-----------

كن مدبراً ولا تكن مسرفاً..

{ فاطمة نعمة الله شعيتو }

كن مدبراً ولا تكن مسرفاً..

لا شكّ أنَّ الحياة في المجتمع المدنيّ الحديث صارت أكثر تعقيداً وتداخلاً من الناحيتين الاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ وذلك بالنظر إلى التطوّر التنمويّ السريع الذي شهدته العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن.

لكنّ على الرغم من أهمّيّة هذا التطوّر الهائل وما قدّمه للمجتمعات البشريّة، إلا أنّه أفرز بعض الآثار السلبيّة التي مسّت حياة الأفراد وخاصّة الشباب، ومنها: الاستهلاك المتزايد، بروز مظاهر استهلاكيّة غير رشيدة، حمّى الشراء، هوس التسوّق، إدمان الاستهلاك، الاستدانة والقروض المتوالية... وغيرها من الأمور التي بتنا نشهدها تسيطر على مجتمعنا، وتأسر شبابنا.

ولا شك أنَّ الأسرة لها دور أساس في الحدّ من هذه المشاكل، انطلاقاً من التخطيط الناجح لإدارة حياتها وحياة أفرادها، وانتهاءً بالأساليب الواعية التي تعتمد عليها في ترشيد نفقاتها ومصاريفها.

فما هو السبيل إلى تدبير المعيشة؟ وكيف يمكن وضع ميزانيّة اقتصاديّة ناجحة للأسرة؟

حسن التدبير حفظٌ للنعم:

إنّ ترشيد الاستهلاك يعني الاستخدام الأمثل للموارد[1]، وسدّ الحاجات المعيشيَّة، والتّوازن والاعتدال في الإنفاق[2]. وهو مصداق قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [3].

ولا شكّ أنَّ ترشيد الاستهلاك الأسريّ يتضمّن الحديث عن مجموعة من الأمور، التي تبدأ من الحاجات الأساسيَّة لأفراد الأسرة، وهي: الغذاء، والملبس والمسكن.

فكيف يمكن تحقيق التوازن والاعتدال في الاستفادة من هذه الحاجات؟

ورد في الحديث الشريف: «المال مال الله، جعله ودائع عند خلقه، وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً،.. ويركبوا منه قصداً..»[4].

لذلك لا بدّ من اعتماد مجموعة من الأسس الخاصّة بترشيد الاستهلاك، وإدارة الاقتصاد الأسريّ، أهمّها:

1 - تعزيز الوعي لدى أفراد الأسرة حول موضوع الاستهلاك والإسراف، كلٌّ بحسب قدراته وطاقاته؛ فالعامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بُعداً[5].

2 - تربية أفراد الأسرة على القيم الاقتصادية، ومنها حسن الادخار، وحسن الاستثمار، والقناعة والرضى بما قسمه الله تعالى من الأرزاق.

3 - الإنفاق في سبيل الله؛ وهو من مقوّمات الشخصيَّة الإيمانيّة؛ لذلك حثَّ الإسلام على إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، وأكَّد على مبدأ الإنفاق الواجب والمستحب والمباح. قال تعالى: (لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم) [6].

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): «لا خير في السرف، ولا سرف في الخير»[7]؛  أي إنَّ الإسراف منهيٌ عنه؛ لأنَّ فيه تضيّيع للمال، وهو من مصاديق الباطل.

 أمَّا إذا كان إنفاق الإنسان في طاعة الله، وتقديم الخير والعون للآخرين، فإنّه لا يُعدُّ إسرافاً.

4 - الوسطيّة في الإنفاق: وهي من أهم مقوّمات الاقتصاد الأسريّ الناجح، والمقصود من الوسطيّة التوازن والاعتدال في الإنفاق، وعدم الجنوح نحو الإفراط أو التفرِيط، ولا الإسراف أو التقتير والبخل. كما في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [8].

5 - حُسن الادّخار؛ الادّخار يكون حميداً إذا كان الهدف منه حماية اقتصاد الأسرة والحفاظ على تماسكها، حتى أنّ نبيّاً من أنبياء الله تعالى قد تولّى هذه المهمّة بنفسه؛ وقصّة نبيّ الله يوسف في القرآن الكريم خير دليلٍ على أهمّيّة الادّخار[9]. أمّا إذا كانت أهداف الادّخار لا تنسجم مع حكم العقل والشرع، فسيكون حينها مذموماً ومنهيّاً عنه؛ لأنّه يعدّ تسخيراً للثروة في غير رضى الله، وقد يكون في هذا الادّخار حرمان للنفس، والأسرة، والمجتمع من المنافع والثروات التي سخّرها الله تعالى.

6 - إعداد ميزانيّة ماليّة خاصّة بالأسرة؛ وذلك من خلال وضع خطة ماليَّة لتحديد طريقة استعمال الدخل الماليّ في فترة زمنيَّة محدَّدة، قد تكون سنويَّة أو شهريَّة أو أسبوعيَّة أو حتّى يوميَّة، في ضوء الأهداف المنشودة. والهدف منها الموازنة بين دخل العائلة ونفقاتها[10]، الأمر الذي يقود حتمًا إلى توفير بعض المال إمّا لتسديد القروض، أو لزيادة حجم المدّخرات التي تظهر الحاجة إليها في وقت غير متوقّع أحياناً، أو لاستثمار هذه المدخرّات لاحقاً لزيادة مداخيل الأسرة.

