-----------

ستيفن هوكينغ : «كلامي مجرد فرضي لا يمكن اختباره»

{ د. عبد الله زيعور }

ستيفن هوكينغ : «كلامي مجرد فرضي لا يمكن اختباره»

وفق آخر مُعطيات الفيزياء الحديثة، شكّلت حقيقة الانفجار العظيم أو «البيغ بانغ» إجماعاً تسالم أهل الفيزياء والفلك على حقيقة حصوله، وأنَّ للكونِ بداية وهذه البداية تعقبها نهاية، وأنّ القراءة في نتيجة الانفجار العظيم تُطيح بمقولة أزليّة المادّة، وأزليّة الكون، وتنسف أركان الفلسفات التي كانت قائمة على المادّة كأصل، وفي عام 2014م جاء رصد الموجات المتبقية من الانفجار العظيم، ليضع أهل الفيزياء أمام مشهد في منتهى الوضوح: لا سبيل لتجاوز حقيقة البداية للكون أوّلاً، وثانياً، لا سبيل لأهل الخبرة من تجاوز معادلة: يقينٌ علميّ بالبداية والخلق وفق «البيغ بانغ»، مقابل نظريّة هوكينغ «الأكــــوان المـــــتعدّدة»، المثقلة بالاحتمال والخيال والافتراض، والتي يقول عنها هوكينغ كلاماً تتنصَّل منه الفيزياء وكلّ المنهجيّة العلميّة مثل: «إنَّ قوى الجاذبيّة هي التي تخلق الكون» أو قوله: «ما دام يُوجد قانون كالجاذبيّة، فالكون يخلق نفسه من لا شيء»، والخلق التلقائيّ هو سبب وجود شيء بدلاً من لا شيء.. وعليه ليس لازماً أن نُقحم إلهاً للكون، ولكن عندما يقول: «كلامي مجرّد فرض لا يمكن اختباره» فهذا يؤكّد اعترافه بعجز نظريّته عن أن تقدّم شرحاً علميّاً لخلق الكون.

والواقع أنّ نظريّة الأكوان المتعدّدة، تُعاني نقطة ضعف قاتلة، وهي افتقارُها إلى التجربة، واستحالة خضوعها لأجهزة القياس، عندما تشرح أموراً عن أكوان مُتعدّدة لا نراها، بل ليس بمقدور أجهزة القياس الأعظم في العالم وفي تاريخ الفيزياء أن تؤكّدها. وإنّما تُقدّم قراءة ذاتيّة شخصيّة في معادلات تحمل عدداً يُغيّر حلًّا خياليّاً من الحلول: 10500 حلًّا، والزعم أنّ كلّ حلّ من هذه الحلول يُعادل كوناً يختصّ به!! 

لقد كان الادّعاء بنتائج الأكوان المتعدّدة وتحديداً الفلسفيّة منها، والتي تُعبّر عن وجهة نظر خاصّة يجري تسويقها على أساس أنّها الحقيقة العلميّة الوحيدة افتئاتاً على العلم التجريبيّ، وهو ليس العلم الذي نعرف، وحسبهم أنّ مقاييس الحصول على جائزة نوبل لا تنطبق عليهم، لأنّ ما قُدِّم يُعتبر نظريّة لا سبيل لتأكيدها..   

وبالعودة إلى كتاب هوكينغ «التصميم العظيم»، فإنّنا نتلمّس فيه حشواً مقصوداً بكلام عن تاريخ مُستغرب للعلم، ونظريّات فلسفيّة تبحث عن أسواق لتصريفها، وإكثار مُستهجن للرسومات الكرتونيّة، التي ملأت الكتاب الذي يخلو من أيّ مرجع علميّ، أو أيّ معادلة رياضيّة، كما أنّ الزجّ بأساطير مُضحكة للأديان الوثنيّة في أدغال أفريقيا وصحاري أستراليا، مروراً بديانات الهنود الحمر، وأساطير أخرى قديمة، وانتهاءً بقصّة الخلق في الكتاب المقدّس، وقصّة صِدام العلم مع الإنجيل، حيث يُمعن في السخريّة منها، تورية وتصريحاً، ليصل إلى نتيجة: إنَّ الدّين لا أمل منه ولا فائدة منه، وفي ذلك تناسٍ مُتعمّد لموقع العلم في الإسلام، والحثّ على طلبه ووُجوب المُضي في تحصيل أسبابه، وفي ذلك أيضاً سقطة، نزعت عن كتابه الموضوعيّة والدقّة، وشروط الحد الأدنى للبحث العلميّ، شأنه شأن الغرب كلّه، في الافتئات على الإسلام والتحامل عليه، وتغييب رُؤاه الفلسفيّة، التي تُعلي من شأن الإنسان ولأجل الإنسان، والتي تصلح أن تكون نموذجاً يقدَّم للإنسانيّة الحائرة اليوم.

