-----------

القدوة، احتار ولا تختار!

{ د. حسان قبيسي }

القدوة، احتار ولا تختار!

من هو المراهق؟

المراهق هو النامي البشري الذي بلغ مرحلة المراهقة. ومرحلة المراهقة هي مرحلة انتقالٍ مهمةٌ في حياة الإنسان، يكون فيها الفرد أحوجَ ما يكون للرعاية والتوجيه والإهتمام، لأنها مرحلةٌ تتّسم بالقلق وبالصراع. فالمراهق في هذه المرحلة ينتقل من طفولته المبكرة والمتأخرة إلى حياةٍ اجتماعيةٍ واسعة النطاق، وتستيقظ لديه القدرات الجنسية الكامنة، وتتسع احتياجاته وعلاقاته الاجتماعية، ويزداد اهتمامه بالآخرين، وتظهر ميوله واتجاهاته نحو التوافق مع الجماعة أو الصراع معها، لتتشكل وفق هذا الصراع أو التوافق ميوله واتجاهاته وخصائص شخصيته، تبعاً للنماذج السلوكية والأخلاقية والاجتماعية التي يتبنّاها لبناء شخصيته وفقها، وهي نماذج تختلف وتتنوّع مصادرها تبعاً للوضع الأسريّ والإقتصاديّ والثقافيّ الذي ينمو المراهق في وسطه.

التربية والمراهق

يأتي الكائن البشري إلى هذا العالم وهو لا يمتلك أيَّ نوعٍ من أنواع السلوك الجسديّ أو العقلي أو الاجتماعيّ أو النفسيّ، إلّا ما وهبه الخالق من استعداداتٍ كامنةٍ، ومن سلوكٍ فطريٍّ يسدّ به حاجته إلى الطعام وإلى التبرّز. ويعمل المجتمع البشريّ على تحويل هذا المولود من كائنٍ بيولوجيٍّ إلى كائنٍ اجتماعيٍّ عن طريق التربية، وهي العملية التي يتمّ بواسطتها إكساب النامي البشريّ أنواعاً من السلوك، يتطلّبها عيشه في وسطٍ اجتماعيٍّ معين، ابتداءً من اللغة ومروراً بكلِّ النماذج السلوكية والتصرّفات التي تجعله حاملاً لهويّةٍ ثقافيّةٍ معينةٍ، وتجعله كذلك قابلاً لتلك الهويّة وساعياً للاندماج فيها.

وأثناء نموّه يمرّ النامي البشريُّ بمراحلَ، صنّفها المشتغلون بعلوم البيولوجيا والنفس والاجتماع، تبعاً لخصائص كلِّ مرحلةٍ وشروط النماء فيها. وتشكّل المراهقة المرحلة الأخيرة في سلّم المراحل النمائية، يكتسب النامي البشريُّ بعدها صفة البالغ، والعضو المكتمل في المجموعة البشرية الثقافية.

كيف تتم العملية التربوية؟

في العصور الأولى للبشرية، كانت التربية تتمّ عن طريق المحاكاة، أي تقليد الأهل في الأسرة. يرى النامي البشريُّ من حولَه كيف يتواصلون وكيف يأكلون وكيف يُلبّون كلَّ احتياجاتهم... فيقلّدها، ويتعلّمها. ومع تكوّن العشيرة أو القبيلة أضيفت إلى الأسرة مصادرُ أخرى يكتسب منها النامي البشريُّ أنواعَ السلوك، إذْ برز فيها أفرادٌ يقومون بأدوار أخرى غيرِ دور الأب أو الأمّ، كالمحارب ورئيس العشيرة والساحر.. وخلافهم من أفرادٍ شكّلوا نماذجَ سلوكيّةً يقتدي بها النامي البشريُّ.

ومع الأديان نشأت دُور العبادة، فراحت تعمل على إكساب المتعلِّمين، بشكلٍ منظَّمٍ، أنواعاً معيَّنةً من السلوك، عن طريق التعليم والتقليد.

في كلِّ هذه المراحل، كان النامي البشريُّ يكتسب أنواعَ سلوكه من محيطه الإجتماعيِّ المحليِّ. فالنماذجُ السلوكية التي يقتدي بها طوعاً أو قسراً، هي نماذجُ محليةٌ، همُّها تحويل الفرد إلى عضوٍ اجتماعيٍّ قابلٍ للجماعة التي يعيش وسطَها ومقبولٍ منها، من خلال تشرُّبه لأنواع السلوك السائدة وقابلاً لها ومتصرِّفاً وفقها.

وتعقدت الثقافة البشرية مع تعدُّد اللغات والأديان والتواصل بين الثّقافات وكذلك مع تنوّع العلوم والقيم وأنواع العيش وأدواته... فبرزت المدرسة، بأشكالها المختلفة، مؤسّسة تربويّة ضروريّة لاستمرار المجتمع البشريّ وتطوّره. ووجد النامي البشريُّ نفسَه يرتاد، وبشكلٍ منَّظمٍ، صفوفاً يديرها بالغون، معلِّم أو أكثر، ويتلقّى أنواعَ السلوك التي يتوجّب عليه تبنّيها من إدارةٍ ومعلمين وكتبٍ تترجم منهجاً تربوياً، هو إذا ما أردنا تعريفه، تلك الخطّة التي تضعها السلطة في مجتمعٍ معيّنٍ، وتتضمّن كلَّ أنواع السلوك التي تريد إكسابها إلى أبناء ذلك المجتمع، بهدف تحويلهم إلى أفرادٍ اجتماعيّين وفق نماذجَ سلوكيّةٍ وقيميّةٍ تراها ضروريّة لذلك المجتمع أو للسلطة التي تديره وهكذا أضيف مصدرٌ آخرُ للنماذج السلوكيّة إلى نماذج الآباء والبالغين ورجال الدين، هي نماذجُ المعلمين والنماذج التي تحتويها الكتب من قادةٍ ومفكِّرين وعلماء وأبطال روايات...

