-----------

التعددية الثقافية / Pluriculturalism

{ هادي قبيسي }

التعددية الثقافية / Pluriculturalism

الواقع أنّ التعدديّة الثقافيّة مفهومٌ متكثِّرُ الأبعاد والدلالات الاستعمالية. فمن ناحيةٍ هو يشير إلى الغنى والتنوّع الإنساني، والتعارف بين الشعوب والجماعات المختلفة. ومن ناحية أخرى يؤشِّر إلى جانبٍ سلوكيٍّ معياريٍّ يتعلق بضرورة احترام الثقافات رغم تناقضات منتجها المعرفي أو الأخلاقي.

 ويمكن فهم التعدديّة الثقافيّة كنقيضٍ للعولمة الجارية للحياة البشرية والتي أدت إلى دمجٍ ثقافيٍّ شموليٍّ تحت الإطار والنسق الغربي. وكذلك يمكن النظر إليه كأداةٍ يتمُّ استخدامُها لتفكيك الثقافات المعيارية التي لم تدخل بعدُ في اللعبة المابعد حداثويّة، والتي تسمح لأيِّ فكرةٍ أو مقارَبةٍ نظريّةٍ أو سلوكيّةٍ بنيل مشروعيتها مع توفُّر المحازبين، كما يستخدمه البعض الآخر لفتح الباب أمام العولمة بذريعة قبول الثقافة الطاغية والتي تستطيع الوصول والانتشار.

إنّه مفهومٌ يحكم معناه التداول والاستخدام، بحيث يقترب من الشعار السياسي المفتوح الذي يمكن استخدامه في كلِّ اتجاهٍ، ويتمّ تأويله بحسب القائل والمستمع. فكلُّ من يريد لثقافته أن تجد آذاناً صاغية لدى الثقافات الأخرى يلجأ إلى هذا العنوان المفهومي الذي يتخذ منحىً وصفيّاً لا معياريّاً، وتُشتَقُّ منه مقولاتٌ أخرى مثل احترام الرأي الآخر، حق الإختلاف والتمايز، لتتخذ منحىً سلوكيّاً حقوقيّاً، وتسمح بتداولٍ عمليٍّ وتطبيقيٍّ اجتماعيٍّ للمفهوم الأساس، وفق ذات الحدود الهشة في المعنى والدلالة والاستخدام.

لقد نشأ المفهوم بتركيبه الوصفي في الحقل التداولي الغربي وأُدرج في منظمة الأونيسكو عام 2001، في حمأة الاحتدام الحضاري بلغة هنتغتون[1]، كتعبيرٍ عن نيةٍ لتعميم هذه الفكرة ونشرها وإنضاج مؤدياتها على المستوى العالمي، في وقت تسارعت فيه حركة العولمة مع ثورة التواصل إبّان نهاية الألفية.

تتمتع الثقافة الغربية التي نشأ فيها مفهوم «التعدديّة الثقافية» بخاصية فقدان المعيار. وهي خصلةٌ اكتسبتها مذ انهارت الرؤية الكونية الدينية وتلاشت في ثقب جاليليو الأسود، ليتم استبدالها بحركة بحثٍ دائمةٍ عن الجزئيات وحركة فعلٍ مستمرَّةٍ نحو تسلط الإنسان على العالم والإنسان الآخر، ولذلك استطاعت أن تقدم نفسها ثقافةً منفتحةً على كل الخيارات كنقيضٍ مباشِرٍ للثقافات المعيارية التي تملك رؤيةً كونيةً مستقرةً ومكتملةَ العناصر،إذ تُحاكم الأفكار والطروحات عبر منظومة معاييرها.

لقد قدمت وسائل الوصول[2] بتعبير جيريمي ريفكين، فكرة التعددية كشعارٍ للتفوق الأخلاقي لتستخدمه في مواجهة ثقافاتٍ تمتلك أخلاقياتٍ حاسمةً في التعامل الغيري الحقوقي، على نقيض الثقافة والتجربة الغربية التي استباحت الآخَر حقوقيّاً وتحاول تفكيك هويته وأفكاره من خلال فتح المجال لنفوذ منهجٍ نقيضٍ للمعيارية.

ويبدو واضحًا أنّ كل الثقافات تخضع لعملياتِ فرزٍ ذاتيٍّ وتنوّعٍ وتعدّدٍ بشكلٍ طبيعيٍّ. لكنْ، ثمة استخدامٌ أداتيُّ للمفهوم يحوِّله إلى عنوانٍ لمشروعٍ سياسيٍّ يتطلب تسريع حركة الفرز الذاتي لتتحول إلى عمليّةِ تشظٍّ وتفكيكٍ، وربّما حركةِ صدامٍ وهدمٍ داخليٍّ كذلك. 

ومن أبرز الثقافات المعيارية وأهمِّها وأكثرها حيويةً، في زمننا هذا، الثقافةُ الإسلامية. لكنّها تحتاج إلى بلورة معاييرها على نحو التفصيل في القضايا المعاصرة[3]، وبشكلٍ يتلاءم مع الطروحات والمناهج التي تأتي بها الثقافة المفتوحة، كيما تتمكن من التعامل مع التعددية الثقافية نظريّاً وتطبيقيًّا، بما لا يضعها في خانة الانغلاق، ولا يذيبها في نظامٍ فكريٍّ مضطربٍ ومختلٍّ، وحتى نضوجِ المنهج المعياريّ سيبقى مفهوم التعددية الثقافية ذا دلالةٍ سلبيةٍ على المستوى التداوليّ الإسلاميّ.

ومن زاويةٍ أخرى، وفي ظل أحاديّة هيمنة الثقافة الغربية على سائر الثقافات الأخرى، وإن بتفاوتٍ تُغذِّيه حركاتُ المقاومة الثقافية والهويّاتية، يصبح لمفهوم التعددية الثقافية معنىً دفاعيٌّ، تحمله الهويّات المستهدفة في وجودها واستمرارها لتفرض التنوُّع مقابل أحاديّة المشروع الثقافيّ الغربيّ، الذي يشتغل على تحويل العالَم إلى سوقٍ يعجّ بزبائنَ ومستهلكين يميلون بالتدريج نحو اعتناق رموزٍ ثقافيّةٍ غربيّةٍ تطغى على جوانب حياتهم.

إنّ التعاملَ الموضوعيَّ مع مفهوم التعدديّة والمفاهيم المتفرّعة عنه والمستندة إليه جذراً واقعيّاً وعقلانيّاً، يحتاج إلى الخروج من حالَتَي الانغلاق. الأولى حالة انغلاق المستبِدّ إذْ يعمل على تخريب الثقافات الأخرى، ليتمكّن من نشر بذرةِ روح الاستهلاك، والثانية حالة انغلاق المستهدَف الخائف من التعامل مع ناتج ثقافة الغير. وخروج المستبد من انغلاقه يستدعي افتقاده لقناعة إمكانية السيطرة والاختراق حين يفتقر إلى الموارد والإرادة تاليًا، أما خروج المستهدَف فيحتاج إلى مشروعٍ منهجيٍّ معياريٍّ شاملٍ يستوعب ناتج الفكر الآخرَ ويطوّعه في خدمة رؤيته الكونية بالإجمال والتفصيل.

------------------------------

[1]- صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، سطور، 1999.

[2]- جيريمي ريفكين، عصر الوصول: الثقافة الجديدة للرأسمالية المفرطة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.

[3]- هادي قبيسي، المعايير القرآنية للعلوم الإنسانية، معهد المعارف الحكمية، بيروت، 2017.