«الدين والتحديات الفكرية عند الشباب» عنوانٌ يحتاج إلى تفكيك، إذ إنّ واحدةً من أهم أزماتنا الثقافية هي أزمة المصطلح.
عندما نتحدث عن الدين نتحدث عن منظومةٍ كاملةٍ وليس عن بُعدٍ طقوسي، فالدين يشمل البُعد النظري والرؤية الكونية، وأسسها الفلسفية والبرهانية، وكذلك المرجعيات المعرفية، ويشمل البُعد العملي أي المنظومة التشريعية والأخلاقية ونظام العلاقات العامة. ووظيفة الدين في بُعدَيه هي صناعة الإنسان. والإنسان وظيفته تسخير الطبيعة. وليس الدين هو الواسطة بين الإنسان والطبيعة، إنما الإنسان هو الواسطة بين الدين والطبيعة.
أما الفكر، فبحسب التعريف المنطقي، هو حركة العقل بين المجهول والمعلوم. وكلما كان المخزون المعرفي للمعلوم كبيرًا، اتسعت دائرة الخيارات في عملية التفكير. والواقع أن السبب الرئيس للتقليد هو انعدام المعطيات المخزونة في الوعاء المعرفي، بحيث يصبح الإنسان عبدًا لما تربى عليه أو شاهده، أو خائفًا من نيل العقوبة بمخالفته.
وعليه، فإنّ أول شرط من شروط التفكير، ليس ايجاد دينامية الحركة بين المعلومات، لأنها أمرٌ تكويني. فبمجرد أن أواجه أمرًا مجهولًا سيتحرك عقلي وذهني بشكلٍ تلقائي نحو الملفّات المخزونة. وإذا ضاقت دائرة المعطيات في هذه الملفّات، ضاقت حريتي في التفكير. وبالتالي، فإن الفكر سيكون حرًا بمقدار سعة المعرفة.
هذا المخزون المعرفي قد يكتسبه الإنسان من خلال السمع والابصار والأفئدة، كما ينص القرآن الكريم[1]. والأفئدة قد تتضمّن الميول الفطرية والمدركات الأولية التي تشكّل الاستعدادات القبلية والمعايير السوية كعدم اجتماع النقيضين، حب الخير، حب الحق، حب الجمال، طلب الأمن والطمأنينة، حب الاستطلاع والبحث، والشعور الديني، الذي يصرّ الشيخ مرتضى مطهري على أنه معطى فطري. وهذا الشعور الديني هو الميل نحو العبادة، والميل نحو الخضوع، لذا كلما اقترب الإنسان من فطرته اقترب نحو التعبّد أكثر، وكلما ابتعد عن فطرته اقترب من تأليه نفسه أكثر.
نموذجان طرحهما لنا القرآن الكريم: فرعون الذي هو ممسوخ الفطرة، والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله نبي الفطرة. هذا الفرق بين الاثنين يكمن في أن النبي صلى الله عليه وآله أدرك فقره لشدّة علمه. أما فرعون فقد غفل عن فقره لشدة تكبره، فليس الفقر هو النقص، إنما الجهل به هو النقص.
وأما الشباب، فهو العمر الذي يتميّز بخصالٍ ثلاث: الأولى، الطاقة ومنها تأتي الحيوية والبُعد الثوري. والثانية، الأمل. أما الثالثة، فهي الابداع.
واذا أردنا أن نبحث عن التحديات التي تواجه الشباب يجب أن نبحث عن التحديات التي تواجه هذه الأركان، ولماذا يتمرّد؟ ولماذا يرفض؟ ولِمَ يريد الاستقلال؟ والجواب هو: إما أننا لا نواكبه في الحركة، وإما أننا نمنعه من أن يحلم، وربما نضيّق عليه فرص الإبداع.
علاقة الشباب بالدين
تحديات
1- قصور التربية التقليدية عن إشباع الحاجات المعرفية.