وبرزت بعد ذلك وسائل الإتصال، ابتداءً من السينما والتلفزيون، وصولاً إلى الإنترنت والهاتف الجوال... وتعقّدت الأمور إلى درجةٍ كبيرةٍ، إذ تضاعفت النماذج السلوكية التي يمكن أن يحاكيَها النامي البشريُّ، وبخاصةٍ المراهقُ. وتراجع نموذج الأهل أو المعلِّم إلى مرتبةٍ متأخّرةٍ من سلَّم النماذج التي راحت تحتلّ مراتبَ متقدمةً في التكوين السلوكيّ للمراهق. فقد تخطّت مضامينُ هذه النماذج الحِيّز الاجتماعيَّ الذي ينتمي إليه النامي البشريُّ، كما تخطّت المناهج التربوية التي كانت المدرسة تصرّ على إكسابها للمتعلمين فيها بشكلٍ منظَّمٍ وتراقبها من خلال الامتحانات والعلامات والعقوبات... ووجد المراهق نفســـه في وسطٍ لامتناهي الأطراف من أنواع النماذج

السلوكية العالمية دونما حسيبٍ أو رقيبٍ... يسافر وهو على كرسيّه أو في فراشه أو في ركن ما... إلى أصقاع العالم... وإلى أنواعٍ من النماذج السلوكية لثقافاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان... تقدم إليه من مواقعَ شديدةِ التنوّع والغايات.. تدعمها الصور والموسيقى.. مصحوبةً بالدعوات لتبنّيها على أنّها قمّة التقدّم والرقيّ... ومدعَّمةً بالجوائز تارةً، وبإثارة كلِّ أنواع الغرائز... تارةً أخرى!!

وهذا الواقع ليس وقفاً على المراهق وحده... فالأهل لم تعد تراهم إلّا وَهُمْ متسمِّرون أمام شاشات التلفزيون، أو هم يخوضون غمار شاشات وسائل الاتصال.. قلَّ الكلامُ بين الأهل وأبنائهم، وقلَّ التفاعل، وانزوى كلُّ واحدٍ في ركنٍ، لا يعلم به إلا الله عز وجل!!

ولم يقتصر الأمر على الأسرة، فالمعلم هو الآخر، تسمّر على كرسيّه في الصفّ وهو يعرض على طلابه صوراً وأفلاماً ومقاطعَ اقتطفها من مواقع التواصل وشبكاتها، يتصيّدها دونما رقيبٍ أو حسيبٍ، ودون مناقشة كيفية استثمارها أو تحديد أهدافها.

والخلاصة... عولمة تربويّة، ونماذج سلوكيّة ثقافيّة، لا هويَّة اجتماعيّة لها.. وتشتت وضياع قبالة تلك النماذج، تراجع دور الأهل التربويّ، وتراجع دور المدرسة!!

هل يعني هذا الكلامُ الإمتناع عن التعامل مع الثقافات الأخرى، ومع وسائل التواصل، وحجبَها عن المتعلمين، ومنعَ الناس عن استعمالها؟؟؟

أبداً... فالتخلّي عن وسائل التواصل الحديثة أمرٌ غيرُ ممكنٍ من جهةٍ، وغيرُ مرغوبٍ من جهة أخرى... فهي وسائلُ معرفيّةٌ وثقافيّةٌ هائلةٌ... المطلوبُ هو برامجُ تربويّةٌ للأهل أوّلاً، ثمَّ للمعلمين وللمراهقين حول كيفية الاستفادة منها، وكيفية تجنّب أضرارها. فكما أنّنا لا يمكننا أن نستغنيَ عن السيارة كوسيلة نقل، أو عن الدواء كعلاجٍ... إلا أنه من الضروري تعلم كيف نقود السيارة وكيف نتجَنّب حوادثها، وكيف نتعاطى الدواء، لأنه إذا ما استعمل بطريقةٍ خاطئةٍ سيكون قاتلاً.

على المؤسسة التربويّة الوطنيّة المركزيّة، وزارة التربية، أن تسارعَ إلى تطوير المناهج التعليميّة والبرامج المدرسيّة، لدراسة هذه المشكلة التربويّة الاجتماعيّة، وإجراء الندوات والمؤتمرات والحلقات الدراسيّة... لاقتراح أنجح الحلول لها، وبالتالي تعميمها على المؤسسات التعليمية، ليصار إلى مناقشتها مع الأهل ومع الطلّاب من كلِّ الأعمار، وبخاصّةٍ المراهقين منهم، للوصول إلى تبنّي بعض الخطط التربويّة الهادفة إلى الحفاظ على النماذج الثقافيّة الضروريّة للعيش الاجتماعي. دون أن يعنيَ ذلك تقوقعها وبالتالي تخلّفها، أو تفلّتها والانجرار مع النماذج السلوكيّة الوافدة.