-----------

من خلق الله؟

{ جعفر الحاج حسن }

من خلق الله؟

سؤال يطرحه كلّ إنسان في لحظة من لحظات حياته بدافع حبّ الاستطلاع والمعرفة، وقد حوّل الملحدون هذا السؤال إلى إشكاليّة تؤيّد وجهة نظرهم، فإذا كان التصميم الذكيّ المفترض في الكون دليلاً على وجود الله، فهذا يعني أنّ لكلّ شيء سبباً، فمن هو السبب الذي أوجد الإله؟

وقد عبّر عن ذلك الفيلسوف البريطانيّ الملحد برتراند رسل بقوله: «إذا كان ينبغي أن يكون لكلّ شيء سبب، إذاً، ينبغي أن يكون للإله سبب، وإذا كان من الممكن أن يكون هناك إله بدون علّة أو سبب، يمكن إذاً أن يكون العالم بدون علّة أو سبب، مثل الإله تماماً»[1].

والسؤال مشروع، لكن، هل لكلّ سؤال جواب؟

في الواقع، لا جواب صحيحاً لسؤال غير صحيح.

وسؤال: من خلق الله؟ خاطئ وينطوي على مغالطة منطقيّة، لأن هذا السؤال يفترض أنّ الله مخلوقٌ، وكلمة «مخلوق» - لو أردنا التفنّن اللغويّ - على وزن اسم مفعول، وهي تدلّ على من وقع عليه فعل الفاعل، والله ليس مخلوقاً، فلا يسأل عن فاعله أي الخالق، وإلّا فلو كان ما أطلق عليه اسم «الله» مخلوقاً لما كان هو الله حقيقة، كما هي الحال في كائنات كثيرة أطلق عليها الوثنيّون اسم الإله  كالشمس والقمر والصنم والبقرة...

فكلّ ما افترض أنّه مخلوق فهو ليس الله، لذا، إنّ السؤال عمّن خلق الله هو أشبه بأسئلة: من مَشْمَشَ التفّاح؟ (أي من جعل التفاح مشمشاً، مع أنّ التفاح هو التفاح وليس المشمش!!) ومن حَلْوَنَ الملح؟ (أي جعل الملح حلواً مع أنّ الملح هو الملح وليس السكر!!) ومن لبنن الحديد؟... إلخ.

أمّا المغالطة المنطقيّة الثانية، فهي أنّ هؤلاء الملحدين قد حرّفوا قانون السببيّة عن مدلوله ومعناه، وذلك بتبديل موضوع القضيّة بموضوع آخر، فقانون السببيّة يقول: كلّ معلول له علّة، أو كلّ مسبَّب له سبب، في حين أنّه كما لاحظنا في كلام برتراند رسل بدّل مفردة معلول بكلمة أخرى وهي: «شيء»، فقال: «كلّ شيء له علّة»، إلّا أنّ العقل لا يرى أنّ كلّ شيء يجب أن يكون له علّة، بل يرى أنّ كـــلّ معلــــول لــــــه علّة، لأنّ

المعلول عبارة عن الشيء الذي يحتاج في وجوده إلى مؤثّر خارجيّ يعطيه الوجود ويخرجه من اللاشيئيّة إلى الواقع.

ولو سألنا العقل: هل يمكن أن نفترض شيئاً هو علّة وليس معلولاً؟

لأجاب بأنّه يجب أن يكون هناك شيء هو علّة وليس بمعلول.

لماذا؟ لاستحالة التسلسل في الأسباب والمسبّبات لا إلى نهاية، إذ لا بدّ من الوقوف عند مسبِّب ليس وراءه سبب.

 والسبب في توقّف الموجودات حتّى الأسباب منها عند مبدأ معيّن، هو أنّه لو لم يكن هناك موجود غنيّ بنحو لا يحتاج إلى موجود آخر أسبق منه، لما وجد شيء في الكون، لأنّ كلّ سلسلة الوجود تكون حادثة ومحتاجة، لكنّه قد وجد شيء في الكون، إذاً يوجد موجود غنيّ.

كما أنّ انقطاع سلسلة العلل عند علّة أولى ممّا يحكم العقل بضرورته لاستحالة التسلسل في العلل الفاعليّة لا إلى نهاية، إذ كلّ ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات، فلو كان هناك طعام مالح فيسأل من يأكل منه عن سبب ملوحته، فيقال قد أضيف إليه الملح، لكنّه لن يسأل عن سبب ملوحة الملح، لأنّ الملوحة ذاتيّة له.

