-----------

وسيم

{ فاطمة كريم }

وسيم

حاول فتح عينيه، لم يستطع، حرّك شفتيه ليستغيث، لكنّ صوته غَرِقَ في جوفه، ولم تصدر عنه سوى أنّة ضعيفة نبّهت الجالسين حوله إلى أنّه قد استعاد وعيه.

يدٌ دافئةٌ مرتعشةٌ شدّت على يده، وتناهى إلى سمعِه صوتُ بكاءٍ خافت.

خفق قلبُه فزَعًا، جمُدَ وحاول تذكّر شيء ما؛ راحت الصور تتبعثر في رأسه، والأصوات تختلط. رأى أباه واقفًا أمام باب غرفته يلوّح له بمفتاحٍ ويضحك، سمع صوته وهو يقول: «أيّها الشاب المغرور، لو كنتُ أعلم أنّي سأحظى بهذا العناق وكلّ هذه القبلات، لكنت أهديتك سيّارة منذ زمن»! رأى وجه «وفاء» الباسم، ضحكاتها الجميلة، سمع صوتها الرقيق وهي تقول له: «أنا أسعد مخلوقٍ على وجه الأرض»... ثم سمع صراخها، ومعه سمع صوت إطارات سيّارته، رأى يديه تحاولان عبثاً التحكّم بالمِقْوَد، كان آخر ما رآه  أشجار الصفصاف التي ملأت الوادي، وقد انقلبت رأسًا على عقب...
«وفاء»  أول كلمة نطق بها، وهو يرقد على سرير المستشفى، مضمّد الرأس، مغمّض العينين. كان قلبه يخفق بسرعة، خشي أن يسمع ما يكره، لكنّه هدأ لمجرد سماع صوتها.
«أنا هنا، بجانبك» دنت من أذنه وشدّت على يده.

«لا ترهق نفسك، ستكون بخير»

كان صوته ضعيفًا «ماذا حصل؟ هل أصابك مكروه»؟

قبّلت يده، وبحنوٍّ قالت: «الحمد لله أنّك لا تزال على قيد الحياة» ثم أجهشت بالبكاء.

“وفاء”!

أرادت أن تضبط نفسها لكنّها لم تستطع...

بصعوبة بالغة رفع يده اليمنى ووضعها على رأس وفاء.....

في قرارة نفسه كان يعرف ما أصابه، لم يحتج لسؤال أحد. صام لسانه عن الكلام، ولم يُسمَع صوته لساعاتٍ خمسٍ متتالية.
كان والده يجلس منكسراً فوق رأسه، ينظر إلى وحيده كيف باغته القدر، وانتزع منه عينيه.

وبينما يراه على سريره تلفّه الضمادات من كل جانب، رأى الوالد نفسه واقفاً في المستشفى فوق رأس زوجته «وسيمة»، وهي تحتضن طفلاً بقماطٍ أبيض.... رنّ صوتها في أذنيه وهي تضحك وتقول: «كلّه لي، لا يشبهك في شيء! انظر ما أجمله، انظر إلى هاتين العينين الساحرتين، أليستا كعينيّ”!
«وسيمة» كانت اسمًا على مسمًّى، كان يعشق النظر في وجهها المدوّر؛ عيناها اللتان أورثتهما لطفلها كانتا بلون ورق الزيتون، تلمعان بشكلٍ غريب.

«سأسميه وسيم، ما رأيك؟ أنا حقاً أغبطك يا زوجي العزيز، مَنْ مثلك وقد صار لديك وسيمة ووسيم”!

انهمرت الدموع من عينيه، وكأنّه بعد تلك السنوات الطويلة عرف حكمة رحيلها باكراً!!

 لم يشأ الله أن تشهد هذا اليوم، لم يُرِد الله أن ترى «وسيمها» وقد انطفأ النور في عينيه!...

قسا القَدَر على «أبي وسيم»، فأخذ منه محبوبته على حين غَرّة. صار يرى «وسيمة» في عيني «وسيم»، واليوم وقد انطفأت تلك العينان، فقدَ كلّ أملٍ في الحياة. حاول أن يكون قويّاً متماسكاً، لكنّه كلّما اختلى بنفسه انهار...كانت الليلة الأولى بعد الحادث الذي نجت منه «وفاء» بأعجوبة، وفَقَدَ إثره «وسيم» بصره. طلب منها بإصرارٍ أن تذهب إلى البيت لترتاح، فانصاعت لرغبته مكرهة، لكنّها كانت تعلم أنّه بحاجةٍ لخلوةٍ مع نفسه. قبّلته في جبينه فوق الضمادات، قبّلت عينيه بتأنٍ شديد. «أنا أحبك»، خطَت باتجاه الباب ثم استدارت لتسأله كعادتها إن كان يُفضِّل أن تطفئ النور، لكنّ قلبها اعتصر ودموعها سالت على وجنتيها، فغادرت بصمت.
بكى «وسيم»، وكانت هذه المرة الأولى التي يبكي فيها منذ وفاة أمه...، لم يدرِ إن كانت عيناه تذرفان دمعًا أم لا! لكنه شعر بالنار تستعر فيهما. شعر بوحشةٍ قاتلة، واستبدَّ به الخوف. كان ضعيفًا كعصفورٍ صغير ولد منذ لحظات، ريشه لم ينبت بعد، عيناه مطبقتان، وقد هبّت ريحٌ باردةٌ جعلت جسده الهشَّ يرتعش. اشتاق لأمّه، تمنى لو يستطيع أن يغرق في حضنها، تمنّى لو أنّها لم ترحل عنه أبداً، تمنّى لو كان باستطاعته أن يغفو بأمانٍ بين يديها. ناداها بصمت، صرخ بصمت، بكى متفجِّعاً بصمت. لم يلقَ منها جواباً...

