-----------

الإدمان الالكتروني أو العبودية الرقمية

{ د. سعيد عبيدي }

الإدمان الالكتروني أو العبودية الرقمية

لا شكّ أنّ التّقدم الهائل الذي يعرفه العالم في المجال الرّقميّ واستخداماته المتعدّدة، قد سهّل الحياة أمام الأشخاص الرّاغبين في البحث عن المعلومة، والاتّصال، والتّجارة، وتبادل الخبرات، وتسهيل العمليّات المصرفيّة، فضلاً عن استخدامه في الدّراسة والبحث والاتّصال بين مختلف مراكز الدّراسات والأبحاث والمراكز الطّبية والصّناعية وغيرها، ولا شكّ أيضاً أنّ هذا المجال الرّقميّ، مثل أيّ مجال آخر، له جوانب إيجابيّة وأخرى سلبيّة، أشدّها سلبيّة وأكثرها تأثيراً على صحّة الإنسان الجسديّة والنّفسيّة هو ما يمكن أن يُصطلح عليه «بالإدمان الإلكترونيّ»، وهو إدمان يحوّل حياة المرء إلى نوع من «الأسْرِ» السيِّئ والشّديد؛ حيث يكون فيها المدمن مقيّداً ومُستعبَداً لرغباته وحاجاته الإدمانيّة، فتضطرب حياته وتتمحور حول تلك الرّغبات الجامحة والقويّة للإدمان، وحين يتطوّر الإدمان يتقلّص التّناغم في الحياة بشكل تدريجيّ، وهذا إذا ما افترضنا – طبعاً - أنّ حياة المدمن كانت في الأصل سليمة ومتناغمة، هذا وقد بيّنت الحوادث أنّ ثمّة عدداً من المدمنين كانت حياتهم مفعمة بالعمل والإنتاج والتفاؤل والتّناغم العام، حتّى دخل الإدمان إليها، وبدأ الخلل يزداد يوماً بعد يوم[1].

 وفي بداية العمليّة الإدمانية (الإدمان الإلكتروني) يشعر الإنسان وكأنّه فعلاً الطّرف القويّ والمتحكّم في تلك العلاقة، ولكن سرعان ما يكتشف أنّ هذه السيطرة مؤقّتة، «فبعد ذلك يبدأ الموضوع الإدمانيّ بالإلحاح والطلب، ويشعر المدمن بقوّة هذا الإلحاح، لكنّه ما يزال يتمنّى أن يكون زمام الأمور بيديه، ونرى المدمن دائماً يجادل بأنّه مسيطر على دوافعه الإدمانيّة، وما نفيه لسيطرة الموضوع الإدمانيّ عليه إلّا إشارة واضحة على وجود الإدمان واستمرار العمليّة الإدمانيّة في التطوّر. إنّ الإنكار ما هو إلا جهاز دفاعيّ يؤكّد استمراريّة الإدمان، كما أنّ قبول المشكلة يعدّ من الخطوات الأساسيّة للحلّ، فالسّلوك الإدمانيّ يبدأ اختياريّاً غالباً، ولكن حين يستمرّ يفقد المدمن قدرته على الاختيار حتّى يصبح مستعبداً للعمليّة الإدمانيّة»[2].

 وقد برزت قضيّة الإدمان الإلكترونيّ بوصفها قضيّة اجتماعيّة كبيرة مع تزايد انتشار الإنترنت، فقد أشار علماء النفس إلى أنّ ثمّة شخصاً من بين 200 شخصٍ من مستخدمي الإنترنت تظهر عليه أعراض الإدمان، بل إنّ ثمّة أشخاصاً يقضون 38 ساعة أو أكثر على الإنترنت دون عمل أو حاجة تدعو إلى ذلك. ومن الممكن أن يضحّي بعضهم بالعمل، والمدرسة، والعلاقات الأسريّة، والمال... مقابل الجلوس أمام الكمبيوتر أو غيره من الأجهزة الرّقميّة، ويسمحون لهذه الأجهزة أن تدمّر حياتهم دون أن يشعروا بذلك[3].

وكان أوّل ظهور لمصطلح الإدمان الإلكترونيّ كان في العام 1995م، وذلك عندما نشر الأديب الأمريكيّ أونيل O’Neill مقالة تحت عنوان: «سحر وإدمان الحياة على شبكة الإنترنت» والتــــــي نُشرت في صحيفة نيويورك تايمز، ولم يحظَ هذا المفهوم بالقبول الفوريّ من قبل الصّحفيّين والأكاديميّين ومتخصّصــي الصّحـــــــــــة النّفسية، حتّى قدّمت عالمة النفس الأمريكيّة كيمبرلي يونج Kimberly Young في السنة التالية نتائج دراستها في الورقة البحثيّة بعنوان: «إدمان الإنترنت: ظهور اضطراب كلينيكيّ جديد»، وكان ذلك في الاجتماع السّنويّ للرّابطة النّفسيّة الأمريكيّة، ومنذ ذلك الحين ظهرت مصطلحات عديدة تؤكّد وجود ذلك الإدمان منها: الإدمان الإلكترونيّ، إدمان الإنترنت، الاستخدام المرضيّ الإلكترونيّ، الاستخدام القهريّ للإنترنت، اعتماديّة الإنترنت، وهوس الإلكترونيّات[4].