فميزان حاجة الشيء إلى علّة ليس عنوان أنّه شيء أو موجود، حتّى يكون كلّ موجود معلولاً، بل معيار الحاجة هو إمّا الإمكان [بمعنى تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم بنحو لا يكون أحد الطرفين أولى به من الآخر على نحو ذاتيّ] وإمّا الحدوث [بمعنى كون الشيء مسبوقاً بالعدم]، وبالتالي على فرض صحّة أنّ كلّ موجود يحتاج إلى علّة، يكون ليس مطلق الموجود بحاجة إلى علّة بل الموجود المقيّد بوصف الإمكان أو الحدوث، فيكون مفاد القاعدة كلّ موجود ممكن أو حادث محتاج إلى علّة.

وقد اعتمد الأب كوبلستون في حواره مع برتراند رسل لإثبات وجود الله على حجّة تتناسب مع ما ذكرناه، حيث قال له: «إنّنا نعرف أنّ هناك على الأقل أشياء في العالم لا تتضمّن بذاتها سبب وجودها، مثال على ذلك، أنا أعتمد على والديّ، والآن على الهواء، وعلى الطعام وهلمّ جرّاً. ثانياً، الآن ببساطة العالم هو الكلّ الحقيقيّ أو المتخيّل، أو المجموع الكلّيّ لأشياء مفردة، لا شيء يتضمّن بمفرده سبب وجوده، ... طالما أن الأشياء أو الوقائع موجودة، وطالما أنه ما من شيء خبرناه يتضمن سبب وجوده بحد ذاته، فإن هذا السبب أو المجمل الكلي للأشياء يجب أن يكون له سبب خارج عن ذاته. ذلك السبب يجب أن يكون كائناً موجوداً، حسناً، هذا الكائن إمّا أن يكون هو ذاته سبب وجوده أو لا يكون، فإن كان، خير وبركة، وإن لم يكن، إذن، يجب أن نتقدّم أبعد، لكن إذا ما تقدّمنا إلى ما لا نهاية بهذا المعنى، فلن يكون هنالك تفسير للوجود على الإطلاق. لهذا، يمكن القول، لكي نفسر الوجود، إن علينا أن نتوصل إلى الكائن الذي يتضمّن بحدّ ذاته سبب وجوده، أي بمعنى آخر، الكائن الذي لا يمكن أن لا يوجد»[2].

الخلاصة: إنّ الموجودات في العالم على قسمين: القسم الأول: موجودات حادثة محتاجة وفقيرة لا تملك من ذاتها أن تمنح نفسها الوجود، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يمكن للفقدان أن يكون مبدأ للوجدان والخروج من فراغ العدم إلى واقع الوجود؟! والقسم الثاني: موجود غنيّ ذاتاً لا يحتاج في وجوده إلى موجود آخر، ولو لم يكن هذا الموجود المفترض موجوداً لما تحقّق شيء في العالم أصلاً.

وبهذا يتّضح ما في قول رسل: «وإذا كان من الممكن أن يكون هناك إله بدون علّة أو سبب، يمكن إذاً أن يكون العالم بدون علّة أو سبب، مثل الإله تماماً «من بساطة وسذاجة، إذ هذا قياس مع الفارق.

وأخيراً نسأل بدهشة واستنكار:

كيف يرتضي الملحد أن تكون المادّة التي تتميّز بخصائص التغيّر والتحوّل والنقص والمحدوديّة... أزليّة ومستغنية عن الموجِد والسبب؟!! في حين أنّه يريد أن يكون هناك سبب وعلّة للإله - المفترض أنّه يتميّز بالغنى والكمال المطلق واللاتناهي - أسبق منه في الوجود؟!!

إنّ الاعتقاد بأنّ الغني المطلق قديم وأزليّ وغير محتاج إلى العلّة والسبب أهون خطباً عند العقل من الاعتقاد بأنّ الناقص الحادث المتغيّر غير محتاج إلى العلّة والسبب.

------------------------------

[1]- لماذا لست مسيحياً؟ ص: 12.

[2]-  رسل، برتراند، لماذا لست مسيحيّاً؟ الفصل الثالث عشر، وجود الإله مناظرة بين برتراند رسل والأب كوبلستون، ص: 205.