(1)
سامي وسلمى أخوان يَسْكنان في قريةٍ جَبَليَّة بعيدة عن العَاصِمة.
سامي فتىً أسمرُ طويلُ القامةِ، وسلمى فَتَاةٌ سمراءُ، عَيْنَاها سَوْدَاوان وِاسِعتان.
الأخوان مُتفوِّقان في المَدْرسة، يَهْويَانِ المُطالعة.
يَسْكنُ الأخوان، مَعَ أبويهما، في منزلٍ جميلٍ تحيطُ به حديقةٌ واسعةٌ.
كانَ الأخوانِ يجلُسان، عَصَرَ ذَاتَ يومٍ، في فَيءِ شَجَرةِ صَنَوبرِ تَقَعُ في وسَطِ الحديقة، وأَمامهُما طَاولةٌ حجرَّيَّةٌ. في وسطِ الطَّاولة، طبقُ فواكهٍ متنوَّعةٍ، وقُرْبُه كتابٌ عنوانُه: “فارسُ مدينةِ الجِنان”، العُنوانُ ملوَّنٌ بالأخضر، ويَعْلُو صورة مدينةٍ، شوارعها واسعةٌ ونظيفة، ومَبَانيها مُتناسقَةِ الألوانِ.
قالتْ سَلْمَى: ما أجْمَلَ هذه الصُّورة!
عًرُضَتْ ابتسامةُ سامي، وقال: الفَضْلُ في هذا الجمالِ، بَعْدَ اللّه سُبْحانه وتعالى، يعود إلى فارس، وأَبْناء مَديْنَتهِ الذين تَعَاونُوا معه...
قَاطَعَه صوتٌ عالٍ يقول: ما دُمْتَ تحكِي عن التَّعاوُن، نريدُ منكُما أن تَتَعَاونا مَعَنا هذه الليلَة.
التَفَتَ الأَخوان، فإذا بأبيهما يَقِفُ خلفهما، وقفا، ومسَّيا بالخير. اقْتَرَبَ منهما. حَضَنَهُما. قال سامي: نحنُ مستعدَّان...
وسَألتْ سلمى: نَتَعَاونُ على مَاذا؟
فقال: تَعْلَمان أنَّ شَهْرَ رَمَضان اقترب، وأنَّ كثيراً من سكَّان قريتنا لا يجدُون فُرَصاً للعمل، وهُمْ بحاجَةٍ للمُسَاعدة...
قالَ سَامي: نَعْلَمُ هذا.
وأضَافَ، وهو يُشيرُ إلى الكِتَاب الذي يتوسَّطُ الطَّاولةِ. القصّةُ التي قرأناها، في هَذا الكِتَاب، تُقدِّمُ الحلَّ لكلِّ قادرٍ على العمل...
نَظَرَ الوالدُ إلى الكتابِ، وتعلَّقت نَظَرَاتُه بالصُّورة، وقال: ما أَجْمَلَها صُوْرَهُ!
قَالَتْ سَلْمى: تصْبِحُ صورةُ قَريتِنا مثلها، إنْ فَعَلْنا ما فَعَلَهُ فارسُ وأبناءُ مَدِيْنَته.
قَالَ الوالدُ: تَسْهَرانِ مَعَنا، اللَّيلَةَ، إذاً، إذ سَيَأتي أَعْضَاءُ المجلس البَلَدي وبعضُ أثْرياءِ القَرْيةِ، الَّليلَة، إلى مَنْزِلنا، لنبْحَث في ما يَنْبَغي تقديمُه للمُحتاجِين في قَرْيَتِنا.
قالت سلمى: سَنُعِيدُ قراءةَ القصَّة إذاً.
وقال سامي: ونَحْكيها لكم، وأنْتُم تُقرِّرون ما سَوْفَ تَفْعَلون بَعْدَ سَمَاعِها.
قَبَّلَ الوالدُ وَلَديه، وقال: لا تَتَأخَّرا، سنَكُونُ في انْتِظَارِكُما.
انْصرف الأخوان إلى قِرَاءةِ القِصَّة من جديد، وتوجَّه الأبُ إلى المنْزلِ، ليُسَاعِد زَوْجَتَهُ في إعدادِ ما سَوْفَ يقدِّمانِه لضيُوفهما.
منذُ أنْ وصلَ، أخْبَرَ زَوْجَتَه بما حَصَلَ مع ابنيه، فَقَالْتْ له: كانَا يَسْألان دائماً: لماذا نجِدُ كثيراً من التَّلامذةِ الفُقَراء في المدرسةِ؟ ماذَا نَفْعَلُ ليتمَكَّنوا مِنْ لِبسِ ثيابٍ جديدةٍ نظيفةٍ، ويُشَارِكوا في نَشَاطاتِ المدرسةِ؟ فكَّرتُ في الأمرِ، وذَهَبْتُ إلى مكتبةِ المدينةِ واشتريتُ لهما الجزءَ الأوَّل من قصَّة سمعتُ زميلاتي في المدرسةِ يتحدَّثن عنها، قرآها وصارا كثيري الصَّمت، دائمي التفكير.