2- كيفية التوفيق بين الميل نحو التدين ونمط العيش المفروض.
3- الخلل في العدالة الاجتماعية في مجتمعاتنا.
4- ابتعاد المناهج التربوية عن محاكاة أسئلة الشباب.
5- الغشاوة في معايير المرجعيات الآمنة لفهم الدين.
6- قوة منصات التسطيح الفكري.
7- ضعف الميل إلى التفوق والإبداع العلمي.
معالجات
1- تكثيف المضمون المعرفي الديني اعتماداً على المصادر الآمنة.
2- الانتقال بالمنهج التبليغي من نقل المعلومة إلى نقل المنظومة.
3- إعادة النظر في المناهج التربوية وإتاحة هامش أكبر للطلاب في التعبير.
4- تنشيط المنصات التواصلية الواقعية في أماكن ارتياد الشباب.
5- إعطاء الأولوية للأعمال الفنية لنقل الحقائق الدينية.
6- الإغراق الثقافي والمعرفي للساحة الشبابية.
7- الترويج لنجوم نموذجيين ممثلين للدين الأصيل.
8- العمل على إيجاد بيئة حاضنة لتطبيق الدين.
تحدّيات علاقة الشباب بالدين:
التحدي الأول: هو قصور التربية التقليدية عن إشباع الحاجات المعرفية والإجابة عن الأسئلة الوجودية، في بيئة التأثّر والانبهار بتطور العلم والاكتشافات الحديثة والثورة الرقمية. بحيث ينشأ صراعٌ وهميٌ بين عظمة العلم والحقائق الدينية، ويزيد الصراع حدّة التعامل مع الأسئلة المشروعة كمحرّمات مخالفة للتعبد والتدين. بعض الأشخاص ممن أعتبرهم مثقفين جدًا وهو قارئ جيّد وإعلاميّ ناجح صارحني قائلًا: «أظن أن الذي مال بي نحو الإلحاد، هو أن الدورات الثقافية التي كنا نتلقاها في المراحل الابتدائية، صوّرت لنا أن كل سؤالٍ يمكن أن يُسأل قد سألتموه عنا. ولكن عندما خرجنا لكي نواجه أسئلةً جديدةً أحسسنا بانعدام الثقة بإجاباتكم (حتى لو كانت حقيقية)». لكن لا يجب، بل لا يوجد محرم بالسؤال.
قد أربّي حسّ المعرفة التدريجية عند الشاب، قد أجيبه إجابةً ويكتشف أن مدركاتِه ليست جاهزةً لتلقيها. في عملية التبليغ، هناك ثمة أوقاتٌ يؤخذ فيها على عالم الدين أنه يتكلّم لغةً حوزوية. أنا أخالف هذا الرأي، فبعض الأسئلة لها مناشـئ أعمق من الفطرة. يعني أنها قائمةٌ على إشكال فلسفي. يمكن للأسئلة البسيطة التلقائية أن يجاب عليه إجاباتٍ وجدانيةً مباشرة. ولكن الأسئلة التي رُكبت لنا مـن خلال المدارس الفكرية المتتالية، ثم تلقاها الشاب من الإنترنت وألقاها علينا، عندئذٍ نحن لا نجيب الشاب، بل نجيب ماركس أو دوكينز أو هوكينغ مثلًا. نحن نجيب المنظّر لهذه الفكرة. ربما لن يستفيد الشاب شيئًا، لكن بالحد الأدنى فليعلم أن في الدين إجابةً، هو يحتاج إلى مقدمات لفهمها. وليس سياسةً عامة. ولكي لا نغرق كثيرًا في التعامل مع الدين على أساس أنه مقابلة تلفزيونية أو وجبة سريعة.
التحدي الثاني: هو تحدي التوفيق بين الميل نحو التدين ونمط العيش الذي تفرضه منظومة القيم الوافدة مع النموذج اللاديني، وبالتالي اختلالٌ في معايير القبول والرفض بين العقائد والرغبات. إذا أردنا أن نعرف الحرب الناعمة يمكن اختصارها بكلمتين هي «إدارة الإرادة».