وقد أكّدت الدّراسات والأبحاث أنّ «مرضى» الإدمان الإلكترونيّ، وبخاصّة مدمني الإنترنت تظهر عليهم مجموعة من الأعراض، شأنهم في ذلك شأن باقي المرضى الآخرين؛ من هذه الأعراض: استخدام الإنترنت لمدّة زمنيّة طويلة لكي يتحقّق الرضى، الاستخدام المتكرّر، الجهود غير النّاجحة في ضبط هذا الاستخدام والسّيطرة عليه أو التّوقّف عن استخدامه، الشّعور بعدم الرّاحة والاكتئاب والتّهيج نتيجة محاولة الحدّ من استخدام الإنترنت، البقاء فترات طويلة في مواقع التّواصل أكثر ممّا هو مستهدف أصلاً، التّعرّض لخطر فقدان العلاقات المهمّة وفرص العمل أو فرص التّعليم، الكذب على الأسرة والمعالجين أو الآخرين بصفة عامّة لإخفاء مدى انغماسهم في الأنشطة الإلكــــترونيّة، استخدام الإنترنت وسيلةً للهروب من المشاكل أو للتّخفيف من المزاج المتعكّر، ظهور بعض المشاعر السلبيّة على المدمن، من قبيل: مشاعر اليأس، والشّعور بالذنب والقلق والاكتئاب[5].

ومن جهة أخرى أشارت بعض الدّراسات إلى أنّ مدمني الأجهزة الإلكترونية من كمبيوتر وهواتف نقّالة ولوحات إلكترونيّة وغيرها يواجهون مشكلات نفسيّة، مثل: العزلة الاجتماعية، الاكتئاب، الشّعور بالوحدة، سوء إدارة الوقت جرّاء الاستخدام المفرط، كما أثبتت هذه الدّراسات أنّ ثمّة تغيّرات لدى الأشخاص الذين يستخدمون هذه الأجهزة لمدّة تفوق 12 شهراً في مشاركتهم الاجتماعيــــــّة والنّفســـــــية... بالإضافة إلى اضطرابات نفسيّة أخرى بما في ذلك الاضطراب العاطفيّ[6].

وكما هو الشّأن بالنسبة لجميع أنواع الإدمان، فقد أجمعت جلّ الدّراسات على أنّ للإدمان الإلكترونيّ أضراراً متنوعة، أبرزها[7]:

أولاً: الأضرار الجسديّة؛ المتمثّلة في أمراض العيون والخمول والسمنة وترهّل الجسد والصّداع المستمرّ، ما ينعكس سلباً على القلب والدّماغ وباقي أعضاء الجسم الأخرى.

ثانياً: الأضرار النّفسيّة؛ المتمثلة في الاكتئاب الحادّ والعزلة وتفاقم المشاكل العائليّة والمادّيّة والمهنيّة.

ثالثاً: الأضرار الأسريّة المتمثلة في توتّر العلاقات بين الأزواج والآباء والأبناء؛ بسبب قلّة الوقت الذي يقضيه المدمن مع أهله وأسرته وأقاربه، ما يولّد نوعاً من عدم الرّضى، وفقدان والثقة بين أفراد الأسرة الواحدة.

رابعاً: الأضرار المهنيّة والدّراسيّة؛ حيث لا يستطيع المدمن تأدية واجبه على الوجه المطلوب منه بسبب ضياع وقته وكثرة سهره أمام الأجهزة الإلكترونيّة، ما يعرّضه لانتقادات دائمة، ويؤدي إلى رسوبه أو طرده من مقاعد العمل أو الدّراسة.

خامساً: الأضرار الماديّة، سواء أكان نتيجة الإسراف في شراء الأجهزة الإلكترونيّة المختلفة، أو نتيجة دفع فواتير كبيرة لشركات الاتّصالات، أو فواتير الاشتراك في المواقع للحصول على المواد المرئيّة والمسموعة.

وبعد أن أجمع الباحثون على أنّ الإدمان الإلكترونيّ مرض مثل غيره من الأمراض الأخرى، كان لزاماً البحث عن علاج لهذه الظاهرة الحديثة، على أن يكون هدفه الأسمى تحرير المدمن من قبضة أسر الإدمان وقهره، وذلك  من خلال تزويده بأدوات جديدة للعيش بتناغم وسلام، وفي خضمّ هذه العمليّة يجب أن نضع نصب أعيننا أنّ الشفاء هو- أيضاً- عمليّة مثل الإدمان؛ فكما لا يتطوّر الإدمان الإلكترونيّ بين ليلة وضحاها، كذلك يجب ألّا نتوقّع أن يأتي الشّفاء دفعة واحدة، وإنّما يحصل ذلك بالتّدريج، فالشّفاء من الإدمان الإلكترونيّ يعني حياة سليمة بنّاءة قائمة على تزويد المدمن بالأدوات اللّازمة التي تمكّنه من كسر دائرة الإدمان، وتمكّنه من أن يحيا حياة معقولة لها هدف ومعنى.

