تشير إحدى الدراسات إلى أنّ 65% من سكّان الوطن العربيّ يعيشون في العالم الافتراضيّ[1]، عالم مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويقضي معظم الناشطين على هذه المواقع ما لا يقلّ عن ستّ ساعات يوميّاً؛ يكتبون ويتفاعلون ويشاركون المحتويات والمواضيع التي لا تنتهي في هذا العالم، فكيف يتكلّم روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ، وماذا يتكلّمون؟
تشكّل اللغة هويّة المتكلّم بها وهويّة المجتمع، فهي صوت الوعي والفكرة، ونحن أبناء الكلمات، نعيش في عالم من الكلمات المسموعة والمكتوبة، حتى الصورة التي نشاهدها تتكلّم. وفي العالم الرقميّ، أي العالم الذي خلقته مواقع التواصل الاجتماعيّ، تعدّ اللغة ركيزة التواصل والتفاعل مع الآخر، بالإضافة إلى الصور ومقاطع الفيديو التي تشكّل جزءاً من اللغة، كما أن للّغة صبغة إيحائيّة في التأثير على شعور الإنسان وفكره وإدراكه.
لكن هل تستطيع اللغة إعادة تشكيل وعي الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعيّ من خلال استخدام تكنولوجيا التحليل اللغويّ؟
يمكن من خلال تحليل اللغة المكتوبة على مواقع التواصل الاجتماعيّ أن نكتشف نمط التفكير السائد فيها، وتوجّهات روّادها.
ساعد الإعلام الجديد في تطوير الدلالات اللغويّة واستخدامها؛ حيث يُلحظ ازدياد في استخدام الأسماء، فإنّ أكثر ما نشاهده عند تصفح موقع تويتر أو الفايسبوك أو الإنستاغرام هو الأسماء؛ أسماء أشخاص، أسماء أعمال ونشاطات، أسماء أفكار، أسماء علامات تجاريّة، وأسماء «الترند»، أو الموضوع الذي يتم تداوله على هذه المواقع، فيتمّ تصنيف كلّ موضوع باستخدام اسم ووسم. والاسم في اللّغة هو رمز للدلالة على الأشياء، أي التعبير عن النشاط الإنسانيّ بصيغ التملّك، وهذه الأسماء الكثيرة والمتزايدة تعكس توجّه الأفراد نحو السلوك الاستهلاكيّ والتملكيّ.
ولمواقع التواصل الاجتماعيّ تأثير كبير على جميع فئات المجتمع؛ حيث يستخدمها الكبير والصغير، المتعلّم والأميّ، وهذا الاستخدام المطّرد خلق أنماطاً جديدة من الاستعمال اللغويّ تختلف باختلاف ثقافة الفرد الافتراضيّ وخلفيّته. وقد تنوّعت لغات مواقع التواصل الاجتماعيّ، لكنّ الكتابة بالعربيّة العاميّة تعدّ الأكثر انتشاراً على صفحات التواصل الاجتماعيّ في مختلف الدول العربيّة. حيث يستخدم عدد كبير من روّاد هذه المواقع الكتابة باللهجة العاميّة في إطار عمليّة التواصل والتفاعل، وهذا من شأنه أن يزيد من شيوع الكتابة بالعاميّة، ما يعني تدنّي المستوى اللغويّ للأفراد، بينما تُستخدم العربية الفصحى بنسبة قليلة من قبل أشخاص متخصّصين. وثمّة نمط من الكتابة يتضمّن الفصحى والعامية معاً، ويستخدم هذا النمطَ جزءٌ كبير من المتخصّصين غير اللّغويّين، كما أنّه يغلب عليه التسكين وفيه بعض الأخطاء النحويّة.
إنّ استخدام تقنيّة التحليل اللغويّ وتحليل المحتوى تمكّن من معرفة المواضيع الأكثر تداولاً على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وثمّة العديد من البرامج والمواقع الإلكترونيّة التي تحلّل اللغة، تعمل على هذه التقنيّة من خلال تجميع أكبر عدد ممكن من البيانات والحسابات التي استخدمت مصطلحاً أو اسماً يرتبط بموضوع متداول على مواقع التواصل الاجتماعيّ أو أيّ مواقع أخرى على الشبكة العنكبوتيّة. ويعدّ موقع (Keyhole) من المواقع التي تساعد على تحليل محتوى مواقع التواصل الاجتماعيّ من خلال إدخال كلمات مفتاحيّة أو وسم (hashtag) الموضوع الذي نودّ معرفة نسبة التفاعل معه، كما نستطيع من خلال هذا الموقع معرفة توجّهات سكان العالم الافتراضيّ ومشاعرهم تجاه المواضيع المتداولة.
وبعد إجراء التحليل تبين أنّ أكثر ما يتم تداوله في العالم الافتراضيّ هو «الترند»، الأسماء والعناوين التي تطلق على المواضيع الجديدة وتتوالد بشكلٍ يوميّ، فلا يوجد مواضيع محدّدة يتحدث عنها روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ، فهم يتكلّمون عن كلّ شيء وعن أيّ شيء يُقدّم لهم، ومن الأمثلة على ذلك، أنّه في حادثة احتراق كنيسة نوتردام في فرنسا، تفاعل أكثر من 17 مليون عربيّ مع الحريق، مستخدمين وسم (نوتردام) على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وقد تنوّعت مشاعر المتفاعلين بين الإيجابيّة والسلبيّة، وفي المقابل نلاحظ أنّ التفاعل مع وسم القدس عاصمة فلسطين (القدس_عاصمة_فلسطين) لم يتجاوز المليون متفاعل في العالم العربيّ، وكذلك الأمر بالنسبة لغيره من الموضوعات.