الحرب الناعمة لا تقول لك إنّ منظومتك ساقطة. إنها تقول لك قم بما تريد ولكن عليك أن تحب ما أريده لك. لا أحتاج إلى قهرك ولا إلى إقناعك ولا إلى تحرير مفاهيمك. ليس ثمة منظومةٌ مقابلنا وتحاوِرُنا. بل هناك منظومةٌ تؤثّر في اتجاهاتنا النفسية. ثمّ نبحث عن مبرراتٍ نظريةٍ لكي نبرر سلوكنا.
كثيرٌ من قناعاتنا نكوّنها لتبرير سلوكيّاتنا. أعطيكم مثالًا بسيطًا عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول: «الفقر فخري»[2]. لنرَ كيف يتعامل المؤمن مع الفقر.
ابني وابنتي عندما يذهبان إلى الجامعة يكونان محرجَين في حال لم تكن ملابسهما متميزة. الواقع أنه حتى بين الأطفال الصغار يدّعون أن أباهم ذهب ليشتري لهم. لماذا؟ فلماذا نربي أطفالنا على مفهوم «العيب» إذا لم نكن نملك المال. لقد جاء من النموذج الذي صنع رغباتنا. يكمن في منظومة الأفلام الهوليودية.
تقوم الحياة في الأفلام على أساس الثراء الفاحش، والـفقر مقترن باتساخ البدن وقبح الوجه.
التحدي الثالث: هو الخلل الهائل في العدالة الاجتماعية في المجتمعات الدينية بالمقارنة مع المجتمعات المقابلة. وتكثيف الاتجاه الاتهامي نحو مسؤولية الدين في هذا الخلل، من قبل المستغربين.
نحن الآن نعيش خللًا كبيرًا في منظومة العدالة الاجتماعية في المجتمعات الدينية. لا يصحّ أن نطلب من الفقير أو المظلوم التفكير بالأسباب التاريخية. الأولى أن نساعده بتسليط الضوء على النموذج القيادي الذي يواسيه.
الرابع: تحدي النموذج أو ما نسميه بالغشاوة في معايير المرجعيات الآمنة لفهم الدين. جلست مرةً مع طبيب ظننت أن لديه مشكلةً اجتماعيةً، ثمّ تبيّن أن لديه أسئلةً عقائدية. الأزمة الرئيسية التي اكتشفتها أنه يثق بشخصياتٍ نتيجة حُسن مظهرهم وانضباط سلوكهم، ويتعامل معهم على أساس أنهم مرجعياتٌ فكرية.
البديهي أنه كما أنّك لا تثق بطبيب الصحة العامة أو بطالب السنة الثالثة في الطب لكي يقوم بعملية قلبٍ مفتوح، عليك أن لا تثق بمن لا يملك أهلية فهم الدين بأدواته، خاصةً في ظلّ أزمة معرفة المرجعيات الآمنة.
الخامس: قوة منصات التسطيح الفكري. التي تهدف إلى عزل الشباب عن الانتماء من خلال عنصر جاذبية الإثارة. والسرعة هي إحدى أهم تحديات الشبب في زماننا، يمكن قياسها على أساس فكرة الوجبات السريعة أو «الـفاست فود». إذ يأتيك شخصٌ لديه أسئلة عمرها 15-20 سنة، ويريد الإجابة عليها في نصف ساعة. الواقع أنّ الوجبة السريعة تسبب لك الحرقة، فتتوهّم بأنك شبعت، لكنها تضرّك وتزيدك سمنةً وكلسترولًا.
إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق. واحترام التدرّج سنّةٌ إلهية. الجاذبية والسرعة وبالتالي كل شيء سيكون جاهزًا. ونظام الـ«دلفري» هذا يؤثّر على نمط الحياة. صحيحٌ أننا نراه من عدسة الرفاهية، لكنه أيضًا في الخلفيات الذهنية والفكرية يؤثر في تناول الحقائق التي قــد يحتاج الإنسان أن يقضي عمره فيها. لقد عاش سلمان الفارسي أكثر من 250 سنةً وهو يبحث عن الحق.
الواقع أن منصات التسطيح هذه مقصودة، إن اكثر البرامج التلفزيونية مشاهدةً هي الأقل كلفةً على مستوى التفكير وهي الأكثر جاذبيةً وإثارة.
السادس: ضعف الميل إلى التفوق والإبداع العلمي كسلطان من ملكه صال به ومن فقده صيل عليه، كما ورد في الحديث عن الإمام علي عليه السلام. ثمة أزمة حقيقية هي من التحديات الفكرية لدى شبابنا، وهي أنهم لا يملكون رغبةً في التفوّق. يجب أن نربّي مجتمعنا على أساس أنه متفوّق في كل ما وهبه الدين، وعليه أن يتفوّق فيما يجب أن يهبه للدين. كل شيء أتانا من الدين لا يملكه غيرنا، لكن الشاب ماذا يمكن أن يقدّم من نموذجية لجذب الناس نحو الدين؟!
مجموعة من المعالجات والمقترحات:
أولًا: تكثيف المضمون المعرفي الديني اعتمادًا على المصادر الآمنة. نحن حتى الآن لا نملك سلة مطالعةٍ هادفة. هناك شباب يأتي من الخارج ليتعرف على الدين وهناك شباب متديّن ولكن يريد التعمّق أكثر في الدين. إذا أمسكنا الماء عن الناس ولم نوجد لهم ما يشربوه نكون قد زدناهم رهقًا. هناك جهدٌ جبارٌ لتطويع النصوص الدينية الأصيلة. ولإخراجها بشكل جيد وجعلها سهلة التناول.
ثانيًا: تدريس المعايير والمناهج في الانتماء مع المفاهيم والمعطيات. يعني الانتقال بمنهجنا التبليغي من نقل المعلومة إلى نقل المنظومة. وعليه يجب أن تعلّم الناس كيف تفكّر وليس أن تعطيهم مادة التفكير فقط. في زمنِ توفُّر المعطيات أنت لا تقدم قيمةً مضافة. بل تقدّم قيمةً في كيفية النظر. نحن في زمن الـ «كيف» وليس زمن الـ «ماذا».
ثالثًا: إعادة النظر في المناهج التربوية وإتاحة هامشٍ أكبر للطلاب في التعبير. وذلك لتنمية حسن التفكير الحر والإيجابي قبل أن تسبقكم إليه المرجئة. وإذا لم يسألنا نحن قد يقدّم له غيرنا إجابات خاطئة.
رابعًا: تنشيط المنصات التواصلية الواقعية في أماكن ارتياد الشباب. ويمكن ذلك من خلال إقامة الندوات في القهوة أو «الكافييات».
خامسًا: إعطاء الأولوية للاعمال الفنية، سينما، تلفزيون – مسلسلات، مسرح، رسم، رواية، شعر... لنقل الحقائق الدينية. وهذه هي الأكثر رسوخًا.
سادسًا: الإغراق الثقافي والمعرفي للساحة الشبابية. لقد احتلنا الغرب بالطباعات وطوّر استعماره لنا بناءً على ردات فعلنا.
سابعًا: صناعة أو الترويج لنجوم نموذجيين ممثلين للدين الأصيل.
ثامنًا: العمل على إيجاد بيئةٍ وسلطةٍ محليّةٍ لحضانة تطبيق الشريعة، إذا لم تتوفّر السلطة بمعنى الدولة. لن نستطيع إقناع الشباب بخياراتنا الدينية إذا لم نقدّم لهم نموذجًا حسيّا، ولكن بصيغة مجتمع.
-------------------------------