إنّ معالجة الإدمان الإلكترونيّ يجب أن تقوم – أولاً - على تغيير النّسق الفكريّ للشخص المدمن، والبحث عن الأسباب الحقيقيّة التي دفعته إلى الانغماس في هذا الأسْر؛ فالمدمن إذا ما استمرّ في النّظر إلى الموضوع الإدمانيّ بوصفه حلاً للمشاكل أو هروباً منها أو الإحساس من خلالها بالقوّة واللّذّة، فإنّ خطر العودة إلى الحالة الإدمانيّة السابقة يكون كبيراً جدّاً؛ لذلك وجب على المعالِج «أن يسعى نحو خلع جذور المشكلة بمواجهة المعتقدات، ودراسة كيفيّة تبنّي المدمن لتلك الأفكار حول إدمانه، والتّعرض لعناصر التّنشئة الاجتماعيّة المرتبطة بتعلّم تلك العمليّة، ونظرة المدمن للموضوع الإدمانيّ وعلاقته به، ونظرته لتأثير الموضوع الإدمانيّ على حياته، وبهذا التّغيير التّدريجيّ تضعف الأفكار الإدمانيّة التي هي مصدر السلوك، وهنا تأتي أهمّيّة «الحوار العلاجيّ» الذي يتعلّم المدمن من خلاله كيف يتقبّل الأفكار الجديدة، وكيف يتخلّى عن الأفكار الإدمانيّة المدمّرة أو يخفّ صوتها، وهنا لا بدّ أن نشير إلى أهمّيّة مهارة المعالِج وقوّة البرنامج العلاجيّ في نجاح أو فشل كلّ العمليّة العلاجيّة؛ فالمدمن يتردّد غالباً في الاستغناء عن الطّرق القديمة للتّفكير والتّصرف، وذلك إلى حدّ بعيد، لقد أصبح مؤمناً حقيقيّاً بالإدمان، حتى لو كانت حياته قد تدمّرت بسببه، وهنا تستطيع العمليّة العلاجيّة بفعل الحوار العلاجيّ الفعّال من اختراق الحواجز الفكريّة التي تفصل المدمن عن واقعه»[8].     

إنّ الحديث عن الإدمان الإلكترونيّ يطول ويتشعّب، فلا تكفي هذه السطور لتحديده والإحاطة بكل ما يتعلّق به، لكن ما يمكن أن نختم به هذه المقالة هو التأكيد على أنّ الخوض في هذا الموضوع لا يعني التوقّف التّام عن استخدام الأجهزة الإلكترونيّة، كالكمبيوتر والهواتف النقّالة واللوحات الإلكترونيّة وغيرها، بل يعني العمل على ممارسة الاستخدام المعتدل والأمثل، ووضع ضوابط وحدود للاستخدام، مع ضرورة وجود الرّقابة الأسريّة، والتوجيه الدائم للأبناء حتّى لا يقعوا في أسره وعبوديّته.                                  

يا أصدقائي،

لا تقعوا في الأسر والعبوديّة

------------------------------

[1] - يراجع: جواد فطاير، الإدمان: أنواعه، مراحله وعلاجه، دار الشروق، القاهرة، ص: 34.

[2] - (م.ن)، ص: 64-65.

[3]1- Voir: Huang,Z ; Wang,M ; Zhong,J; Chinese internet addiction inventory: Developing a measure of problematic internet use for Chinese college students; Cyber Psychology and Behavior; Volume 10; Number 6; 2007; P: 66..

[4] - يراجع: سلطان عائض مفرح العصيميّ، إدمان الإنترنت وعلاقته بالتوافق النفسيّ الاجتماعيّ لدى طلاب المرحلة الثانويّة بمدينة الرياض، رسالة أُعدّت لنيل شهادة الماجستير في العلوم الاجتماعيّة، كلية الدراسات العليا بجامعة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة، 2010، ص: 35.

[5]-  Young, K.S ; Internet addiction: Symptoms, evaluation, and treatment ; Vander Creek,L & Jackson,T (eds), Innovations in Clinical Practice: A Source Book; Sarasota; Vol 17; P:25.

[6] - يراجع: سلطان عائض مفرح العصيميّ، إدمان الإنترنت وعلاقته بالتوافق النفسيّ الاجتماعيّ لدى طلاب المرحلة الثانويّة بمدينة الرياض، ص: 10.

[7]- Chou,C., and  Hsiao,M.; Internet addiction, usage, gratifications, and pleasure experience: The Taiwan college students case; Computer Education; 2000; Volume 35, Number 1;P: 80.

[8]-  جواد فطاير، الإدمان: أنواعه، مراحله وعلاجه، (م.س)، ص: 154-155.