تشغل ظاهرة التديّن عموم الشّعوب، نظرًا إلى تعقّد هذه الظاهرة وارتباطها بثنائيات: المُقدّس والدنيوي، والنقل والعقل، والتراث والحداثة. ورّغم ذلك، فإنّ ما نشهده في العالم اليوم، من تضخّم مَرضيٍّ للمصلحيّة والرّبحيّة / النفعية على حساب القيم الإنسانيّة الحقيقيّة المُتحكّمة في منظومات الفهم والسلوك والاستهلاك، ضمن خلفيةٍ مُشوّهةٍ ومُصطنعةٍ لمطالب أصيلةٍ في الذات الإنسانية، وراسخةٍ في التجارب المجتمعيّة والحضارات والثقافات. ويكشف التحليل لهذه المسألة عن خلل كبير، يتمظهر في غياب مرجعيةٍ قيميّةٍ وأخلاقيةٍ وروحيّة، متوازنةٍ وسويّة، يمكنها أن تمثّل الإطار النظريّ لضبط حركية الوجود الإنسانـي اليوم..!
أوّلًا: من الدّين إلى التديّن:
وانطلاقًا ممّا خلُص إليه بعض علماء النفس، من أنّ الحاجة إلى الدين مرتبطةٌ أساسًا بالقدرة على الاستجابة لاهتمام الإنسان بمسألة المصير والهدف من الحياة الإنسانية، وهي المعضلة التي لم تجد إلى اليوم «الجواب الشافي» لها، في الأيديولوجيات المادية. فإنَّ من الأكيد أنّ الدّين هو الوحيد المؤهل لتقديم الجواب عن هذا السؤال المصيري.. وهذا ما يؤكده أحد المفكرين الغربيين عندما يقول: «لن نُخطئ لو خلصنا إلى أنّ فكرة عَزو هدف إلى الحياة، لا تُوجد إلا تبعًا للمذهب الدّيني»[1].
لذلك، عبّرت الإنسانية في الأديان عن حالة الوعي بهذا «الموضوع الأسمى»[2]. فكان التديّن من حيث هو، بحثٌ في الحقّ، ورغبة في الوصول إلى الحقائق المطلقة، وسعيٌ لتحقيق الانسجام بين مطالب الإنسان المادّيّة والمعنويّة المجرّدة، والرّوحيّة المُتخلِّقة.
ثانيًا: حيرة العلم وفشل الاستهلاك في تحقيق السعادة
إذا كانت الحضارة الغربيّة وحداثتها اليوم تفرض سطوتها على تصوّر الإنسانيّة للوجود والمعرفة والقيم الأخلاقية، فإنّ هذا يتطلب تحديدًا دقيقًا للمشروع الفكري الحداثي في مرجعياته الغربيّة، والنظر في مدى استجابته بأمانة للشعارات التي رفعها.
فقد جاءت النهضة والحداثة الغربيّة كلحظةٍ قطعت فيها أوروبا مع أوضاعٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ سيّئةٍ عاشتها الثقافة الغربيّة، وبحجّة إحياء الإنسان، عبر جعل العقل سيّدًا وموجّهًا له، في بناء تصوّراته عن نفسه وعن الوجود. وبسبب ردّة فعل عن الدور السيّئ للكنيسة في القرون الوسطى، جاءت العلمانيّة – المادية لتقدم نفسها كبديل، حيث عمل من خلالها الإنسان الغربي على إنتاج أنظمته الفكرية والقانونية والاجتماعية بعيدًا عن الكنيسة، لينتهي به المطاف إلى الوصول إلى حداثةٍ مادية، حيث تمَّ الإعلان فيها عن «موت الإله» أوّلًا، ثم تلاها إعلان «موت الإنسان» ثانيًا!! هذا الإنسان الذي تحول إلى آلة للإنتاج والاستهلاك، بعدما توهّم - حينًا من الدّهر - أنّه صاحب الأمر والنهي في مملكة الوجود..!!