لقد كان هوكينغ واثقاً بقوله: إنّ كلّ ما هو موجود نُفسّره بما يُسمّى: قوانين الطبيعة التي تحوي كلّ القوى وكلّ المبادئ التي تقود العالم المادّيّ. لكن وفي وقفة مُتأنيّة أمام هذه المقولة، نقول؟ ما دامت قوانين الطبيعة هي سبب الوجود، ينبغي إذاً أن تكون موجودة قبل نُشوء الأكوان، وحيث إنّ الفضاء والزمان هما من أبعاد الكون الموجود، فقوانين الطبيعيّة يجب أن تتموضع خارج الفضاء والزمان وهما من أبعاد الكون الموجود، إنّ قوانين الطبيعة، كمصادر لا نهائيّة للزمن المحدود وللفضاء المحدود، يجب أن تكون أزليّة: نحن إذاً أمام طاقة لا نهائيّة، مجرّدة، غير فيزيائيّة، خارج حُدود الزمان والمكان، وبالكامل أوجدت الكون، وستيفن هوكينغ يُفضّل أن يُعبّر عن الخالق غير المتناهي بقوانين الطبيعة، ولكنّ هذا لا يمنع غالبية الناس من أن يُسمّيها الله تعالى!

نحن هنا لسنا في موقع النيل من العلم ومسار العلم، لأنّنا من دُعاة ترك المسار العلميّ ينطلق ودون أيّ عقبات أو تدخّلات شخصانيّة أو تسويق لدعايات فلسفيّة، ونحن بالأصل من ضحايا هذا الخلط بين الرأي العلميّ والرأي الشخصيّ، لا بل إنّ مشكلتنا مع هوكينغ هي في تجاوزه الحقائق العلميّة وإصداره لآراء شخصيّة بحتة لا شأن للعلم بها، والزعم أنّها من العلم، وقد ذهب بعيداً بقوله: إنّ من يُعارضه فإنّما هو عدوّ للعلم، وفي الموقع نفسه؟ مع القبائل البَدائيّة في أدغال أفريقيا. وهذه دكتاتوريّة فكريّة وقمعٌ للرأي الآخر.

الصدفة وتفسير حركة الكون

في المقابل، فإنّ علماء الفيزياء والفلك، وفي أكثر مدارس الفيزياء الحديثة، باتوا مُقتنعين بأنَّ الكون يعمل بهدي وإيقاع مُنتظم، تُشرف عليه قوّة راشدة وعاقلة، وكأنّ ثمّة دافقاً؟ سرّيّاً يقود حركة المادّة الصمّاء نحو الأرقى، ونحو النظام والتناظر والوعي الدقيق لحركة الوجود.

 وفي الجانب الآخر أكدّت قوانين الرياضيّات وتحديداً قوانين الاحتمالات فيها، استحالة الصُّدفة وعجزها كسبيل لتفسير حركة الكون الرائعة في الإبداع والنظام الدقيق في العوالم المتناهية في الصغر وفي الكبر، فيما يقود الغوص في أعماق المادّة إلى اللامادّة، وإلى المفهوم والوعي المجرّد الذي يُفيد أنّ المادّة ليست الحقيقة المطلقة، وأنّ العقل هو الأساس والمنطق. ولن نترك المسألة تنتهي عند أقوال جهابذة الفيزياء الثوريّة الحديثة، بل سنعود إلى كلام رائع ذكره أحد عمالقة الفيزياء وهو «إسحق نيوتن» الذي يذهب في قراءة الطبيعة من وجهة العلّة الأولى، ليصل إلى فكرة القوّة الإلهيّة الضابطة للحركة في الوجود، حيث يقول في إحدى رسائله العلميّة عام 1692: «إنَّ حركات الكواكب الراهنة لا يُمكن أن تكون قد انبثقت من أيّ علّة طبيعيّة فحسب، بل كانت مفروضة بقُوّة عاقلة».

إنّ القوانين الكامنة في الذرّة، هي عينُها الحاكمة بين المجرّات الهائلة في الكون، فوحدة القوانين إشارة تغدو معها الصُّدفة خيالاً، وإنّ الفيزياء الحديثة تجد الله تعالى من جديد عبر معانٍ مُتعدّدة منها ما قبل الانفجار العظيم وما بعده، على نحو لا تُسمّيه الفيزياء بأفضل من كلمة «خلق».