لطالما شغل سرُّ الحياة فكر الإنسان، وفي خضم هذا الانشغال الفكري تتولّد الأسئلة، وكلما تعمّق نظر الإنسان في الكائنات المتعدّدة المحيطة به تزيد دهشته، وقد عرف التاريخ الفكري للحضارة البشريّة نوعين من الفلسفة: الفلسفة الإلهيّة، التي ترى أنّ هذا العالم يدُّل عن وجود خالق له، والفلسفة الماديّة التي أرجعت وجود العالم إلى الصدفة أو الانفجار الكوني للمادة الأولى، وكيفما كان، فلا حاجة إلى فرضيّة وجود خالق!؟
وقد آمنت الفلسفة الماديّة بالمنهج التجريبي، المبني على الملاحظة الحسيّة، كطريق حصري لاكتشاف الحقائق، وأدخلت العلوم التجريبيّة في دائرتها قصراً، لتصطنع حالة من التناقض بين العلم والدين، وفي هذا السياق من صراع الثُّنائيّات، أُدخِل علم الأحياء (البيولوجيا) إلى ساحة الصراع المفترضة بين العلم والدين، حيث تمّ تصوير البيولوجيا على أنها علمٌ لا ديني، وقد نالت نظريّة التطوّر الحظ الأوفر في ذلك.
لقد حاول أصحاب نظريّة التطوّر، التأكيد على أنَّ العلم في مواجهة الدين، في حين نجد العلم في الحقيقة في مواجهة العلم نفسه، وقد، ترك التوظيف الأيديولوجي بصمته على هذه النظرية عندما استعلمت كدليل على نفي وجود الخالق، لاسيما بعد تطورها في ظل الاكتشافات التي حصلت في ميداني الوراثة والبيولوجيا الجُزيئيّة، أو ما عُرف بالداروينية الجديدة.
إنّ الحُكم على أيّ علم تجريبي، ومن ضمنه البيولوجيا، بكونها علماً لا دينياً، يكون بتناول هذا العلم بالدراسة من أبعاد ثلاثة، التاريخي، والمنهجي، والبنيوي، وفي مُعالجتنا لنظريّة التطوّر، سنركز على البُعد الثالث، الذي يعني النظر في هندسة العلم، لمعرفة مدى انسجامه الداخلي، وعدم تعارضه مع أدلة علمية أخرى، تقود إلى نتائج مُغايرة، وبعدها نُصدر الحُكم النهائي، هل هو ديني أو لا ديني.
لم تُفلح الداروينية بأشكالها المختلفة في الدفاع عن نفسها، ليس أمام الإشكالات التي أثارها المُتدينون، بل أمام وجهات النظر العلمية الأخرى المقابلة لها، والتي تقود إلى نتائج مُغايرة، تُبطل أُسس الداروينية، خصوصاً القول بالطفرة العشوائيّة والنُّشوء الطبيعي التّدريجي.
أولًا: الصّدفة والطّفرات العشوائيّة
يتكوّن جسم الإنسان من نوعين من الخلايا، الخلايا الجسميّة التي تبني مُختلف أنسجة الجسم وأعضائه، والخلايا الجِنسيَّة، ومهمتها تحقيق التكاثر. وكل خلية جِسمية وجِنسية تحتوي على مادة وراثية تسمى (DNA)، محفوظة داخل نواتها. وهذه المادة الوراثيّة تحمل جميع المعلومات اللازمة لبناء الجسم، حيث يتمّ ترجمة هذه المعلومات من خلال آليات ومراحل حيوية مُعقدة، تبدأ من نسخ المعلومة الوراثيّة من (ADN) إلى شكل (ARN)، ثم ترجمتها من (ARN) إلى بروتين مكوّن من سلسلة من الأحماض الأمينية. وهذا البروتين بدوره يشكل ويبني الخلايا والأنسجة، والتي تبني بدورها الأعضاء التي تبني الجسم كله. هذه المعلومة الوراثيّة محمولة على أليلات Alleles تظهر في شكل كروموسومات.
هذا شرح مختصر لآلية تركيب البروتين في الجسم، والذي يعتبر العنصر الأساس في تركيب الخلايا، مع الإشارة إلى أنّ كُل بروتين مُكوّن من سلسلة من الأحماض الأمينية المتفردة في العدد والترتيب، بحيث لو تغير عددها أو اختلف ترتيبها فلن يتكون البروتين المُحدد.
أمام هذا التعقيد المُتفرد ( Specified complexity) لـقواعدDNA) في بنائها وتراتبها والشيفرات التي تحملها، أثبت حساب الاحتمالات، أنه لا يُمكن تكوين بروتين واحد عن طريق الصُّدفة.!؟
وهذا ما صرّح به ويليام ستوكس (William Stokes)[1] بقوله: «لو أحضرنا مليارات الكواكب مثل كوكب الأرض، وامتلأت كل هذه الكواكب عن آخرها بالأحماض الأمينية، وانتظرنا عليها مليارات السنين، فلن نحصل على بروتين واحد»[2].
