-----------

التكنولوجيا ومعركة الخيارات

{ حسين عمار }

التكنولوجيا ومعركة الخيارات

إذا قدم لك النادل لائحةً تحتوي على مئة صنفٍ من الأطعمة فإنه لا يقول لك: «ماذا تحبّ أن تأكل؟»، بل إنّه يقول لك: «ماذا تختار من بين الأصناف المئة التي أمامك؟».

هذا الواقع ليس بالضرورة أمراً سيِّئاً، حيث إنّ معظم الناس يميل لأن تحصر الخيارات أمامه، هو الميل الغريزيّ للراحة، لأنّ عملية اتخاذِ القرار هي عمليةٌ مرهقةٌ تتطلّب منك أن تلاحظ ظروفك الشخصية وأن تدرس النتائج المتوقّعة. أكثر من ذلك، بعض الناس لا يقبل بأن ترمي الاختيار عليه أصلاً، كأن تذهب إلى الطبيب مثلاً ويحصل هذا الحوار بينكما:

أنت أمام حلّين: إمّا أن تجري العمليّة، أو أن تبدأ بعلاجٍ طويلٍ. حسنات العملية ومخاطرها كذا وحسنات العلاج ومخاطره كذا.. قرّر.

أيّهما أفضلُ أيها الطبيب؟

لا يوجد شيءٌ اسمه أفضل! المعطيات أمامك، اختر.

طيِّب لو كنت مكاني ماذا كنت ستفعل؟

لست مكانك، أنت المريض وأنت من سيعاني من النتائج!

ألا يحصل هذا الحوار؟ السبب: كلّما قلّت الخيارات قلّت الحسرة وقلّت خيبة الأمل.

جاء الإعلام الجديد ليستغلّ هذه الخاصرة الرخوة في التركيبة البشرية استغلالاً متقناً ومدروساً، فهو لا يحدّد الخيار أمامك فحسب، بل إنّه يقودك نحو خياراتٍ أقلَّ ممّا يوهمك به. وبالعودة إلى أصل الفكرة: يُقال أنّنا بفضل الإعلام الجديد نعيش عصر الحريّات والخيارات المفتوحة. ربّما، لكنْ، هل إنّ هذه الثورة التكنولوجية في مجال الإعلام هي خيارٌ أصلاً؟ أعني هل لا زال بإمكانك اليوم أن ترفض ركوب الموجة التي أحدثتها هذه الثورة؟ اِرمِ هاتفك الذكيّ في أقرب بركة ماءٍ وتعال بعد أسبوعٍ واحسب ما خسرته في هذه الفترة مقارنةً بمحيطك وأجِب عن هذه الأسئلة بنفسك.

التكنولوجيا، رمالٌ متحركةٌ:

لماذا يستغرق أحدنا لأكثرَ من ثلاث ساعاتٍ متّصلة في مواقع التواصل؟

المؤكّد أنّ من يفعل ذلك ليس بالضرورة شخصٌ «فارغٌ” أو “عاطلٌ عن العمل»، بل على العكس، قد يفعلها مدير مؤسسةٍ ضخمةٍ وينسى جدول مواعيده حتى! المسألة لها وجهان، أحدهما تقنيٌّ والآخَرُ نفسيٌّ. لنشرّح هذه الفكرة سويّاً:

دعونا نفترضْ أنّ تطبيق الفايسبوك على هاتفك مثلاً هو «سلّةٌ”، البرنامج يقوم بتعبئة هذه السلّة تلقائيّاً كلّما أوشكت على النفاذ، بإمكانك أن تحرّك إصبعك صعوداً لمدة ساعة وسيجد البرنامج دائماً ما يعرضه لك. هذه الخاصيّة الرقمية تُدعى Auto refill. من سلالة «أوتو» تنحدر أيضاً خاصيّة الـ Autoplay أي التشغيل التلقائيّ، ستجدها في منصات الفيديو، فبمجرّد انتهائك من مشاهدة المقطع سيتم تشغيل المقطع الذي يليه تلقائيّاً. نعم يمكنك إيقاف هذه الخاصيّة لكنّها ستعود لتتفعّل عند دخولك إلى البرنامج من جديد. التكنولوجيا، إذاً، تقودك للاستغراق في عالمها حيث إنّها تستغلّ حبّ الاطّلاع لديك حيناً وبحثك عن التسلية حيناً آخرَ.

