الرياضيّات في كلّ العصور هي الأساس لكلّ الاختصاصات العلمية والأكاديميّة والتكنولوجيّة، لم تستغنِ عنها البشرية يومًا. هي اللغة الأبجدية الأساسية لعلوم الكيمياء والفيزياء والهندسة والاتصالات والتقــانة بكافة أشكالها، بل المحور الذي تعتمد عليه الحضارة الإنسانية على الصعيد العلمي.
الواقع أنّ محمد بن موسى الخوارزمي، المتوفى في العام 874 ميلادي عن عمرٍ يُناهِزُ 66 عامًا، قد جعل حياتَنا أسهل. إذ قدّم للبشريّة تـطوّرًا تراكميًّا ملحوظـًا في علم الرياضيّات التي نستخدمُها اليوم في كل أغراضنا. من البسيطة منها إلى صناعةِ الطائرات والصواريخ والـقطارات والحواسيب. وقد وُصِفَ كلّ ما أنتجَه من نظرياتٍ وابتكاراتٍ ووسائلَ في حلِّ المعادلات بالخوارزميات نسبةً إليه، وبالأجنبية Algorism وAlgorithm.
الخوارزميّة هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحلِّ مشكلةٍ تقنيّة أو حسابيّةٍ أو علميّةٍ معقّدة. وفي حال لم تستطع ترجمةَ أيِّ هدفٍ لديك إلى خوارزميّةٍ محدّدة، وخطواتٍ متسلسلةٍ واضحة، فعندَها، عليك أن تراجع هدَفك. فقد تكون الرؤية غير واضحة لديك، أو يوجد تفاصيل قد غابت عنك. فعلى سبيل المثال، في مجال علم الحاسوب، الخوارزميّة هي عبارة عن مجموعة من التعليمات والخطوات الواضحة، التي تُخبر الحاسوب ما الّذي عليه أن ينفِّذَه، وكيف يستطيعُ تنفيذَه. والطريقةُ الوحيدةُ لإخبارِ الحاسوب بتنفيذِ أمرٍ ما، هي أن تكتُبَ له خوارزميّة فيها كلّ التفاصيل التي ستُحدِّد له كيف سينفّذُ طلبَك منه، بدءًا من خوارزميّة سهلة لجمع رقمين، إلى خوارزميّة معقّدة كالتي تُستخدَم لتسيير الطائرات.
ولأن الخوارزميّة سلسلة من الخطواتِ الحسابيّةِ المعرّفة بشكلٍ جيّد، فهي تأخذَ قيمة أو أكثر كالمدخلات Input، وتعطي قيمة أو أكثر كالمخرجات Output.
بهذا المفهوم فإن الخوارزمية عبارة عن أداة لحل المسائل الحسابية. ونقصد بكلمة مسألة : العلاقة بين الدخل والخرج، وبالتالي فإن دور الخوارزمية توضيح الخطوات الضرورية للوصول إلى العلاقة المطلوبة، وعادةً ما تسمى قيم الدخل التي يتم اختبار الخوارزمية عليها بـ Instance..
لتوضيح المفاهيم السابقة نأخذ المثال التالي:
لنفترض أنّه لدينا سلسلة من الأعداد الصحيحة ونريد ترتيبَها تنازلياً فعندئذٍ:
المسألة: ترتيب تنازليّ للأعداد الصحيحة.
الدخل: سلسلة من الأعداد عددها n .
الخرج: سلسلة الدخل مرتبة تنازلياً.
Insatnce : بفرض سلسلة الدخل هي <10،5،30،15،40> فإن سلسلة الخرج هي <5،10،15،30،40>
أخذنا عملية الترتيب كمثال توضيحي لأهميتها الكبيرة في كثير من التطبيقات، وقد تمَّ تطويرُ عددٍ كبيرٍ من خوارزميات الترتيب.
الواقع أنّنا لا نعرفُ تفاصيلَ كثيرة عن حياةِ أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي عاشَ في القرن التاسع الميلاديّ. فأجدادُنا اجتهدوا في تخليد أبيات الشعر القائمة على مدح الحكّام ومبايعتِهم أكثرَ من اهتمامِهم بالترجمةِ الدقيقة للعلماء. لكن يُقال بأنّه وُلد في العام 781م. وهاجر مع أبويه من بلاد فارس واستقرّ في مدينة قرطب القريبة من بغداد. أو هاجرَ والداه من فارس وأنجباه في مدينة قرطب. ونُسب إلى مدينة خوارِزم الفارسية التي جاء منها. وفي صغره كان هذا الغلام الصغير عاشقًا لركوب الخيل، لكنّ عشقَه امتدَّ إلى ما هو أبعد من ذلك، فانجذَبَت نفسُه إلى عشق المسافات والأرقام والأشكال الهندسية. وبعد أن لَمَس شَغَفُه أحد وعّاظ عصرِه، اقترح على أبيه أن ينقُلَه إلى بغداد، حاضرة العلم في ذلك الوقت. ليجد فيها بيئةً ملائمةً لاحتواء إبداعه، فينطلقَ فيها. وقد تم ذلك. فدرس الخوارزميَ الرياضيَات وغيرها الكثير من العلوم حتى برز فيها.
