-----------

سر من رأى : سر من عرف

{ سكينة مصطفى }

سر من رأى : سر من عرف

في بلاد الرافدين، في قلب العراق...

غرسة من المدينة المنورة، تفتّحت وروداً بألوان زاهية شتّى، لكنّ جميعها ذات عطرٍ محمديّ...

في قلب العراق مدينةٌ تشرّفت ببيتٍ أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيها اسمه...

بيتٌ عاش فيه الإمامان عليٌّ الهادي والحسن العسكريّ (ع)، وولد فيه الإمام المهديّ المنتظر (عج)...

بيتٌ زفر في أثير سامراء طيْباً وعطراً وعشقاً... منه سمع المسلمون الأذان، وتكبيرة الصلاة، وحديث رسول الله (ص)

بيتٌ جعل من المدينة «سرّ من رأى» ولو تبدّلت أسماؤها...

إنّها مدينة سامراء...

من المدن العراقيّة القديمة والمقدّسة، تضمّ تربتها الزكيّة مرقدَ الإمامين عليّ بن محمدٍ الهادي والحسن بن عليٍّ العسكريّ (ع)، والسرداب الذي غاب منه الإمام المهديّ (عج). تزخر المدينة بالمآثر التاريخيّة والحضاريّة التي جعلتها محطةً سياحيّة مهمّة داخليّاً وخارجيّاً، ما دفع منظمة اليونسكو عام 2007م إلى إدراجها ضمن قائمة التراث العالميّ.

موقعها:

تقع سامراء في محافظة صلاح الدين في الجهة الشرقيّة لنهر دجلة، على بعد 125 كيلو متراً من العاصمة بغداد. تبعد عن النجف الأشرف حوالي 300 كيلو متراً ، وعن كربلاء المقدّسة حوالي 220 كيلو متراً.

اقتصادها:

يعتمد اقتصاد سامراء على قطاعي الزراعة والصناعة، فهي تتميّز بهوائها النقيّ، وتربتها الخصبة؛ لوقوعها على نهر دجلة. تشتهر ببساتين الحمضيّات، وفيها مصنع مهمّ لتصنيع الأدوية، وصناعات خفيفة أخرى، مثل: صناعة الأنسجة القصبيّة من سِلال وحُصُر وغيرها، كما تشتهر بثروتها الحيوانيّة.

تاريخها:

بناها المعتصم العباسيّ سنة 221هـ/ 835م لتكون عاصمة دولته، وبعد أن تمّ بناء المدينة انتقل مع قوّاته وعسكره إليها، ولم يمضِ إلا زمن قليل حتى قصدها الناس وشيّدوا فيها المباني. وبقيت سامراء عاصمة للخلافة العباسيّة فترة تقرب من 58 عاماً، امتدت من سنة 220هـ/ 834م إلى سنة 279هـ/ 892 م.

 ذكرت بعض المصادر التاريخيّة أنّ سامراء كانت مأهولة بالسكان قبل الميلاد بعشرات القرون، وقد تأسّست المدينة في العصر الآشوريّ، واتخذ الساسانيّون والمناذرة بعض مواقعها حصوناً عسكريّة ضدّ الروم والفرس، ومرّت بها حضارات مختلفة؛ لذا تعدّ سامراء من أقدم المدن العراقيّة.

اختُلف في أصل تسميتها، بين من اعتبره مشتقّاً من اسم بانيها «سام بن بنوح»، وسُميت «سام رآه»، وبين من اعتبره مشتقاً من اسم موطن سماه الآشوريّون والبابليّون «سومورم»، أو «سورمارتا»، لكن تمّ تحويره إلى سامرا، غير أنّ ثمّة رأياً آخر ذهب إلى أنّ أصل تسمية المدينة أراميّ، يشبه أسماء مدن أخرى مثل: كربلا وباعقوبا.

وكانت تُعرَف أيضاً بالعسكر؛ قال الفيروز آباديّ: «عسكر اسم سرّ مَن رأى، وإليه نُسب العسكريَّان أبو الحسن عليّ بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر وولدُه الحسن، وماتا بها»[1].

لكنَّ تسمية المدينة بـ «سُرَّ من رأى» غلبت على جميع التّسميات في الماضي؛ لأنّ المعتصم أراد التّفاؤل على عادة العرب، فقال: نسمّيها سُرَّ من رأى، بعدما قيل له إنّ اسم هذا المكان سامرّا. 

معالمها:

تشكّل المدينة حاضرة إسلاميّة عظيمة، وتنير سماءها القبّة الذهبية لضريح الإمامين عليّ الهادي والحسن العسكريّ عليهما السلام، كما أنارا في حياتهما المباركة تاريخ سامرّاء وحاضرها، فكانا الإمامين الشابين اللذين نقلا إلى الناس علوم جدّهم محمد (ص)، يُذكر أنّ ما يقارب الـ 185 راوياً نقلوا الحديث عن الإمام عليٍّ الهاديّ (ع)، إلى جانب وقوفهما بوجه المدارس الدينيّة والفكريّة التي كان من شأنها بثّ الانحراف واختلاق الشبهات، وقد زخرت مناظراتهما ورسائلهما بالأدلّة الساطعة والقاطعة في وجه تلك التيارات، مرسّخين بذلك عقائد الدين الإسلاميّ الحنيف.