ضحكَ الأبُ، وقال: هكذا إذاً...
(2)
بَدَأتِ السَّهرةُ، بَعْدَ أن حضَرَ جميعُ المدعُوِّين. دارَ الحديثُ، مترافقاً مع احتساءِ القهوة المرَّةِ. لم تَكُن الاقتراحاتُ كثيرةً. لهذا، كاد يتمُّ الاتِّفاق على تشكيلِ لجنةٍ، تجمعُ المالَ الَّلازم، لإعِدْادِ مَوائد الإفطَارِ وشراءِ “كسوةِ العيدِ” للمحتاجين من أبناءِ القريةِ.
كان الأَخوانِ يجلسان في زاويةٍ من زوايا المجلس يُصْغيان إلى ما يقال. وعندمَا كادَ الاتفاقُ يتمُّ، نهضَ سامي، وقال:
- عُذْراً، إنْ تدخَّلتُ،... ما رأيُكم في أن ترْتَاحوا قليلاً، أَحكي لكم حكاية مدينةٍ كانت حالها شبيهة بحالِ قريتنا هنا، فقد تَسْتَفيدُون منها في تَعْديلِ قَرَاركم.
أعلن الجميعُ موافقتهم، فاقترب الأخوان. وَقَفَا في وسَطِ القاعة. أَنْزَل سَامي شاشةً على الحائطِ المواجِه للجَّميع. جَلَسَتْ سَلْمى أَمامَ الحَاسُوبِ، الموضوع على طاولةٍ أمَامَ الشَّاشةِ، ورَاحتْ تَنْقرُ أزْرَارَه. بدأ سامي بعرضِ صورةِ غلافِ القصَّة، وقال: هذه هي مدينة الجِنان...
راحَ سامي يحكي، ورَاحْت سلمى تُرَافِقُ حكيه بالصُّورِ الدَّالةِ الموضحة...
(3)
كانَ، يامَا كان، كانَ، في قديمِ الزَّمانِ أميرٌ عادلٌ، يحكم إمارَته بالعدْلِ والإحسان. أحبَّه أبناؤها وأحبَّهم، ولَمْ يُعكِّرُ صَفْوَ فَرْحَتِه سوى أمرٍ واحدٍ، وهو أنَّ إحْدَى مُدُنِ إمارَتِه الرِّيفيَّة كانت فقيرةً. كانت مدينةً تقعُ في سَفْح جَبَلٍ عالٍ، تُحيطُ بها أراضٍ واسعةٌ، غَيْرَ صالحةٍ للزِّراعة، وتكْثُرُ فيها الأشجارُ الحُرْجيَّة.
كــــانَ أبناءُ هذه المدينةِ كُسَالى، ويَعْتَمِدُون على المُسَاعَدات التي يوزِّعها الوالي عليهم. كانَتْ حصَّةُ هذه المدينة من موازنةِ الإمارة تُساوي ما تأخُذه أيُّ مدينةٍ أخرى من مُدنها.
لكنَّ هذه المدينة كانَتْ تبْقَى فَقيرة، وأبناؤُها يَبْقَون مساكين محتاجين، فسُمِّيت “مدينة المساكين”.
كانَ أبناءُ هذه المدينةِ يأخذُون المساعدة المالية، وسُرْعان ما يَصْرِفُونَها، ويَبْقَون مُحْتاجين...
فكَّر الأميرُ في ما يَنْبَغِي عملُهُ لحلِّ هذه المُشْكِلة...، ضاعَفَ حُصَّة المدينة من الموازَنةِ، غيَّر الوالي مَرَّاتٍ كثيرة، لكنَّ حالةَ المدينة بَقِيَتْ كما هي.
وكلُّ والٍ كانَ يفعلُ ما فَعَلَه الوَالي الذي سَبَقَه، وحُجَّتُه أنَّ أبناءَ المدينةِ كُسَالى...
عندما ازداد الأمرُ سوءاً، أَعْلنَ الأميرُ، في جميعِ مُدُنِ الإمارةِ وقراها، عن حَاجَتِه لوالٍ، يَأخُذُ كلَّ ما يَطْلُبُه، ليَحُلَّ مشكلة هذه المدينةِ، وإنْ نجح يَبْقى والياً، وإنْ أخْفَقَ يُعْزَلُ، ويُجْبَرُ على السَّكنِ في أسْوَأ حيٍّ من أحْياءِ مدينةِ المساكين.
مرَّت ستَّة أيَّامٍ ولم يتقدَّم أحدٌ.