وبما أنّ ميزانيّة الأسرة تشكلّ تحدّياً كبيراً أمام أفرادها، وتلافياً للوقوع في الأزمات الماليّة، فلا بدّ من اتخاذ خطوات عاجلة لإدارة المصاريف على أساس حجم الدّخل الشهريّ، وأهمّها:

الخطوة الأولى: تحديد الدّخل الماليّ للأسرة؛ وهو العائد النقديّ الذي يحصل عليه الزوج أو الزوجة أو الأبناء مقابل العمل، مضافاً إلى العائد الذي يحصل عليه صاحب رأس المال المستثمر في قطاع معيّن، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدخل الذي يحصل عليه الفرد بشكل عينيّ، مثل: الخدمات التعليميّة، أو الصحيّة المجانيّة.

- الخطوة الثانية: تدوين النفقات المتوقعّة

بناءً لاحتياجات الأسرة، وتشمل:

    * نفقات الطعام والشراب

    * نفقات الملابس

    * نفقات التعليم

    * نفقات الطبابة والاستشفاء

    * الأقساط والفواتير (كهرباء، ماء، هاتف، إنترنت، وما شابه)

    * مصاريف التنقّل

    * مصاريف التسليّة والترفيه

    * الحقوق الماليّة الواجبة والمستحبّة

    * المصاريف الطارئة (مثل: متطلّبات العلاقات الاجتماعيّة والدعوات وما شابه ذلك).

- الخطوة الثالثة: تحديد الأولويّات في إنفاق الأموال: إنَّ الدَّخل المحدود، والإمكانيّات القليلة، وغلاء الأسعار، أمورٌ تحول دون قدرة الإنسان على تلبيَّة جميع متطلّبات حياته؛ لذلك لا بدّ من العمل على تلبيَّة الضرورات أوّلاً، ثمَّ الاحتياجات، ثمّ الكماليّات.

ويُقصد بالضرورات النَّفقات التي تتوَّقف عليها الحياة، مثل: الطعام، والشراب والمسكن، والصحَّة، أمّا الاحتياجات، فهي: ما يرفع الحرج، ويدفع المشقَّة عن النَّاس، أمّا الكماليات، فهي ما يوفّر الحياة الطيّبة، ورغد العيش دون إسرافٍ أو معصيَة[11].

- الخطوة الرابعة: مقارنة الدّخل المالي مع النَّفقات الأسريّة؛ فإنّ التوازن بين الإنفاق والدخل الماليّ، مؤشرٌ على نجــــاح الخطّة الاقتصاديّة للأسرة. وفي هذه الحــــالة يمكن أن يُستثمر المال الفائض في الأمور المشروعة، ويدّخر لوقت الحاجة؛ أمّا في حال رجحان كفّة النفقات الأسريّة على مدخولها الماليّ؛ فإنّ ذلك مؤشرٌ إلى وجود خلل واضح في التَّخطيط لميزانيَّة الأسرة، وفي مثل هذه الحالة ينصح الخبراء الاقتصاديّون بإعادة النظر في تحديد الأولويّات، والسعي إلى زيادة الدخل الماليّ من خلال العمل الإضافيّ والاستثمار[12].

 ختامًا، إنَّ الأسرة التي تُحسن التدبير في معيشتها، ينعم أفرادها بالحياة الطيّبة، والاستقرار على مختلف المستويات النفسيّة، والروحيّة، والبدنيّة، ويعيشون في مجتمعهم بعزّة وكرامة، بما أفاض الله عليهم من نعمٍ استطاعوا استثمارها والمحافظة عليها.

فكونوا مدبّرين

ولا تكونوا مسرفين...

--------------------------------

[1]- الموارد تكون: إمَّا موارد بشريّة: الميول، الاتجاهات، الطاقات، المهارات، القدرات. وإمَّا موارد غير بشريّة: الوقت، المال، الممتلكات، تسهيلات المجتمع.

[2]- يراجع: القيسي، كامل: ترشيد الاستهلاك في الإسلام، ط1، 2008م، دائرة الشؤون الإسلاميَّة والعمل الخيريّ، دبي، ص: 7.

[3]- سورة الفرقان، الآية: 67.

[4]- النوريّ، حسين: مستدرك الوسائل، تحقيق: مؤسسة آل البيت b لإحياء التراث، ط2، 1408هـ، بيروت، ج13، ص: 52.

[5]-  الكلينيّ، محمد بن يعقوب: الكافي، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط3، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، ج 1، ص: 44.

[6]- سورة آل عمران، الآية: 92.

[7]-  الشاهرودي، علي النمازيّ: مستدرك سفينة البحار، تحقيق وتصحيح: النمازي، حسن بن علي، لا ط، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم المشرفة، ص: 22.

[8]- سورة الإسراء، الآية: 29.

[9]-  يراجع: سورة يوسف، الآيات 46-49.

[10]- يراجع: كوجك، كوثر: الإدارة المنزليَّة، ط2، دار النشر، عالم الكتب، القاهرة، 1977م، ص: 131-132.

[11]- يراجع: فتحي، محمد: إدارة البيوت، (لا ط)، مؤسسة إقرأ للتوزيع والنشر والترجمة، (لا م)، ص: 57.

[12]- يراجع:  كوجك، الإدارة المنزليَّة، (م.س)، ص: 131-132.