كما شهد هذا المكان المعظّم ولادة الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيتb، وهو الإمام المهديّ محمّد بن الحسن العسكريّ (عج)، ومعه وُلد الأمل في شرايين الوجود، منتظراً وعد الله ورسوله (ص)، لتُملأ به الأرض عدلاً  كما ملئت جوراً.

وللمدينة عدد كبير من المعالم التاريخيّة والحضاريّة والأثريّة، أبرزها:

* المسجد الجامع الكبير: يعدّ اليوم أكبر جامع أثريّ في العالم، أسّسه الخليفة المتوكّل سنة 245هـ فوق أرض مستطيلة الشكل تبلغ أبعادها 260م ×180م. ويرتكز بنيانهُ على دعائم مثمّنة الأضلاع، ثم بعد توسعته أضاف إليه المئذنة الملويّة المؤلّفة من خمس طبقات تتناقص سِعتُها ارتفاعاً. وسعة الدّرج متران، وهو بعكس عقارب السّاعة، وعدد درجاته تبلغ حوالي 399 درجة، والارتفاع الكلّي للمئذنة يبلغ حوالي خمسين متراً. 

* مسجد أبي  الدلف: كان مخطّط هذا المسجد مماثلاً لمخطّط مسجد سامراء الكبير، وله مئذنة مشابهة، لها منحدر لولبيّ حلزونيّ ولكنّها أصغر قليلاً، وهو يعدّ ـ أيضاً ـ من أكبر المساجد الإسلاميّة.

* مساجد قديمة متعدّدة: جامع القلعة، مسجد حسن باشا، مسجد حميد الحسّون، مسجد سيّد درويش، مسجد البورحمان، مسجد عليّ بن أبي طالب (ع)، مسجد الحاج صالح الرحمانيّ، ومسجد الأرقم، مسجد أولاد الحسن (ع)، جامع الفاروق.

* سور المدينة الأوّل: كان يُحيط بالمدينة سُور بُنِيَ بالجصِّ والآجر وصل ارتفاعه إلى 7 أمتار، وكان له 19 برجاً وأربعة أبواب، هي: القاطول، والناصريّة، والملطوش، وبغداد. لم يبقَ منها إلَّا باب بغداد الذي تحوّل إلى متحف تُعرَض فيه نماذج من الآثار المستخرجة من الحفريَّات الأثريّة. وقد ظلَّ هذا السُّور ماثلاً للعيان حتى سنة 1356 هجريّة/ 1936م.

*قصر العاشق: وهو بناء مستطيل الشكل يتكوّن من طابقين، بناه المعتمد العباسيّ عام 267هـ/ 880م على الضفة الغربيّة لنهر دجلة، لكنّه لم يقم فيه طويلاً، حيث انتقل إلى بغداد.

*الجوسق الخاقانيّ: وهو من أهمّ الآثار العباسيّة الباقية إلى اليوم، وهو دار الخليفة الذي ذكر في كتب التاريخ بأسماء متعدّدة، منها: بيت الخليفة أو دار العامّة أو الجوسق الخاقانيّ.كان أكبر قصور المدينة، يطلّ على الشارع الأعظم من جهة الشرق، وعلى نهر دجلة من الغرب، يتميّز القصر بمساحته الشاسعة، وموقعه المميّز، بالإضافة إلى عمارته الراقية والتشكيلات الزخرفيّة والرسوم الجداريّة التي جعلت منه مقصداً لمختلف البعثات السياحيّة والأثريّة.

بالإضافة إلى عدد كبير من المعالم والقصور الأخرى مثل: قصر بلكوارا (شيّده المعتزّ سنة 247هـ)، قصر  المختار، القصر الوزيريّ، قصر العروس، القصر الجعفريّ، المدينة المتوكّليّة (على بعد 15 كم شمال مدينة سامرّاء)، قصر الجصّ، بركة السباع، القبّة الصليبيّة، دار العامّة، تلّ الصوان... وغيرها.

مرقد الإمامين العسكريّين (ع):

يعدّ أهم معالم مدينة سامراء، تبلغ مساحة الباحات المحيطة بالمشهد الشريف حوالي ثلاثة عشر ألف متر مربّع؛ ما جعله أكبر المشاهد المشرّفة في العراق من حيث المساحة.

يضمّ المشهد الأجساد المطهّرة للإمامين عليّ بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكريّ، وزوجته السيدة نرجس، وعمّته السيدة حكيمة. فبعد استدعاء الإمام أبي الحسن عليٍّ بن محمد الهاديّ (ع) من المدينة المنورة إلى سامرّاء سنة (234ه‍/ 857م) من قبل المتوكل العباسيّ،  اشترى (ع) داراً، وعاش فيه مع أهله وعياله، دون أن يعلم الناس في ذلك الزمن أنّ هذا الحدث سيغيّر تاريخ سامراء؛ فقد صارت تلك الدار فيما بعد مركز المدينة، وأقدس موضع فيها، وسبباً في ازدهارها، فقد بُنيت حولها دور الأهالي ومتاجرهم وشُقّت إليها الطرق ليعيش الناس ببركتها، وليكونوا كالأفلاك الدائرة حول النجم المتلألئ، بعد أن اضمحل دور سامرّاء عاصمة لبني العباس.