في اليومِ السَّابع، اقتربَ رجلٌ طويلُ القامةِ، رثِّ الثِّياب من حرَّاس قصرِ الإمارة، وطّلَبَ مقابلة الأمير. أرادَ الحرَّاس طرْدَه، كانَ الأميرُ يقفُ على شُرْفَةِ مُطلَّةٍ. رأى الرَّجل فأشارَ إلى الحرَّاسِ بأنْ يُدْخِلوه. دخَلَ الرَّجلُ بخطىً ثابتة، حيَّا الأمير، وقال بلَهْجةٍ واثقةٍ: أنا فارسُ، من أبناء مدينة المساكين، جِئتُ لأُلبِّي طَلَبَ الأمير، أُعْجِبَ الأميرُ بجرأتِه وسأله:
- هل تعرفُ شُروطَنا؟
قال فارسُ: أعْرفُها وأقبَلُها، ولكن لي طلبٌ.
سأله الأمير: ما هو؟
أجاب فارس: أنْ تُعْطيني حرِّية التصرُّف، وأن تُعْطيني من المالِ ما أحتاجُه... ثم تُحاسبني بعد ستِّ سنوات.
قالَ الأمير: لك ذلك. وأمرَ بتلبية طَلَباتِه. عَادَ فارسُ إلى مدينتِهِ. اختار مجموعةً من الرِّجالِ الأكفَّاء، شكَّل منهم مجلسَ المدينة، وبَدَأ العَمَل. وسَّعَ الشَّوارع ونظَّفها، ودَعا القادرين على العَمَلِ إلى اسْتِصْلاح الأراضي.
لبَّى دَعوَته عددٌ قليلٌ من العمَّال، فأوقَف المُسَاعَداتِ، وقرَّر: “مَنْ يَعْمَلْ يَأخْذ أَجْرَهُ مُضَاعَفاً”.
بقيَ يَنْتظرُ قُدُومَ العمَّال...
في هذه الأَثْنَاء، أسَّس مدارسَ، وزوَّدها بأفْضلِ المعلِّمين، وأسَّس مهنيِّات خصَّص عدداً منها لذَوي الحَاجَات الخاصَّة، ومبرَّات للأيتام.
بَدأ العمَّالُ يُقْبِلُون على العَمَل...
وعندما كثر العَامِلُون في الأرض، تمَّ اسْتِصْلاحُها، فجَعَلَ قسماً منها مراعي لمواشٍ اشتراها، وقِسْماً آخر لزراعة الأشجار المُثْمِرة والحُبوب والخضار والشمندر السكري...، وأحاطَ الحقولَ التي غدَتْ خضْرَاء بأشجارِ الزِّيْنَة، فَبَدَتْ كأنَّها جِنانٌ تُسَبِّحُ الخَالقَ سُبْحَانه وتعالى.
بدأتِ الأرضُ والمواشي تُعْطِي خَيْرَاتِها، وكَثُر عطاؤها، فأقَام مصانع للألبانِ والأجْبانِ، ومَطَاحِنَ للحُبوبِ، ومصْنَعاً للسكَّر، وَوُرشَاً للنِّجارة والحِدَادَة وإعدادِ لوازم البناء...
تغيَّرت أحوالُ المدينةِ، وصَارَ أبناؤُها يَعْمَلُون ويَكْسَبُون، ويَرْغَبُون في مزيدٍ من الكَسْب...، وفي الإقَامةِ في بيوتٍ حديثةٍ جميلةٍ واسعةٍ. فوضَع مجلس المدينة مخطَّطاً لها ونظاماً يتَّبعه الجميع في إقامة منازلهم وحوانيتهم، فتمَّ توسيع الشَّوارع، والسَّاحات، وإقامةِ الحدائقِ العَّامَة، واتباعِ نظام في البناء يجعل الأَبْنية جميعَها متناسقة الأشْكَالِ والأَلْوانِ والأحْجَام.
مرَّت السنواتُ الست، وكان أبناءُ القرية يزدادون، خلالها، عِلْماً وخبرة وغنىً وإنجازات...
كانَ الأميرُ يتابع ما يحدثُ، فقرَّرَ زيارَةَ المدينةِ ليشاهِدَ التَّغيُّر الذي حدث، زارها من دون موكب، ففوجئ بما رأى... وهنَّأ أهلَ المدينةِ بصوتٍ عالٍ فَرِح: مباركةُ قريتكم...، قرية الجِنان.
(4)
سادَ الصَّمت لحظات، قطعه أبو سامي:
- نحن، ماذا علينا أن نفعل؟ هل نكتفي بتقديمِ المساعداتِ؟
قال رجلٌ: لا، لا يكفي، فهؤلاءِ الناس يحتاجون، هم وأولادُهم، أشياء كثيرة أخرى...
فقالَ رجُلٌ آخر:
- نفعلُ ما فَعَله فارس ومجلسُ مدينةِ الجنانِ، فَنُؤمِّن لكلِّ محتاجٍ فُرْصة عملٍ...
فقال جاره، وهو يحكُّ صلعته:
- نبدأ، منذ الغد، الاجتماعاتِ مع الأثرياء...، ولكن لا نلغي موائد هذا العام.
رَفَع الجميعُ أيديهم علامة الموافقة، ثمَّ توجَّهت الأيدي نحو الأخوين. وعَلَت أصواتٌ تقول: بأمثالكما تصبح بلادنا بلاد الجنان...