لا بدّ هنا من الإجابة عن سؤالٍ يُدخلنا إلى عمق هذا المستنقع من الرمال: كيف تُشكّل عالَمك المجازيَّ وتضع حدوده؟

لنفترضْ أنّنا اتفقنا على أنّ مجرّد دخول هذا العالَم أصبح ضرورةً لا بدّ منها، لكنْ بعد ذلك من الذي يتحكّم بحجم البيئة المجازية التي تندمج فيها أنت؟ الجواب مبدئيّاً هو: التكنولوجيا. وذلك إلى أن تلتفت أنت لهذا الواقع وتعمل على قلب الطاولة عليه.

- سأستمرّ في اعتماد الفايسبوك كمثالٍ لأنّها المنصّة الأكثر رواجاً:

جرّب أن تجلس مع شخصٍ لا يتواجد ضمن لائحة أصدقائك على فايسبوك، ستلاحظ بعد قليل أن اسمه قد ظهر أمامك في خانة «الأصدقاء المقترحين».

افتح منشوراً واستعرض أسماء الذي قاموا بوضع إعجابٍ عليه، سترى قرب كلّ اسمٍ زرّاً للردّ عليه بتعليق.

راقب الصفحة الرئيسية وستلاحظ أنها تعرض لك الصفحات والحسابات الشخصية التي يتفاعل معها أصدقاؤك.

راقب سياسة «الإشعارات» وسترى أنّها تحاول دفعك لأقصى حدٍّ من التفاعل.

أخيراً، المثال الأكثر وضوحاً برأيي: عندما تضغط على زرّ «رجوع» لتغلق برنامج الفايسبوك على هاتفك فإنّه يعود بك إلى رأس الصفحة ثم يقوم بتحديثها، حينها قد تجد ما يلفت اهتمامك مجدّداً لتستمرّ في عملية التصفّح.

هذه التفاصيل وغيرها متوفّرةٌ أيضاً في معظم منصّات الإعلام الاجتماعي الأخرى، لأنّها صُمّمت لهذا.

الآن، في ما يتعلّق بالجانب الاجتماعي والأخلاقيّ لهذه القضية، لا يمكننا الادّعاء سريعاً بمؤامرةٍ ما أو استهدافٍ ممنهجٍ لضرب العلاقات الاجتماعية المباشرة، الأمر منوطٌ بك كمستخدمٍ أوَّلاً. لكنْ، ما يمكن الجزم به هو بحث هذه الشركات عن مصلحتها دون مراعاة مصلحتك، إنّهم يقومون بخلق «الحاجة» لديك لتستهلك بشكلٍ أكبرَ.

وهم الخيارات

في الإعلام الالكترونيّ:

أمّا على صعيد الحريّات فالأمر أكثر تعقيداً، إنّ من يتحكّم باللائحة يتحكّم بالخيارات...

الكثير من الأسئلة ستختلف سبل الإجابة عنها بناءً على اللائحة التي تظهر أمامك:

“مع من سأخرج الليلة؟”: لائحة الأصدقاء الذين تواصلت معهم مؤخّراً عبر Whatsapp أو Messenger مثلاً.

“أين سأتناول الغداء؟”: لائحة المطاعم التي تقترحها عليك SIRI في iPhone والتي هي بالمناسبة اقتراحاتٌ مدفوعة الثمن بشكلٍ من الأشكال.

“ما هي آخر أخبار العالم؟”: لائحة الوسوم الأكثر رواجاً (Hashtag Trends).

“أيَّ فيلمٍ سأشاهد في السهرة؟»: لائحة الأفلام الأعلى تصنيفاً وفق معايير IMDB.

هل إنّ تصدّر فيديوهات  Challenge Kiki على حساب مشاهد اقتحام المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة، لمجرّد أن حجم التفاعل مع الأوّل أكثرُ بكثيرٍ، يدعم حرّيتك بالاختيار؟

لم تُبْنَ التكنولوجيا لتزرع بداخلك الخوف من أنْ يفوتك شيءٌ، لكنّها أصبحت كذلك. أصاب “مارشال ماكلوهان” حين قال: “الوسيط هو الرسالة»[1]، لأنّ الرسالة تختلف باختلاف الوسائط. صُمّمت التكنولوجيا لخدمة الإنسان، لكنّها اليوم تسخّر الإنسان لخدمة إنسانٍ آخرَ.

يا أصدقائي،

تحكّموا باللائحة لتمتلكوا القرار.

---------------------------------

[1]- “The medium is the message”, Marshall McLuhan (1911 – 1980).