وحينما استشهد الإمام عليّ الهاديّ (ع) في 3 رجب سنة (254ه‍/ 868م) دفن في صحن داره هذه أو في حجرة

 من حجراتها، وكان عمره 42 سنة. وفي 8 شهر ربيع الأول سنة (260ه‍/ 873م) استشهد الإمام الحسن العسكريّ (ع)، فدفن إلى جوار والده. ويمكن القول إنّ ذلك شكّل نواة تكوّن العتبة العسكريّة المقدّسة، باعتبار أنّ الدار أصبحت فيما بعد مزاراً قبل أن تهدم وتتحوّل إلى مسجد تحيطه الأروقة والصحن ثم السور. وفي العام نفسه توفّيت السيّدة نرجس، والدة الإمام المهديّ (ع)، ودفنت خلف قبر الإمامين بمسافة قليلة، وفي سنة (274ه‍/ 887م) توفّيت السيّدة حكيمة، أخت الإمام الهادي (ع)، ودفنت إلى جوار أخيها.

في سنة 289 هجرية، وبعد موت المعتضد العباسيّ، نُصب شبّاك في جدار الدار يُشرف منه المارّة على الأضرحة؛ فكان الناس يزورون الإمامين (ع) من وراء الشباك. وبقيت الدار على حالها ما يقرب من خمس وأربعين سنة.

 ونظراً لخلوّ المنطقة من ساكنيها قياساً بما كانت عليه أيام عمرانها، فقد تعيّن على بعض الناس المحبّين في بغداد أن يقوموا بتعهّد تلك الروضة المطهّرة وسدانتها، والقيام بشؤون زوّارها، فكان أولئك الأفراد ينظّمون القوافل في المناسبات ويرافقون الزوار إلى سامرّاء، ثم يعودون بهم إلى بغداد، ثم توالت مع مرور الزمن أعمال التوسعة والتجديد والبناء حتى غدت الروضة العسكريّة أكبر المشاهد المشرّفة في العراق.

ومن معالم هذا المقام الشريف: سرداب الغَيبة، وقد كان هذا السرداب جزءاً من بيت الإمامَين العسكريَّين عليهما السلام في سامرّاء، وخصوصيّته أنّه تشرّف بسكنى الأئمة الثلاثة الهادي والعسكريّ والمهديّb، وكان مبيتهم ومعبدهم لمدةٍ طويلة. وللسرداب باب خشبيّ جميل مضى على صنعه أكثر من سبعة قرون، فقد بُني بطلب من الحاكم العباسيّ الناصر لدين الله، سنة 606هـ .

هذا السرداب هو بيت المهديّ (عج) الذي لا زال قائماً وحاضراً، أفلا يأتي بيَته؟! هل له بيتٌ واحد في هذا الوجود؟ هل نراه هناك لو أردنا زيارته؟ هل يسمع صوتنا حين نلقي السلام؟ 

أكثر من ألف عام من الغيبة، عن البيت والأهل والمحبّين، أين قضَيْتها يا ابن رسول الله؟!!

الساعة الشمسيّة المكتشفة في سامرّاء:

في سنة 1972 كان عمّال الهاتف في مدينة سامرّاء يقومون بأعمال الحفر لمدّ الأسلاك، وفجأة ظهرت لهم لوحة مربّعة من الرّخام المعروف في العراق، أُصيبت ببعض التهشّم عند استخراجها ثمّ نُقلت إلى المتحف الوطنيّ في بغداد،  بعدما تمّت معالجتها مخبريّاً وترميمها، وكانت المفاجأة،  أنها تمثّل ساعة شمسيّة.

يُستَدلّ من صانع الساعة عليّ بن عيسى الذي نقش اسمه عليها وعاش في سامراء أواسط القرن التاسع الميلادي أنّها  أقدم ساعة من نوعها تعود إلى العصر الإسلاميّ؛ ولذلك فإنّها تُعدّ مفخرة من مفاخر الحضارة المشرقيّة في العصر الإسلاميّ.

أخيراً، سيأتي اليوم الذي يتوجّه فيه العالم أجمع إلى سامرّاء...

إلى تلك البقعة المباركة، التي ضمّت في ترابها أطهر الأجساد... وخبّأت في سردابها أعظم الأسرار

سيُلقي المُحبّون السلام على إمامهم... أوَليس الإمام حاضراً يسمع كلامهم ويردّ سلامهم...!!

لكنّهم هذه المرة سيسمعون السلام...

وسيسمع العالم أجمع نداء الحقّ...

------------------------------

[1]-   الفيروز  آباديّ: القاموس المحيط، (لا ط)، (لا ن)، (لا م)، (لا ت)، ج1، ص: 440.