وإذا كان إفلاس الحداثة والعلمانية على مستوى عجزها عن ملء الفراغ الرّوحـي، قد بدا واضحًا، فإنّ إبعادُ الدّين والتديُّن من حياة الشعوب والأفراد قد جعل من الإنسان الغربي المعاصر إنسانًا مشوّهًا، بعدما فشل في إقامة التوازن بين المطالب الماديّة للحداثة، والنوازع الرّوحيّة الإيمانيّة الغيبيّة.
أما البديل الذي استندت إليه الإنسانيّة الغربيّة، والمتمثّل في اعتماد العلم والمنهج التجريبي أساسًا ومنطلقًا لكلّ تصوّر، فقد انتهى به المطاف إلى العجز عن تقديم أجوبة دقيقة ونهائيّة على العديد من الأسئلة المصيرية. وظلّ السؤال المُحيّر عن معرفة الإنسان لذاته، باعتباره سُؤال الأسئلة، محيرًا!! بعدما عجزت سائر العلوم عن الإجابة عنه. الأمر الذي دفع العقل الغربي إلى التفكير في إعادة النظر في مدى جدارة العلوم على الاستجابة لمطالب إنسانيةٍ نوعيّة لم تقدر على بلورتها إلى الآن.
ثالثًا: الحاجة الى الإيمان
إنّ الإنسان ليس كائنًا ذا بُعدٍ واحد، هو البُعد الجسدي والمطالب الماديّة فحسب، بل هو جملة من الملكات والقوى غير الحسيّة أيضًا. وهو يختلف عن سائر المخلوقات بكونه كائنًا نوعيًّا يتفرّد بقيمة العقل النظري والعملـي، وغياب هذا التصور جعل مفهوم العقل والعقلانيّة يتشوّه في الحداثة الغربيّة المادية، لأنها انحازت إلى تصوّرٍ مادي تجريبي لدور العقل، في مقابل التغافل عن أبعادٍ أخرى للعقل والتعقّل، ليست بالضرورة ماديّةً وحسيّة.
إنّ الحضارة الغربيّة الحديثة عندما رفعت من شأن التقدّم العلمي والصناعي، وجعلت الرفاه الاقتصادي واستهلاك البضائع هدفًا نهائيًا لها، لم تستطع سوى تلبيّة جوانب مادّية محسوسة للإنسان، بينما عجزت عن تحقيق السعادة الحقيقية وراحة النفس وطمأنينتها، لأنّها اعتبرت الإنسان مجرد كائنٍ مادي يكفي أن يُلبِّي مطالب جسده وغرائزه، ليحقق غايته في السعادة والشعور بالأمان الروحي..
وهكذا، وجدت الحضارة الغربية نفسها أنها أمام إنسانيّة عبثيةٍ – عَدميّة، تعيسةٍ وحائرة، معذّبةٍ وفاقدةٍ للمعنى والأمن والأمان، وقد تحوّل الإنسان معها إلى سِلعةٍ وبضاعة، وحيوانٍ مستهلكٍ لما يُنتج من بضائع لا نهاية لها، وأضحى الناس مجرّد أرقام صمّاء..
كلُّ ذلك بسبب اسْتبعاد الحضارة الغربيّة، ودينها الجديد (الحداثة العلمانية)، المطالبَ الرّوحيّة والغفلة عن نداء الإيمان.. لقد نسيت مقاصد الحياة والغاية من الوجود: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: الآية 67]. فكانت النتيجة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: الآية 124].
إنّ ما نشهده اليوم في المجتمعات التي تخلّت عن الإيمان والالتزام الديني، من تفشٍّ لظواهر الانتحار والعنف، والاغتصاب والإدمان، والأمراض القاتلة.. إلخ، لهو خيرُ دليلٍ على ما بلغته الحضارة الغربيّة من أزمةٍ وجوديّة، تدلّ على ضياع وحيرة الإنسان اليوم، وضبابية تصوُّره لقيمة الدّين ودور الإيمان القادر على تحقيق التوازن المفقود ضمن قاعدة الاعتدال والوسطيّة: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الفرقان: الآية 29]. فهذه القاعدة من شأنها إيجاد التوازن بين مطالب الروح والجسد، كما تضمن عقلانية التديّن، لتحقيق رسالة الدّين الإنسانيّة، وحماية المتديّنين من الانزلاق نحو التطرّف والتعصّب، والغرائزيّة والتقليد الأعمى..
------------------------