاجتماعيّةَ لا تخضع للحتمية نفسها التي تخضع لها التغيّرات الفيزيولوجيّة، وهي ليست سُنّةً كونيّةً، وليست قدراً لا يمكن الفرار منه.. بل هي نتاجُ بيئةٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وتربويّةٍ معيّنةٍ، فإذا تغيّرت هذه البيئةُ تغيّرت ردود فعل الإنسان.

لو كان الترابط حتميّاً بين المراهقة وبين الأزمة السلوكيّة لكان علينا أن نلاحظ وجود هذه «الأزمة» عند البلوغ منذ  بداية الخليقة إلى اليوم. ولو كان هذا الافتراض صحيحاً وواقعيّاً لكان علينا أن نقرأ عن الإنسان الأوّل كيف تمرّد على أسرته، وكيف كان يبحث عن الإستقلال، وهذا لم يحصل طبعاً، ولم تخبرنا عنه سيرة الإنسان على اختلاف رُواتها. كما أنّ الدراساتِ الأنتروبولوجيّةَ تؤكّد أنّ المجتمعاتِ غيرَ الأوروبية لم تعرف مثل هذه «الأزمة» في هذه المرحلة من العمر.

إنّ سمات المراهقة وأزمتَها النفسيّة والإجتماعيّة لا ترتبط بالنموّ الفيزيولوجيّ، بل بالإطار الفكريّ والأخلاقيّ والقيميّ الذي يحيط بالمراهق، ويؤثّرعلى رؤيته إلى نفسه وإلى رغباته، وعلى نظرته إلى علاقاته مع المجتمع ومع الآخرين. 

بهذا المعنى تُعتبَر «المراهقةُ” بمواصفات “الأزمة” التي تتحدّث عنها الدراسات التربويّة والنفسيّة، خصوصيّة أوروبيّة، أفرزها المجتمع الأوروبيّ وحضارته المعاصرة، التي ساهمت في توليد أزماتٍ إنسانيّةٍ أخرى مثل أزمة الشيخوخة، وأزمة المرأة، وأزمة الطفولة، ومشاكل الإدمان والانتحار...

 إنّ المنظورَ الإسلاميَّ لمراحل العمر يختلف تماماً عن ذلك الذي تحدّثت عنه الدراساتُ الغربيّةُ. فما يُسمَّى المراهقةَ هو في الإسلام بداية البلوغ. والبلوغ يعني بدايةَ تحمّل المسؤولية لا بدايةَ العبث أو الضياع. ولذا يبدأ إعداد الإنسان قبل هذه المرحلة لكي يستعدَّ لتحمّل المسؤولية وللتعرّف على ما يجوز وما لا يجوز فعله، أي على الحلال والحرام.

ليس البلوغُ في النظام العقيديِّ الإسلاميِّ بدايةً لما يُسمَّى المراهقةَ، وهو ليس أزمةً على الإطلاق، بل هو حدٌّ فاصلٌ بين مرحلتين: التكليف وما قبله. بين الاستعداد لهذا التكليف وبين بداية ممارسته وتحمّل مسؤولياته.

والتكليف مفهومٌ إسلاميٌّ خاصٌّ، لم تعرفه أيٌّ من الشعوب والحضارات، ولم تتحدّث عنه أيٌّ  من الدّراسات في العلوم الإنسانيّة الغربيّة، لأن هذا المفهوم يرتبط بنظرة الإسلام إلى الإنسان وبدوره في تحمّل المسؤولية، وفي رحلته نحو الكمال “يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه» (الانشقاق 6). وهذا يختلف تماماً عن مفهوم المراهقة الغربيّ، الذي أنتجته ثقافةٌ معيَّنةٌ، وتجربةٌ حضاريّةٌ معيَّنةٌ، لا يمكن اعتبارها المرجعية الوحيدة في فهم الإنسان، أو في شرح تحوّلاته ومراحل العمر التي يمرّ بها.