تختلف مكانة «الترند» وتتباين، فثمّة «ترند» عالميّ ينشأ من حَدَثٍ عالميّ، ويشارك فيه أفراد من مختلف أنحاء العالم، وثمّة «الترند» الوطنيّ الذي يتداوله أبناء الوطن الواحد، مضافاً إلى «الترند» المحليّ الذي يتداوله أفراد جماعة محلّيّة. ويساعد التفاعل على هذه «الترندات»، وتداول «وجبات المعلومات السريعة»، بغض النظر عن أهمّيّتها أو تفاهتها، على تعزيز الشعور بالانتماء عند الفرد الافتراضيّ، وخلق وهم الوعي وتخمة المعرفة.
يقع الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعيّ تحت رحمة اللّغة، فهم يشاركون ويتفاعلون ويهدرون أوقاتهم في إنشاء مصطلحات وتداول أسماء وعناوين لمفاهيم وموضوعات مجهولة لديهم. وينشأ «الترند» إمّا من حدث أو قصّة محلّيّة أو وطنيّة أو عالميّة في الحياة الواقعيّة، ويتمّ تناقله بعد أن يُلصق به اسم ووسم على مواقع التواصل الاجتماعيّ، التي فتحت باباً واسعاً لكلّ فرد لإبداء رأيه بغضّ النظر عن مستوى فهمه أو معرفته بالموضوع المتداول. وإما ينشأ من قبل الذباب الإلكترونيّ[2] الذي يعمل على خلق «ترند» لإعادة توجيه الرأي العام أو خلق وعي زائف تجاه قضايا سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، ويتم ذلك عن طريق إنشاء وسم ونشره والتفاعل معه بشكل كبير من قِبَل الذباب الإلكترونيّ حتى يتصدر قائمة «الترند» على المنصّات الاجتماعيّة في الدول المستهدفة أو على مستوى العالم. وتلعب اللّغة دوراً مهمّاً في عمليّة التحفيز والاستجابة وتغيير السلوك الاجتماعيّ، فثمّة جيوش إلكترونيّة على منصّات التواصل الاجتماعيّ عملها الأساس إنشاء دلائل لغويّة، والتلاعب بالكلمات من أجل صياغة وعي جديد تجاه قضايا ومفاهيم مجهولة عند الأفراد على منصّات الإعلام الجديد.
لقد أفرزت الشبكات الاجتماعيّة أشكالاً جديدة من الفعل الجماعيّ، فمن خلال هذا التفاعل اللّغويّ تتّسع الآراء وتنتقل المعلومات بسهولة، ويتشكّل من خلالها وعيٌ غير مكتمل، باعتبار أنّ هذه المنصّات تمنع من تعميق الأفكار وتكاملها، وتطرح رؤوس أقلام تتحوّل ضمن ثقافة الجمهور إلى مسلّمات قبل فحص كلّ جوانبها ومبانيها وزوايا النظر فيها. ويقف خلف هذه المنصّات مجموعات موجّهة لطرح خطاب محدّد للجماهير الافتراضيّة، وهذا يتطلّب دراية أكبر، وهو ما لا يمكن للفرد المثقف القيام به منفرداً، بل تحتاج هذه المنصّات إلى المؤسّسات المثقّفة لمتابعة آخر المعطيات والإشكاليّات التي تواجه الأفراد في مواقع التواصل الاجتماعيّ. فالتصدّي في عالم مفتوح ومباح يحتاج إلى عمل مؤسّساتيّ قائم على تحليل المعلومات المطروحة ورصدها، ليستطيع المثقّفون تقديم المعالجة وإعادة صياغة وعي متوازن يقلّل من سلبيّات منصّات التواصل الاجتماعيّ، ويدفع لرفع أرصدتها الإيجابيّة في حركة المعرفة والتغيير.
في الخلاصة، تدلّ اللغة على الواقع الاجتماعيّ، فالأفراد في العالم الافتراضيّ لا يعيشون في عالم موضوعيّ فقط، ولا في عالم النشاط الاجتماعيّ فقط؛ بل يعيشون تحت سلطة اللّغة الخاصّة بهم والتي أصبحت وسيطاً للتعبير عن آرائهم، ونحن ـ كما في الحياة الواقعيّة ـ لا نستطيع التكيّف على مواقع التواصل الاجتماعيّ دون استخدام اللغة. والعالم الافتراضيّ مبني على أساس التفاعل من خلال استخدام اللغة إلى حدّ كبير؛ لذا تقع على عاتقنا مسؤوليّة كبيرة في كتابة أو تداول وإعادة نشر كلّ ما يُطرح على المواقع الافتراضيّة، فمنصّات الإعلام الجديد ليست منصّات أكاديميّة إنّما هي منصّات اجتماعيّة مفتوحة يتكّلم فيها العالم والجاهل عن كلّ شيء، ولا تتحدّد هويتنا فيها إلا عبر الكلام، فأنا أتكلّم إذاً أنا موجود.
-----------------------------