لم يشعر بالضعف يومًا! شابٌ جميل الوجه، قوي البنية، أنيقُ المظهر، وهبه اللَّه أبًا أغدق عليه من الحبِّ الكثير الكثير، وكأنّه أراد أن يحبّه مرّةً عنه ومرّةً عن أمّه!

فقده لأمّه وهو في سن العاشرة جعله يحظى برعاية بالغة من محيطه إضافة إلى أبيه، ارتاد أفضل المدارس ثم أفضل الجامعات، لم يقل له أحد «لا» قطّ! حتى «وفاء» التي كانت زميلته في الجامعة، حين تقدّم لخطبتها وافقت بسهولة. لم يقف في وجهه أيّ شيء، لا شيء!
قال له أبوه ذات مساء: «جموحك صار يخيفني يا ولد». ردّ ضاحكاً: «تبالغ دائماً يا والدي». لكنّه لم يكن يبالغ، كان «وسيم» شاباً مغترّاً بنفسه؛ «هل تدري بأنّ كلّ من يراك وأنت تمشي في أروقة الجامعة يظن بأنّك مديرها أو ابنه»؟ حدّثته «وفاء»، ضحك بصوت عالٍ «لا مشكلة، يحق ليّ الغرور، يليق بي، أليس كذلك»؟

«أنت تعلم أنّي شديدة الإعجاب بك، ولكن تعلم أيضاً أنّي لا أحبّ هذا التعالي يا حبيبي، تكاد تشعر أنّك جبلٌ لا يهزّه شيء»!!!

  قاطعها: «أنا حقًا أشعر بذلك، ولست آسفاً يا عزيزتي».

استذكر كل ذلك، ضاقت به الدنيا... أُنهك وغفا، رأى نفسه يقف فوق قمة جبل شاهق يلاحق بنظره طيراً كبيراً جداً، وإذا بالطير يتّجه نحوه بسرعة، ويدفعه فيهوي إلى وادٍ سحيق. صرخ من أعماقه، ولم يهدأ صراخه إلا بعد حقنة مهدّىءٍ أُعطيت له في المستشفى.

مرت الأيام ثقيلة مُرةً على «وفاء»، اشتاقت نفسها للبهجة والفرح. كلّما نظرت إلى وسيم شعرت بالصخور تجثم فوق صدرها. لم يكن عمّها أفضل حالاً منها، فقد كبر سنواتٍ في غضون أيام. كان وجه وسيم لا يشبهه أبداً، حدقات عينيه بالكاد تتحرك، ينظر دائماً إلى الأرض منكِّساً رأسه، شفاهه لم تعد تجيد التبسّم، وجهٌ شاحبٌ، وجسدٌ هزيلٌ، والكثير الكثير من الحزن واليأس الكفيلين بإحالة ربيع العمر إلى خريف موحش.

كُثُرٌ من المحبين والأقارب جاؤوا لزيارته، سمع مواساتهم، كلماتهم الموجعة له أحياناً: «الطب تطوّر، غداً تسافر للعلاج وتعود لنا كما كنت!»، «قد تجد متبرعاً، لا تفقد الأمل فأنت أمل خطيبتك وأبيك».

 صار ينتظر الليل، ففيه هروبه من كلّ أولئك. يأنس بالظلمة الحالكة، ويسترخي حين تخفت كلّ الأصوات. رأى حقيقة نفسه، عجزه وضعفه! ضحك وحده في جوف الليل، ضحك وعلا صوت ضحكه! كيف يمكن للأعمى أن يبصر من الحقيقة ما لا يبصره مبصِر! ثم بكى.

بكى بانكسار، كان وحيداً لا مؤنس له. شعر بجسده يرتجف، دموعه بلّلت وجهه وكفيه، قلبه كان يهرول في أزقةٍ موحشةٍ في جوف ليلٍ أصمّ، يهرب من زقاق إلى زقاق، يبحث عن نورٍ يعيد إليه الأمان، تاه وسقط على ركبتيه، خارت قواه، شيء ما جعله ينظر نحو السماء، خيطٌ من نور لاح له وسط كل ذلك الظلام. مدَّ يديه نحوه مستنجداً متوسلاً، رأى «وسيمة»، تمسك بيد طفلٍ جميل يشبهها، تعبر به من بقعةٍ موحلةٍ إلى حديقةٍ غنَّاء، تقطف له الزهر وتحكي له: «كان يا مكان، طفلٌ وسيمٌ يشبه ورد الأقحوان...».

رأى الطفل يتعثّر، تحمله أمّه وتقول: «قل يا ربّ، هيّا قل...»

غفا، رأى نفسه واقفاً في وادٍ سحيق، ينظر إلى طيرٍ كبيرٍ جدّاً يقف فوق قمّةٍ شاهقة، وإذا بالطير يتّجه نحوه مسرعاً، يلتقطه برجليه ويحلِّق، حلَّق به عالياً حتى أوصله إلى قمّة الجبل. نظر إلى السماء، رأى كفين مرفوعتين بالدعاء، ومن خلفهما وجهٌ مدوَّر، عينان بلون ورق الزيتون تلمعان بشكل غريب..