ثانياً: النّشوء التّدريجي
ردّ العالم الكيميائي مايكل بيهي[3] نظرية التطور وفق الطفرات الجينية، بنظرية التعقيد غير القابل للاختزال The Irreducible Complexity، التي شرحها في كتابه صندوق داروين الأسود (Darwin’s black box)، وردّ فيها على نظرية داروين، تحديدًا في التطور التدريجي للكائنات، حيث تمكّن من إثبات وجود كائنات تقوم بوظيفتها بأجزائها مُجتمعة، ولا وجود لها قبل أن تجتمع أجزاؤها التي تتكوّن منها بأجمعها، ولو فُقد جُزء واحد من هذه الأجزاء تلاشت الوظيفة بالكُلية. واستدل على هذا الأمر بالتعقيد المشهود في السوط البكتيري (Flagellum). فبعض أنواع البكتيريا تمتلك بنية سطحية (السوط)، يُساعدها على الحركة في المحيط السائل. هذا السوط البكتيري يتكون من مئتي جزء بروتين بالغ التعقيد، إذا حلّ أحدها مكان الآخر أو اختفى أحدها، فلن تظهر منظومة السوط البكتيري كليًا.
وهناك اكتشاف علميٍّ آخر، وقف في وجه الداروينية في إثبات التطور التدريجي للكائنات، وهو الانفجار الكمبيري (The Cambrian explosion)، الذي يُشير إلى الظهور الجيولوجي المُفاجئ لحيوانات متعدّدة الخلايا فى السّجل الحفري في العصر الكامبري. والقول بأنّ الحياة الحيوانية ظهرت فجأة بالمعنى الجيولوجي، يعنى الغياب لأي وساطات انتقالية تربط حيوانات العصر الكمبري بالغة التعقيد بأشكال الحياة البسيطة جداً فى الطبقات الصخرية السابقة للكامبري. وقد عبّر الباحث هارون يحيى عن هذا الأمر في كتابه «خديعة التطور» بقوله: «مُنيت النظريّة الداروينية الجديدة بالهزيمة من قِبل سجل الحفريات أيضاً إذ لم يُعثَر قط في أي بقعة في العالم على أي من الأشكال الانتقالية، التي من المُفترض أن تُظهر التطوُّر التدريجي للكائنات الحيَّة، من الأنواع البدائية إلى الأنواع المتقدمة حسبما تزعم نظرية الدارونيين الجُدد. وفي الوقت نفسه، كشف التشريح المقارن أن الأنواع التي يُفترض أنها تطوَّرت بعضها من بعض تتّسم - في الواقع - بسمات تشريحيَّة مختلفة تماماً، أو أنها من غير الممكن أبداً أن تكون أسلافاً أو خُلفاء لبعضها البعض»[4].
حتى إنّ ريتشارد دوكنز، وهو من أكبر مناصري نظرية التطوّر، علّق على هذه الحقيقة التي تُبطل أسس الحجج التي يدافع عنها بقوله: «على سبيل المثال، تُعتبر طبقات الصخور الكامبرية (التي يبلغ عمرها حوالي 600 مليون سنة) أقدم الطبقات التي وجدنا فيها مُعظم مجموعات اللافقاريات الأساسيّة. ولقد عثرنا على العديد منها في شكل متقدم من التطوّر في أول مرّة ظهرت فيها. ويبدو الأمر وكأنها زُرعت لتوّها هناك، دون أن تمرُّ بأي تاريخ تطوري. وغني عن القول أنّ مظهر عملية الزرع المفاجئ هذا، قد أسعد المؤمنين بالخلق»[5].
مادامت نظريّة التطوّر موضوعة على طاولة البحث بالرد والنقد، لاسيما أنَّ بعض هذه الردود تتّحد معها منهجاً، فأول ما يُمكن قوله: لا يصحّ اعتبار علم الأحياء من العلوم المخالفة للأديان، أو أنّه علم يدعم الإلحاد. إنَّ المشكلة لا تكمن في قبول التطور أو الطفرة من الناحية العلميّة، وإنّما في تحميل هذه الفرضيّات والآراء العلميّة ما لا يُمكن لها أن تحمله، والاستدلال بها على ما لا يُمكن لها أن تكون دليله. فلو تمكن العلم من إثبات التطور من خلال طفرات عبر التوريث الجيني، فإنّه لن يلقى اعتراضاً على أدلته، لكن إرجاع هذا الأمر إلى حركة عشوائيّة لموضوع في غاية التنظيم والدقة، فإنّ ذلك من الأمور التي لا يُمكن للعلم أن ينفيها..!؟
---------------------------
[1] - ويليام ستوكس (1 أكتوبر 1804 - 10 يناير 1878)، طبيب ايرلندي، وهو أستاذ ريجيوس فيزيك في جامعة دبلن.
[2]- Wendell. R. Bird، the Origin of Species، p.305
[3] - عالم كيمياء حيوية أمريكي، مؤلف، ومناصر للتصميم الذكي. يشغل حالياً منصب أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ليهاي في بنسلفانيا ويعمل كزميل بارز في مركز للعلوم والثقافة تابع لمعهد دسكفري.
[4]- خديعة التطور، الانهيار العلمي لنظرية التطور وخلفياتها الأيديولوجية، هارون يحيى، ص 34.
[5]- Richard Dawkins، The Blind Watchmaker، London: W. W. Norton 1986، p. 229