نما إلى علم هارون الخليفة العباسيّ الذي كان مولعًا بالعلوم في ذلك العصر، أنباءً انتشرت حول موهبةِ الخوارزميّ في الرياضيّات والفلك والجغرافيا، فأرسل وراءَه ليعيّنَه باحثًا في دار الحكمة. ثمّ ليتربّع الخوارزميُّ على عرش رئاستِها في عهد الخليفة المأمون.
سجّل الخوارزمي جميع أعماله العلمية والحسابية باللغة العربية، وتُرجمت فيما بعد إلى عدة لغات أوروبيّة، ودُرِّست فى الجامعات الأوروبيّة لعدة قرون.
يُعتبر الخوارزمي مؤسس علــم «الجَبر». وهي الكلمة التى انتقلت لتغــزو كلّ لغات العالم تقريباً، بعد أن قام بتأليف كتاب «حساب الجبــرِ والمقابلة - توجد نسخةُ عربيّةٌ من الكتاب فى جامعة أوكسفورد البريطانيّة- بهدف المساهمة فى (التوزيع العادل للمِلكية والمعاملات التجــارية وتبسيط العمليّات الحسـابيّة الأساسيّة). فقد عانى المسلمون في ذلك الوقت من مشاكل كثيرة وعثراتٍ شديدة واجهتهم في تقسيمِ المواريث واحتساب المساحات، فطُلِب من الخوارزميّ كتابةَ مؤلّفٍ يخفِّفُ عن المسلمين معاناتِهم فكان ذاك الكتاب. وإن كان البعض قد ذهب إلى أنّ موهبةَ الخوارزميّ تمثّلت في التطوير وليس في الابتكار والاختراع. وقد استفاد مـــن العلوم الهـــنديّة واليونانيّة والفارسيّة السائدة في عصره. وسواء كان الرجل مؤلِّفًا لعلم الجبر أم كان جامعًا مطوّرًا، فإن المذاهب العلميّة أخذٌ وعطاء.
قـابل الخوارزمي فى حياته عالمـاً هنديــاً يُدعى (كانكا) ليتعلّم منه (علم الأرقام الهندية). حيث استخدَم القواعدَ الأساسيّة التي تعلّمها منه. وقام بالبناء والتطوير عليها ليُحدث ثورةً هائلةً فى علم الرياضيات عموماً. واستطاع أن يُصيغ لأول مــرة الأرقــام
العربية ( 1،2، 3، 4 .. إلخ ) التي مازال العرب حتى الآن يعتبـرونَها أرقـاماً أجنبية (لاتينية). وأرقامُنا العربيّة المستخدمة حاليًا فهي من الابداعات الهنديّة.
ومن أبرز ما قدّمه الخوارزميّ للعالم هو إدخالُه العدد (صفر) إلى الأعــداد، والذي اعتُبِر واحداً من أهمّ الإضافات الأساسيـة لعلم الرياضـيّات. فبعد أن كان الصفر دائرةً تدلّ على الفراغ واللاشيء، قام بإضافتِه إلى الأرقام، فبدلًا من أن يكون الرقم عشرة مساويًا لعشرة أعداد من رقم 1(1+1+1+1+1+1+1+1+1+1) أصبح الرقم عشرة مساويا لـ(10).
قام الخوارزميّ بتصحيح أبحاث العالِم الإغريقي بطليموس في كتابه «صورة الأرض» - توجدُ نسخةٌ واحدةٌ من الكتاب في مكتبةِ جامعةِ ستراسبورغ- الذي يعتبر من أعظم مؤلفات عصره في علم الجغرافيا، حيث تناول آراء بطليموس وفنّد ما بها من أخطاء. وقام برسمِ أوّلِ خريطةٍ صحيحة أو قريبة من الصحّة تمثّل العالم المكتَشف في ذلك العصر.
مؤلّفٌ آخر للخوارزميّ -نسخته الأصلية مفقودة، لكن له ترجمات عديدة منها في باريس ومدريد وأكسفورد-يدعى «زيج السند». يتكلّم فيه عن الحسابات الفلكيّة وحسابات التقويم، والبيانات الفلكيّة والتنجيميّة. كما يحتوي على جداولَ لحركاتِ الشمسِ والكواكب.
كل هذه الإنجازات – وغيرُها الكثير جداً – هي نتاج عمل عالِم واحد مُسلم فى القــرون الوسطى. وهو يعتبر واحداً من ضمن مئات العُلماء المسلمين الآخرين الذين ساهموا فى صناعة الحضارة البشرية وكان لهم دور في تقدّم الإنسانية.